“بيظان” الهامش أو ما تحت الخط الأحمر

إذا كانت تراتبية مجتمع البيظان و تقسيمته الطبقية و الهرمية الصارمة تعكس واقع حياته التقليدية و ثقافته التفاضلية المستمدة جذورها الظالمة من زمن ما قبل الإسلام وتوزيع الأدوار على مختلف شرائحه التي رتبها مجافيا فيها الإسلام و عدالته و سماحته إلى الزوايا أو الطلبة والعرب أو حسان و هما أكبر مجموعتين على رأس الهرم للتسلط بقوة القلم و السلاح على شرائح القاعدة من التوابع متمثلين في “آزناكة” و “إيكاون” و “لمعلمين” و “العبيد و لحراطين” و كل أسند وظيفة يزاولها في هذا النظام المجتمعي القبلي.
و على الرغم من حصول البلاد على الاستقلال و دخولها عهد و عهود و معاهدات النظام العالمي الجديد الذي غيرته الثورات التحررية و نقته الأيديولوجيات بمقاصدها الإنسانية و تفشي الصناعة على نطاق عالمية و روافدها من التجارة و التبادل و التعاون و التحاور بلغة المصالح، فقد ظلت موريتانيا في هذا المنحى المتجاوز ـ مثلها مثل بعض البلدان القليلة عبر العالم ـ تتخاطب بمنطق اعتماد التمايز و التفاضل في الحضور و النفوذ و الملك. وهو أمر لم تستطع الدولة الحديثة منذ نشأتها مع دخول الاستعمار الفرنسي و إرهاصات المشروع “الكبولاني” و بعد استقلالها في الـ 28 نوفمبر من العام 1960 و تطبيق أولى مظاهر و مفاهيم الجمهورية السامية على أرض “السيبة”، أن تقضي عليه وإن بموجب عدم ملاءمته لهذه المفاهيم حوصر التعامل به في العلن و حملت بالنصوص و المواد الدساتير و من قبلها المواثيق و المعاهدات شجبه و رفضه و محاربته و إعلان مساواة كل أفراد الجمهورية على كافة ترابها الذي أصبح مرسوم الحدود و معلومها.
و لإن كانت مشكلة الرق ما زالت ماثلة في الواقع أو فيما يسميه البعض هربا من مواجهتها بـ”المخلفات” و ذالك من وجهة نظر عديد المهتمين و المتابعين و الباحثين أمر أقبح من عذر، فإن داخل مجتمع البيظان المنقى منهم و من:
· “آزناكة” الساكتين خجلا على تهميشهم و إقصائهم من مراكز النفوذ و القرار، طمعا في أن يعفوا من تسميتهم و وصمهم علنا باللحمة أو آزناكة و ما تحمله هذه المسميات من الازدراء و النظرة الدونية، في ستر التحول الذي يشهده المجمع،
· “إيكاون” الذين لا يحركون ساكنا ضد تهميشهم و إقصائهم و نعتهم بصفات الطمع و الجشع و الابتزاز مقابل مكانة مادية مريحة بدأت تتقلص في ظل دخول فاعلين جدد على خط الموسيقى و الطرب،
· “لمعلمين” أو “الصناع” الذين بدؤوا مؤخرا ينتظمون في حراك و يعلنون رفضهم للتهميش و النظرة الدونية و الوصم بصفات النفاق و التملق و الوشاية و البخل و الجبن،
فإن “بظان الخط الأحمر”، داخل مجموعتي الزوايا و لعرب النافذتين و القويتين، أشد فقرا و أكثر تهميشا و أضعف حيلة إلى الجاه و النفوذ و المال على الرغم من أعدادهم الهائلة. و إذ وضعهم ليس جديدا إلا أنه أصبح مقلقا و لا أحد يلتفت أو يطلق صرخة. و تعود الأسباب في ذلك إلى أن الواقع القبلي تحول منذ الاستقلال إلى واقع أرستقراطي كرس النفوذ في هاتين المجموعتين في أيدي أسر معدودات تحكم بشرعية امتلاك قرار الحرب عند “لعرب أو حسان” و قرار “الشرع الديني و حكم القضاء” عند “الزوايا أو الطلبة”. أمر مقضي أخذت به السلط المتعاقبة و المشكلة في تركيبتيها المدنية و العسكرية من المنحدرين من هذه الارستقراطيات الأسرية القبلية. و أما السواد الأعظم في قاعدة الهرم “الخوفي” فقد استسلم لا شعوريا و تحت مخدر الإنتماء القبلي و ما يمليه من اعتزاز و غيرة و لو بهوان النفس و تهميشها كما هو الحال و المآل لا نزعة تنبه إليه و لا إرادة تسعى لتغييره. و في واقع الأمر أن هذا الوضع غير خاف و يتم تداوله بكل بساطة بعد جلسة كل مجلس للوزراء أو استحقاق سياسي أو جلسة موسيقية أدبية على شاشات التلفزيون عبر أثير الإذاعات. يتم تداول أسماء أفراد الاسر الارستقراطية المضبوطة النسب و السلالة و المحفوظة المكانة و الجاه و كأنه ذكر للقبيلة كلها و الأمر غير ذلك في واقع الحال. فما أكثر “البيظان” المقهورين، المظلومين، المحرومين، المهمشين لا يملكون قوت يومهم و لا وسيطا يؤمن لهم عملا أو تقدما أو رتبة أو حماية حتى باتوا المتهمين من “لكور” و “لحراطين” و “لمعلمين” و “إيكاون” و “منظمات حقوق الإنسان و “المجموعات الدولية” و “مطرودين” من رحمة قبائلهم التي كانت ـ و إن في جاهليتها أيام السيبة تظلم الآخرين بقوتي القلم و السلاح ـ تعتد بهم، تؤويهم و تقاسمهم مغانمها.. فمن يرفع النقاب عن معانات هؤلاء “البيظان” على الهامش أو ما تحت الخط الاحمر و يصدح بصوت مسموع باسمهم و ينادي بانتماء كل الموريتانيين لدولة المواطنة؟

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى