سنة التعليم / المختار محمد جيرفين

لم يكن الرئيس الموريتاني على دراية كبيرة بجميع معانى “السنة” حين وصف عام 2015 بأنه سنة للتعليم، ولا غرابة في ذلك فالرجل لبث فينا بضع سنين ولم يهتم يوما بمعاني المفردات، ولم يحس بعدُ أن الناس يعانون من الشدة والألم وغلاء الأسعار، ومرض جنون البقر والحمير، وحتى جنون البشر، فزادت المحروقات ورُفع الدعم عن السلع والبضائع الأساسية، ولُعب بمقدرات الشعب بالتضامن مع التجار، فأُخذنا بالسنين ونقص الأموال والثمرات، مما أدى إلى نضوب القريحة وصلود الزند، فتوقفت الأقلام عن ذرف الدموع على واقع التردي والتقهقر والجمود، وكأن القوم ضُرب على آذانهم في كهف القمع والكذب والخداع عدد سنسن.

تجاوز عمر التعليم النظامي في موريتانيا سن الرشد، ولم يصل بعدُ إلى طريق الرشد وسبيل الإصلاح، وكأن الإرادات السياسية المتعاقبة لا تريد لهذه الدولة الفتية أن تبلغ شأو مصاف الدول المتقدمة فنراها تخرج من إصلاح إلى آخر، ومن فساد إلى فساد، والمواطن المسكين يموج بين رغبته في تربية وإصلاح أبنائه، وبين واقع التعليم المزري وسياساته الطائشة والمتخبطة في كثير من الأحيان.

فكم سنة يحتاج هؤلاء حتى يقتنعوا أن مصير الوطن مرتبط بالتعليم، وأن التعليم مرتبط بالإصلاح، وأن الإصلاح مرتبط بالإرادة الجادة لا بالشعارات وانتهاز مواسم المزاج العابرة عبر فوهات الرؤوس الفارغة إلا من تحصيل لدولارات شاردة، أوكسرة خبز قامعة في صندوق أرملة تخبئها لليوم الأسود القادم.

فلتحدثنا الحكومة إذا عن مشاريعها الطموحة لإصلاح التعليم، وعن السياسة التي تتبعها في تحقيق هذا الهدف النبيل، فكلنا آذان صاغية وأيد طائعة مستعدة للتعاون، لكن من واقع الخبرة المحدود أكاد أجزم أننا لو قضينا ألف سنة إلا خمسين عاما لما تلقينا إلا إجابات لاكتها ألسن السياسيين ومجتها أفواه من سبقهم؛ لأن الأمر ببساطة ِشديدة لا يتعلق سوى بمجموعة من الموظفين المهمشين والمحرومين تعودوا على الفتات وبقايا الزاد الملطخ بأيدي العابثين، وبناء مجموعة مدارس في الأرياف والفيافي لأرضاء بعض الزعامات الشاردة في الزمان والمكان، وتقاسم العائد من حملة سنة التعليم، ولعل المستفيد الأكبر منها سيكون “المقاول” لا “المدرس” وكأن محور التعليم يقوم على خلط الحديد بالإسمنت.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

في حديث عابر مع بعض الأساتذة قال أحدهم أن ما نسمعه اليوم من دعاية أن السنة سنة تعليم ما هو إلا صرف للأنظار عن المآسي التي يعاني منها القطاع، وأن الوصف الملائم هو أنها سنة إهانة أهل التعليم. وبعد تفكر وتأمل وجدت أن الأمر كان على ما وصف فبالرغم من أن هذه السنة لم يمض منها إلا القليل إلا أن ما شهدناه ينذر بفشل ذريع لهذه المبادرة الحسنة.

فالمتتبع للإعلام في هذه الأيام يسمع عن أحداث هنا وهناك، تخدش من كرامة وعزة هذه المهنة؛ فمن اعتداءات على الأساتذة جسديا وجرح لبعضهم في مواجهات غامضة، إلى تأخير متعمد أو غير متعمد لعلاواتهم الهزيلة، إلى اغراق المؤسسات التعليمية بالعقدويين لشل واقع التعليم الأعرج، وللقضاء على العمل النقابي الذي يعتبر الموجه للسياسة والمؤطر لروح التربية والألفة في طاقم التدريس.

ندمت ندامة لو أن نفـــــــسي تطاوعني إذا لقتلت نفسي
تبين لي سفاه الرأي مــــني لعمر الله حين كسرت قوسي

يجوز لكل مهتم بواقع التعليم أن يطرح السؤال التالي:

هل تريد الحكومة من سنة التعليم أن تكون سنة لوأد التعليم أم عاما لإصلاح التعليم؟

وباختصار وحتى لا نندم ندامة الكسعي؛ على الدولة أن تأخذ في اعتبارها النقاط التالية إذا كانت جادة في الرفع من مستوى التعليم في موريتانيا:

1- على الدولة أن تسعى جادة إلى انتشال المعلم والأستاذ من الوضعية الاقتصادية المزرية التي يعيشانها، فمن دون توفير الظروف الملائمة لهذين العنصرين البارزين في العملية التربوية لا يمكن الحديث عن إصلاح للتعليم ولا عن خلق عقول مبدعة ومنتجة.

2- وضع حدٍ لتسييس لغة التدريس، وخصوصا إذا ما عرفنا أن دور المدرسة هو التكوين العلمي والمعرفي للتلاميذ، وأن الأداة الأولى والأساسية لهذا التكوين هي اللغة التي تنقل بها المعارف والعلوم، فإن فشل التعليم قد يكون سببه فشل السياسة المتبعة في لغة التعليم والتي عرفت تغيرات وانقلابات غير مفهومة.

3- ينبغي تحديد دور الدولة في العملية التربوية التعليمية، فمن المعلوم أن دور الدولة في الدرجة الأولى تنظيمي وتدبيري وليس هو صانع المنظومة، ولعل ما أدى إلى فشل سياسات التعليم هو أنها أصبحت ممركزة في يد الدولة واختفى دور الشركاء والفاعلين الآخرين.

4- التصالح مع العمل النقابي وعدم الدفع إلى شيطنته؛ فالأستاذ والمعلم عندما ينخرطان في نقابة معينة لا يضعون نصب أعينهم سوى التطوير من واقعهم والرفع من مستواهم، ولكن ضخ الأموال في الجيوب المتعطشة من طرف البعض بهدف شق الصف والوقوف أمام توحيده يقف عائقا أمام ظهور روح العمل النقابي الهادف.

5- إعادة النظر في المناهج التربوية ومحاولة تطويرها لتواكب الحياة العصرية، ولتساهم في بناء العقول المبدعة والمنتجة.

6- تشجيع روح الابداع والابتكار والجدية في نفوس العاملين في الحقل؛ وذلك عن طريق رصد جوائز سنوية لمن ساهموا في تحسين البرامج التربوية وقدموا فيها اقتراحات من شأنها أن تطور من الأداء المعرفي، وتكريم المتفانين في العمل بعيدا عن المحسوبية والقرابة.

7- القضاء على ظاهرة الطبقية في التعليم؛ بمعنى أن الدولة إذا أرادت أن ترفع من مستوى الطلاب وتجعل منهم متميزين فعليها أن تعمد إلى جميع التخصصات وفي جميع المدارس حتى تكون ظاهرة الامتياز عامة ويعم نفعها الجميع، لكي لا تساهم منظومتنا التربوية في إرساء العقد النفسية المزمنة في نفوس أبنائنا، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار فشل هذه التجربة وتكاليفها الباهظة؛ فمؤسسة للامتياز لا يتجاوز تلاميذها العشرون أكبر ميزانية من ثانوية تجاوز التلاميذ فيها الثلاثة آلاف تلميذ، هذا طبعا بغض النظر عن تقديم امتحانات الدخول عل سبورة من خشب وبمرأى ومسمع من الجميع حتى لا يؤدي عدم النجاح إلى اغلاقها… وما خفي أعظم.

إن الحديث عن فشل التعليم حديث معاد ومكرر، ولكن الذي طرأ وجدّ أن الدولة الوطنية أخذت على عاتقها أن تجعل من هذه السنة سنة للتعليم، وما لا نحبذه ولا نرضاه هو أن تتناسي الدولة أو تتجاهل حجم التحدي الذي أمامها، وألا تعمل على تحقيق انجازات ملموسة تمس الحقل التربوي تُحسب لها وتحفظ بها ماء وجها على مرِّ السنين. فالحديث المتكرر عن الإصلاح ومحاربة الفساد ينبغي أن يمر على عتبة التعليم وينفض الغبار عن جبين المدرسة المرهق، ويتلمس تجاعيدها المحفورة على مر السنين، ويخضب بالحناء وخظ الشيب المترامي، حتى تُرجع لهذا الوطن بهاءه وحسنه، وتبعث في رجاله روح الابداع والابتكار والتجديد.

المختار محمد جيرفين jerefine@gmail.com

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى