الظاهرة محمد ولد أحمد يوره

إذا كان الشعر الحساني للعلامة الشاعر امحمد ولْ أحمد يورَ يُعطي فيما يعطيه خريطة جغرافية مفصلة لمناطق واسعة من بلاد الترارزة وما جاورها، فإن شعره الفصيح يعطي صورة حية عن العصر الذي عاش فيه، بكل تفاعلاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأدبية، حتي إننا لا ندخل في حيز المبالغة إذا ما وصفناه بأنه كان شاهدًا على عصره، ففي الجانب السياسي المحلي تجده يتغنى شعرًا بموقف أبناء مجتمعه أنداك الرافضين للاستعمار الفرنسي أول ما دخل إلى هذه البلاد وهو موقف اتصف على إثره امحمد بصفة السجين السياسي أياماً في المعتقل الاستعماري بالمذرذرة، رمضان سنة 1908 :

يروم الرُومُ إذلال الـــــكرامِ ……… وإعزاز الأراذل واللــــــــــئام

ولمْ أر من أمور الروم أمـــرًا …….. كتجهيز الخـــــيام من الخيــــام

فكمْ رامـــوا الطعام بلا ظهورٍ ……. وكم راموا الظــــهور بلا طعــــام

وكم راموا نقيصة ذي تـــمامٍ ……… ويأبـــــى الله إلا بالـــــــتمام

وعلى نطاق أوسع لم يكن امحمد بالغائب عن الأحداث الدولية الدائرة آنذاك، ففي أثناء الحرب العالمية الأولي تراه يقرض أبياتا يشجب فيها موقف الدولة العثمانية وسلطانها: محمد رشاد الخامس، وكأنه يتكلم بلسان حال المواطن العربي الثائر على الحكم العثماني الساعي آنذاك للتحرر من سيطرة الرجل المريض التي عانى منها لمدة قد تقارب الأربعة قرون:

لقد وثب التركيُ للحرب ضـــــلةً ……. وُثوب مُريــــدٍ للفـــساد مــَــــريدِ

وقد بان أن التُركَ ليـــست رشيدةً ……. وليس رشادٌ خامـــــــــــسٌ برشيد

ومن الطريف انه ‏‏اتفق مرةً في أيام الأمير اعل ولد محمد لحبيب أن عُدِم القمحُ في السنغال فكان الخبازون يلجؤون إلى زرعٍ أسودَ يُدعى السويد بالتصغير فيأتي خبزُهم أسودَ كلون أصله، ومن المعروف أن الأ ميرَ إعْلِ كان أسودَ البشرة بسببِ خؤولته من ملوك النهر، فأمه: إچنْبتْ مَلِكَة والو الشهيرة، وكان امحمد، يومها جنوب النهر فلمْ يسمحْ له حِسُّهُ التراثي والتاريخي والأ دبي إلا أن يسجل كل ذلك، فقال مُتغزِّلا :

يا حبَّذا سوداءُ ذاتُ مَلاحةٍ…..في الحُسنِ ليس لها شبيهٌ يُوجدُ

لا تحسبوا ذاك السَّوادَ يضُرُّها….. فالخُبزُ أسودُ والخليفةُ أسودُ

وكان امحمدْ مرَّةً في مدينة سينلوي التي ارتادها كثيرًا وكان الزمن زمنَ وباء ألزمت فيه الإدارة الفرنسية آنذاك الناس حُقنةً (شرطة) تفاديًا لعموم العدوى، وكان صاحب محطة القطار (الڭارْ) بالمدينة يعاين ذراع كل راكبٍ قبل صعوده حتى يرى أثر الحُقنة في جسده.

وكان البُداةُ الموريتانيون حينها إذا لقي أحدُهم من تناول الحقنة أخذ شوكة وغمسها في محل حقنة صاحبه ثم حقن بها نفسه ظناً منهُ أن ذلك يكفيه. فقال امحمدْ مخاطبًا صاحب المحطة مُستحضرًا رصيده الأصولي والمنطقي :

يا صاحبَ الكار لا تتعبْ بلا سَببٍ …. فَفاقدُ الشرطِ لا يأتي بمشروطِ

والنّاسُ ما بين مشروطٍ مُباشرةً….. أوْ آخذٍ شرطةً مِنْ عِندِ مشرُوطِ

وقد نالت الظواهر الجوية والأحداث الطبيعية في ديوانه نصيبا ليس بالقليل، فيقول مسجلا وواصفا إحدى ظواهر الكسوف التي كان لها وقعٌ كبيرٌ في نفوس أبناء ذلك الزمن المستحضرين للآخرة وكل ما يُذكر بها:

الشمسُ مُخضـــــرَةٌ في زٍيٍ مِرآة …… والجوُ فيه احْمرارٌ قطُ لمْ ياتــــِــــي

إن لمْ يكنْ من علامات القــــيامة ذا …… فإنــــــــه من علاماتِ العـــلاماتِ

ويقول علي وجه الاعتبار في داءٍ أباد البقر سنة 1309 هجرية، يعرف محليا ب(بُمُرارَ) :

أرَي الدُنيـــا معظمُها حقـــيرُ ….. كما أن الغَنِيَ بـها فقــــــيرُ

كفا وعظًا لداري الوعظ فـــــيها …… أبو مُـــرارةَ العـــادي المغيرُ

وإِصباحُ الجَـــــداولِ مُترعاتٍ …….. زُلالاً ما يُسرُ بــه البَقـــــيرُ

وإِعجابُ الوَقيـــــرِ وما حواهُ ………. لمن قدْ كان يُخــجلُهُ الوقــــيرُ

وإذا كان امحمد قد سجل عبر مراثيه وفيات أعيان العلماء والأدباء في هذه الربوع من أمثال الشيخ سعد أبيه بن الشيخ محمد فاضل والعلامة الأديب محمذن بن علي الأبهمي والعلامتين البراء بن بكي ومحمذن بن بابكر بن احجاب الفاضليين والعلامة المختار بن الما اليدالي، فإنه يذهب جنوب النهر ليسجل وفاة الأديب والشاعر السنغالي الأندري مالك سيسَ المعروف ب(ماجُورْ سيس)

يارحمة من ربنا المالـــكِ ……. جُودي علي قبر الفتى مالكِ

جُودي على قبر فتًي ماجـدٍ …….. كالشافعي في العلم أوْ مـالكِ

مُبدى خفايا العلم من سترها ……… جالي دياجي ليلها الحالــكِ

إن كان في زماننا ناســكٌ ………. فأنت عين الناسك السـالكِ

هلكتَ والمُبقي جميــل الثنا ………….. بين البرايا ليس بالهالـــك

ولكنه أيضا يدون في شعره وفاة الفناة الشهيرة: فاطمة السالمة بنت البُبَانْ دفينةِ تِنْدكصالَ

يا روضةً عندَ تندكصالَ حُيــــِيتِ ………. ومن أذًي وصدًي في القلبِ نُـــــــــجِيت

يا ذاتَ صوتٍ وصيتٍ عندَ فقدهما ….. لم يبق في الحَــيِ منْ صوتٍ ولا صــــــيتِ

وبحكم مكانته الأدبية، يؤدي شهادته على أشعار معاصريه مشتكيًا برودتها في قطعةٍ، ناقدًا ما دأبوا عليه فيها من إطالة في النفس وإغرابٍ في الألفاظ في قطعة ثانية، محذرًا من اجترار المعاني القديمة المطروقة في قطعةٍ ثالثة فيقول في الأولي :

أشعارنا أهل هذا العــصر باردةُ ……… لمْ تُشوَ شَيًا ولمْ تُطـــــــبخْ بأبــزارِ

لوْ أنهمْ أحضرُوني شأنها وُضِعتْ …… مِنْ بعدِ ما مُلِـــــحتْ شيــئًا علي النارِ

ويقول في الثانية :

أيا أيها الشُـعرورُ لا تكُ ناطــــــقًا ……… بشعرٍ ينِي عن فهمِه المــُـــتنــاوش

ولا تُطلِ الأشـــعارَ في غيرِ طائلٍ …….. فشرُ القريـض الطائلُ المُـتـــــــفاحشُ

ولا خيرَ في شِعرٍ يَعـزُكَ فهمـه ……….. إذا هوَ لمْ تُوضعْ عــــــــليهِ الهوامــشُ

بينما يقول في الثالثة:

أبناءُ ذا الدهرِ لي عن شعـرهمْ أنفٌ ……… حتي يكون – وأنَّي- روضـــةً أنفــا

كمْ كِلمةٍ لِيَ في الأحشاءِ مودعــةٍ …….. لا أُودعُ الصَحبَ معناها ولا الصُحــــفا

وكمْ عفوتُ عن الجاني وقلتُ لهُ: …….. إن الجفاءَ جديرٌ بالــــذهابِ جُــــفا

لا يُعجِبنَّك إلا قولُ نابـــــغةِ: …………….. يا دارَ ميَةَ أو قولُ الضّـَليلِ: قــــــفا

وتراه ينوه بالحركة العلمية التي بلغت أوجها في ذلك العصر كقوله في تأليف عمه وشيخه العلامة لمرابط ببها: دمية المحراب في المهم من التصريف والإعراب:

حَبــَتِِ المُطالع دميةُ المحرابِ ………. بنوادرِ التصريفِ والإعرابِ

ما دُميةُ المحرابِ بلْ حاشي لها ….. في الحُسنِ إلا دُميةُ المحرابِ

ويقول في تأليف للعلامة سيدي أحمد بن الصبار المجلسي من أبيات :

فاق التصانيفَ تصنيفٌ أتيتَ به ……… بين التصــــانيف مفهـــومًا ومنطوقا

والمرء يأتي بما قد فات تكملةً ……. بعد الإمامِ إذا ما كان مــــــــسبوقا

وفي جانب آخر من ديوانه تلقي ولادات الأطفال من حوله طريقها إلى التسجيل كقوله مُدللًا مولودًا لصديق له اسمه: مولودْ:

أدخلتُ في جيب طه ثمَ مَن نُــــــودي ……… مِنْ جانب الطــــــــــورِ مولودًا لمولودِ

ما قِيسِ مولودُ بالفتيانِ قطُ ومــــــا ………….. يُقاسُ مـــــولودُ مولودٍ بمولـــــــودِ

وفضلا عن كل ذلك، يتحفنا امحمد بمراسلات قصيرة في شكل لقطات من حياته، تارةً في مجلس غناء يمتزج فيه الطرب بالشوق :

تضاعفَ وَجدي حيــن قالت فرددتْ ………. دعوناك مولانا بأسمائك الحُسني

فلما رأتْ وَجْدي تضــاعف أنشدتْ …………. لِتُذهِب عنا الهمَ والغم والحزنا

برناتِ لحنٍ مَعبديٍ لعلـــــــنا ………….. نكونُ من الحُسني بِهنَ إلي الحُسني

ومرةً في مدينة سينلوي مترددا على بيوتات من مشاربَ مختلفة :

لولا الإله لما قلــــَلــتُ إتيانا ………. بيتِ الشريفِ و بيتِ الخـودِ : دَيَانا

فبيتُ ذا بظريفِ الشِعرِ أضْحـكنا ……. وبيتُ ذي بثقيلِ الشــوقِ أبكانا

وتارةً أُخرى في مجلس أدب بالبادية يتناشدُ فيه الأشعار مع بعض ظرفاء وأدباء ذلك العهد على غرار صديقه الشاعر لكبيدْ بن جِبَ التندغي :

وإن أنسَ مِ الأشياءِ لا أنسَ ليلةً …………. سقانا بها لكبيدُ من شعره صرفَا

فتيً ماجدٌ حُلوُ الفُكــاهة طيبٌ …………….. أديبٌ مع الجُلاسِ ما يمرڭُ الحرفا

وإن أنبتتْ أقوامهُ كُلَ ڭُــفةٍ ………………….. تراهُ قصيرَ الرأْسِ ما يُنبتُ الڭُفــــا

وإن حَفتِ الاقوامُ بينَ غُيودهمْ ……………. فلِكبيدُ بين الغيدِ والله ما يَحْـــــفَي

وبالرغم من هذه المواكبة الظاهرية لمجريات الحياة في عصره، فقد كان امحمدْ رجلَ حقيقةٍ شرب كاساتِ خمر السر حيثما أُدِيرتْ ولعل في أبياته التالية إشارةٌ منه لما نقول :

لا يذْهبنَّ بكَ الخــيالُ الـــــزائــرُ ………. في الليلِ يُلفَي والخــــــــليطُ السائرُ

والظبيُ يُوصفُ كُلَ وصفٍ رائـــــقٍ ………. والدُورُ تُندبُ والرُسومُ دَواثــــــــرُ

يُبدي البليغُ صبابةً في شِــــــعره ………… وللهُ أعلمُ ما أرادَ الشــــــــــــاعرُ.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى