باريس واعتذار ريتشارد

الجمعة 8 يناير. 48 ساعة بعد اغتيال صحافيي شارلي إبدو. القطار يتجه من ابروكسيل إلى باريس. لم ألاحظ أي إجراءات أمنية خاصة. الناس في هذا القطار كما هم عادة. مزيج من الهدوء والقلق الصامت. مع ذلك فنظرة سريعة إلى أطراف المقاعد تكشف أن جزءا كبيرا من المسافرين يتابعون مثلي، عبر سماعات الهاتف أو الكومبيوتر، المطاردات التي ماتزال مستمرة في باريس. سنصل في فترة الزحمة وفي هذه الظروف. متأكد تقريبا من استحالة وصولي في الوقت. غير أنّ القطار وصل دون تأخير ولم تكن في المحطة إلا الزحمة التقليدية في هذه الساعة. الناس تتحدث عن المطاردات والتطويق الأمني شرق وجنوب باريس ولكنها مقبلة على حياتها. عندما وصلتُ إلى موعدي في شارع (مارسو) أختلف الأمر. كان هنالك عدد من الصحافيين من جنسيات مختلفة في حالة هياج كلي. بين الهواتف وشاشات التلفزيون والمراسلات. لم تمض إلا دقائق قليلة حتى أُعلن عن النهاية. نطقتْ الأسلحة. سألني أحد الأصدقاء عن انطباع من التقيت خارج فرنسا. قلتُ له إن الناس لديها ربما صعوبة في تصديق السردية المتداولة عمّا يحدث في باريس. كاد أحد الإعلاميين بجنبي أن ينفجر غضبا.

-2-

في اليوم الموالي لاحظتُ أن حالة الهياج الإعلامي بدأتْ تنعكس على السلوك في بعض الأماكن العامة، خصوصا في المقاهي. لم تكن ردّة الفعل على الأحداث بالضرورة عدوانية. الناس أصبحوا أكثر رغبة في الكلام، يتحدثون عن غير سابق معرفة حول ما حدث. الروائية (فيرجني ديبانت) كتبتْ بذكاء أنها في مرحلة أولى شعرتْ أنها تحب الجميع وتريد أن تُعبّر عن حبها للجميع لأنهم على الأقل مازالوا هنا. أحبّتْ حتى العنصريين والقتلة. وتماهت مع الكل، مع المجتمع ومع من يخرجون من قاعه وهم يحملون السلاح ضدّه : “يومان كثيفان هكذا. من الحب الكلي” (Les Inrocks, 17/01/2015).

شيء من هذا بدا ملموسا في ردود الفعل، في الابتسامات، في التساؤلات. مقاهي باريس مولعة بالنقاشات السياسية لاسيما في مثل هذه الظروف.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

ـ3ـ

“جيسن ستانلي” شاب يعمل أستاذا للفلسفة في جامعة (يال) الأمريكية. ألّفَ كتابا تحت عنوان “كيف تشتغل البروبغندا؟”. تلك المصادفة الأولى. أما الثانية فأنه قدم إلى باريس يوم 7 يناير وهو متحمس لإلقاء سلسلة من المحاضرات في الفلسفة. إلى ذلك نزل غير بعيد عن المنطقة التي ستشهد أحداث شارلي إبدو دقائق بعد وصوله. ربما حفّزتْه هذه المصادفات على الاهتمام بالموضوع من زاوية خاصة. يقول عن وضعه الشخصي إنه “يهودي من نيويورك” وكثيرا ما نُظر إليه في أوربا، “بسبب اللون الداكن لشعره ولعينيه، كشخص ذي أصول عربية”. في الساعات الموالية حاول (ستانلي) أن يلخص مشكلة شارلي إبدو للقارئ الأمريكي. هل السخرية من السلطة أساسية في نظام ليبرالي يُفترض أنه مبني على مبدأي الحرية والمساواة؟ إذا كان الجواب بنعم فالمسلمون لا يمتلكون سلطة روحية مهيمنة في فرنسا : “هنالك فرق بين الكاثوليك والمسلمين في فرنسا لأن الكاثووليكية هي “التقليد الديني المهيمن بين المواطنين الفرنسيين” (New york times, Ja 8, 2015)

ـ4ـ

مساء الأربعاء 7 يناير، ساعات بعد حادثة الاغتيال، نجح الإعلامي “أدفي بلينيل” في أن يرتجل ندوة جمعتْ أبرز المؤسسات الإعلامية الفرنسية (حدود الثلاثين) وبُثتْ مباشرة على موقع: (ميديا بارت). تميزتْ الندوة بمستوى كبير من الصراحة وتعدد الآراء. انتقد بعضُ الصحافيين الخط التحريري لـ(شارلي إبدو) واتهموها ضمنيا بالعنصرية. آخرون دافعوا عنها. واختار البعض التعبير عن تحفظهم في الموضوع.

كان واضحا تخوف “ادفي بلينيل” من تحويل حادث الاغتيال إلى موسم للدعاية الاسلاموفوبية. مبادرته تهدف إلى استباق التداعيات الممكنة. ولكنْ شيئا فشيئا بدأ الضخ الإعلامي يمارس مهمته التسطيحية. وبدأت اللوبيات الإعلامية تستثمر فرصتها الذهبية عشية مظاهرات السبت. تضاعف مرّات ما كان صاحب كتاب “من أجل المسلمين” يدينه عشية الاغتيالات.

ـ5ـ

إحدى النقاط الأساسية التي لاحظها بدقة (جوستاف لبون) في كتابه الكلاسيكي “سيكالوجيا الحشود”، ولم يزدد بعده علم النفس الاجتماعي منذ قرن إلا تأكيدا عليها، هي انهيار العقل النقدي أمام الاندفاع الجماعي. الإثارة، الصور الصادمة، الانطباعات، الإنفعالات تتحول لدى من ينخرط في أي اندفاع حشودي إلى هياج يعطّل العقل وحسّه النقدي. أغلب الأفراد بغض النظر عن مستواهم الفكري ويقظتهم النقدية ضحية سهلة لهذا الهياج. خصوصا مع تزايد الوسائل الفنية منذ ظهور الإذاعة قبل أكثر من مائة سنة إلى ثورة وسائل التواصل الاجتماعي الحالية.

(فرجيني ديبانت) تقول بتهكم إنها تريد تصفية حساباتها مع الرجال. . فهُمْ المسؤولون عن حروب العالم. لماذا التصفية الآن؟ لأنه “لكلِّ هواجسه المرضية ” ولأن البعض يريد أن يستغل الفرصة لتصفية حساباته مع المسلمين. بالمناسبة لم يكن تماما ساذجا الصحفي الانجليزي الذي ردّ على أحد مستميعه (اسمه على ما أذكر ريتشارد ) أنه إذا كان على كل مسلم أن يعتذر عما ارتكبه فرد مسلم آخر فعلى كل من اسمه ريتشارد أن يعتذر عما ارتكبه شخص آخر اسمه ريتشارد. هنالك أسماء كثيرة من الجنسين مرشحة إلى جانب الاسم الأخير.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى