الأيديولوجيّة اللويسية : من 11 سبتمبر إلى أحداث شارلي

“غياب الآخر هو تحديدا حضوره كآخر” إيمانويل لفيناس

ـ1ـ

مثلتْ أحداث شارلي إبدو أول فرصة دعائية كبيرة لحركة “بيجيدا” (وطنيون أوربيون ضدّ أسلمة الغرب)، منذ تأسيسها شهر اكتوبر الماضي في ألمانيا. أخذ تمدّدها في أوربا، خارج مهدها الألماني، يأخذ بعدا جديدا. هذا ما ظهر مثلا منذ الساعات الأولى للأحداث عندما أعلنَ ‘رنو كامي’، صاحب كتاب “الاستبدال الكبير”، عن مبادرته من أجل تأسيس نسخة فرنسية للحركة. فالأرضية الأيديولوجية التي تُمثّلها أساسا أطروحات بيرنار لويس عن أن “أسلمة أوربا” قد “اكتملتْ” مع نهاية القرن العشرين هي أرضية في توسع متسارع. وتتغذى يوميا كما هو معروف من مصادر بالغة التعدد (جيوستراتيجية، اجتماعية اقتصادية، إلخ) يتجسد أحدها بداهةً في السلوك الظلامي لبعض المحسوبين على الأقليات الإسلامة في أوربا. وهو سلوك يتمّ التركيز عليه واستثمار صورته الإعلامية بإفراط كما هو الحال في أطروحات “الاستبدال” (رنو كامي) و”أورابيا” (جيزيل لتمان) و”القارة المحتلة” (بريفييك).

ـ2ـ

سمحتْ كما هو معروف أحداث 11 سبتمبر بنقل “أطروحات” بيرنرد لويس عن الإسلام من أروقة بعض شبكات النفوذ في الإدارة الأمريكية إلى مستوى الشعارات الكونية. فلويس يباهي بأنه أمضى كل سنوات الحرب الباردة يشرح مقولة صدام الحضارات قبل أن تسمح نهاية هذه الحرب لتلميذه سمويل هنتغتون بنقلها منذ أواسط التسعينات (عبر مقاله ثم كتابه الذين يحملانها كعنوان) إلى فضاء السجالات السياسية والإعلامية. ثم حمَلها 11 سبتمبر إلى مستوى المفردات الصحافية المعمّــمة كونياً.

ـ3ـ

لم يبالغ إدوارد سعيد حين وصف بيرنرد لويس بأنه يجسد الصورة الْحَدِّيَّةَ للمستشرق المؤسِّسي. أي أنه يمثل، نموذجيا، حلقة الوصل في مسألة الإسلاموفوبيا بين المؤسّسة الأكاديمية والمؤسّسة الإعلامية والسّياسيّة. هذه الوظيفة المزدوجة للويس جعلتْه يعمل على صياغة تمتطي التاريخ لـتؤسس لـلإسلاموفبيا من خلال اعتباراتٍ سردية تُجَوْهِرُ الصراعات السياسية القائمة في أفق تبدو فيه المعطيات الصِّراعِيّة أبديَّةً سرمديّة.

من هنا تنبني رؤيته على أن مختلف حركات التحرر من الاستعمار ومختلف الصراعات المرتبطة بها تالياً كالصراع العربي الإسرائيلي ليست إلا جزءاً من مسار طويل من المواجهة بين أوربا والعالم الإسلامي، مصدرُه وأصلُه صراعٌ الإسلام والمسيحية وعنوانُه صدام الحضارات. وهو ما يعني بالنسبة لـلويس بصراحة أنه يلزم فهم الصراعات الحيوستراتيحية كتجلٍ لصراع ديني : “إن ضغائن شعوب الشرق الأوسط حالياً يمكن فهمها أكثر إذا لوحظ أنها ليست ناتجة عن صراع بين دول أو أمم ولكن عن صدام بين حضارتين. لقد بدأتْ مع تدفق العرب المسلمين تجاه الغرب واحتلالهم لسوريا وإفريقيا الشمالية وإسبانيا المسيحية، أي ما يسميه جيبون الجدل الكبير بين الإسلام والمسيحية.”

ـ4ـ

يريد لويس إذاً أن يؤسس لبداية مطلقة. وهذه البداية ليست فقط ظهورَ الإسلام ولكنّها أيضا الإسلام منظورٌ إليه ككُتْلَة سياسية أحادية. تسمح هذه النظرة للويس بتشكيل ما يمكن أن نُسمّيه بِغَيْرِيّة مفيدة، أي قابلة للاستثمار والتّوظيف على الصّعيد الإيديولوجيّ. لا تصْبح العلاقة الاستعماريّة فقط استمرارا وصدورا عن المركزيّة السّياسيّة والاقتصاديّة لأوروبّا الغربيّة كما تشكّلت منذ أواخر القرن الخامس عشر، ولكن تصبح تَمَفْصُلا مفهوما أو مُبَرَّرا في مسار طويل مرتبط بالعلاقة مع الإسلام منذ وُجِد. يصبح الإسلامُ نفسه، أي الإسلام كدين وثقافات وحضارات إلخ، ذاتا لا تقبل التعريف إلاّ سَلبا عبر الذّات “الغربيّة” نفسها : ” الإسلام الذي هو ضعيف منذ قرنين ظل دائما يبحث عن ما يعينه على مكافحة عدوه: الديموقراطية الغربية. وقد أيد في البداية قوى المحور ضد الحلفاء، ثم أيد بعد ذلك الشيوعيين ضد الولايات المتحدة وكانت نتيجة ذلك كارثتين.”

ـ5ـ

ما المقصود بالإسلام الّذي أَيَّد في البداية قوى المحور ؟ واضح أنّ المقصود هو مُجْتَزَأٌ ما ( الموقف العثمانيّ الرّسميّ مثلا في أحد مراحله ) ينسجم مع الشّكل الثّابت الّذي تَصُوغه وتُصادِر عليه تزامُنِيّا الأيديولوجيّة اللويسية. هكذا يصبح ما يسمِّيه الإسلام قد أَيَّدَ قوى المحور خلال الحربين وأيَد الشّيوعيّين ضدّ الولايات المتّحدة خلال الحرب الباردة. يمكن إذا أن يكون الْمُجْتَزَأُ في مرحلة ما موقفا عثمانيّا كما أن يمكن أن يصبح في مرحلة لاحقة القوى اليساريّة نفسَها الّتي ناهضت السّلطات العثمانيّة. يتعلّق الأمر هنا بروح هِيجِيليّة تتقمّص حسب المراحل قوى متناقضة.

بهذه المعنى تصبح العلاقات العدائية غير قابلة للتّجاوز. يتمّ اقتلاعها من التّاريخ وتوظيفها في صياغة الذّات “الغربيّة” أو “الاسلامية” كسرديّة مؤسِّسة للهوية. تصبح هنالك حتميّة ثقافيّة ودينيّة مُعادية للغرب، وبالتّالي خارجَ حقلِ مسؤوليّته ومحدِّدة في نفس الوقت لهذا الحقل، بل محدّدة لماهية الغرب بشكل عامّ. يسمح ذلك باستنفار الصّور النّمطيّة الأكثر قِدما وظلامية.

ـ6ـ

ثمّة إذاً عمليّة إبعاد أو إقصاء تسمح بأن يُنظَر إلى مَن تطلَق عليهم صفة المسلمين في مثل هذه المفردات ليس بصفتهم أفرادا ولكن بصفتهم كُتَلا بشريّة مجرَّدة غير قابلة للتّمييز، كتلا تُجسّد “الغير”. وهذا “الغير” إن وُجِد داخليّا فهو يمثِّل مُلحَقا مزروعا غير طبيعيّ، يمثّل عدوّا داخليّا. لا يمثل الأمر بالنسبة لعمل بيرنرد لويس “البحثي” جهدا وصفيا تحليليا بالمعنى العلمي وإنما مشروعا معيارا بالمعنى السياسي التعبوي :” لقد بذلتُ جهدي في أن أرفع مستوى الصراعات في الشرق الأوسط التي كثيراً ما يُنظر إليها على أنها شجار بين دول، إلى مستوى صدام بين حضارات”.

ما الغاية الأيديولوجيّة من هذا “الجهد”؟ وما الّذي يمكن أن يخوّله على مستوى النّجاعة التّعْبَوِيّة لتيارات بالغة التعدّد ؟ لنحاول الاجابة في حديث لا حق.

محمد بدي ابنو

* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

beddy.iese@gmail.com

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى