كلمة العلامة اباه ولد عبد الله في ندوة “محنض باب ولد اعبيد”

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
حضرات السادة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بلغني منذ أيام يسيرة أنه ستقام ذكرى للشيخ الإمام محنض بابه في انواكشوط ولم أدر ما هو منهج هذه الذكرى؟ وما هي المواضيع التي سيتعرض لها الباحثون؟ فلم أدر من أين أبدأ؟ وإلى أين أتوجه إذا أدليت دلوي مع دلاء الباحثين؟ والكلام المجمل غير مفيد في مثل الشيخ محنض بابه، إذ كل أحد يعرفه تحت عنوانه الضخم علما وعملا، والشيخ متعدد النواحي متنوع الشُّعَب كثير الأبواب والفصول في حياته الحافلة،كل ناحية منها إذا أعملتَ فيها فكرك واستذكرت معلوماتك وأحضرت تقييداتك تشغل وقتك وتملأ طرسك وتفني نِقْسك، لذلك مع ضيق الوقت وتراكم الأعذار لم أدر أي فن من هذه الفنون أقرأ، وأي باب أقرع.
مع أني لا أظن أني آتي – لو أتيت بشيء – إلا بما سبقني إليه من هو أعلم مني بما يقول وأقعد.
تمنيت لو أعطيت في القول بسطة

فأهتف فيه بالذي أنا أعرف

هل أتكلم على أقضيته العادلة في معضلات النوازل التي يحار فيها اللبيب الحازم مع شدة شكيمة الخصوم، وقوة عارضة المحامين عنه، في تناطح الأنقال ومنازلة الأقوال، وكبارُ علماء الزوايا متوافرون إذ ذاك، ولكل منهم وِجْهته وَجِهته.
ففي هذا المقام الحرج تجده مفرد الثلاثة، صادعا بالحق، حاكما بما أراه الله تعالى رابط الجأش غير هياب لا تأخذه في الله لومة لائم، لا تحل حبوته هيبة حاكم ولا جلالة خصم.
أو أتكلم عليه مفتيا أو مناظرا في صعاب المسائل وغوامض الأحكام التي تتفاوت فيها العلماء على قدر تفطنهم في اندراج الجزئيات تحت الكليات والتنبه لما بينها من فروق تختلف فيه الأفهام، وقد تضل فيه الأحلام، وما أشبه ذلك من الحث على التزام مشهور المذهب والدفع في صدور المفتين بالشاذ والمرجوح، والرد على ما يدخل في العقيدة من دخن. كل هذا له نصوص موجودة من وضعه.
أم نتكلم على نصب إمام تجتمع عليه كلمة المسلمين في هذه البلاد، وتذمره من هذه الحالة الفوضوية التي هم عليها. وقد لقيت هذه الدعوة آذانا صاغية من بعض العلماء، منهم من أجاب قصيدته في بحرها ورويها كالفغ بن سيد أحمد العلوي ومنها ما هو محفوظ معلوم كما للشيخ محمد المامي، واجدود بن اكتوشن، وباب بن أحمد بيب. وقد وقفت على رسالة كتبها العلامة سيدي عبد الله بن أحمدام الحسني البنعمري مخاطبا أخواله بني ديمان تعرض فيها لمسألة نصب الإمام.
ومن ذلك فتاويه التي تعد مرتعا خصبا لطالب العلم، إن كان فقيها سيجد فيها مسائل محررة مفروغا منها يفتي بها المفتي ويقضي بها القاضي على بصيرة من أمره، وإن كان مؤرخا فسيجد فيها ما يطلبه المؤرخ من قراءة حال البلد وأهله في تلك الحقبة: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
فحبذا لو جمعت هذه الفتاوي من جديد، فلا أظن هذه الفتاوي الكبرى والصغرى المتداولة بين الناس استوعبت ما للشيخ منها. فإني ربما أجد فتاوي منسوبة له وبعضها بخطه ولا أجدها في هذه الفتاوي فحبذا لو بحث عنها في مظانها.
أم نتكلم على مؤلفاته التي جمعت مع الاستيعاب والإيجاز ما يعز نظيره. وأوضح مثال على ذلك “ميسره” الذي حرر فيه مسائل من المختصر وضبط بعض الكلمات منه مما لم يسبق إليه، واستدرك على البناني وعبد الباقي ومن قبلهما مما لم يتعرض له غير الرهوني الذي توارد معه في بعض المسائل من غير أن يطلع كل منهما على ما للآخر، إذ حاشية الرهوني لم تصل هذه البلاد إلا بعد انتشار الميسر.
وكنت أسمع بعض مشايخنا الحفاظ يقول إنه لا يكاد يطلب مسألة إلا وجدها في الميسر أو كما قال.
ولا ننسى أن نشكر “دار الرضوان” وصاحبها الفاضل أحمد سالك ابن ابوه على نشره للميسر في طبعته الثانية الفاخرة محققا مصححا، فهو أكبر تحفة يتحف بها طلبة العلم في هذه البلاد بعد ما طال انتظارهم وتشوفهم لإخراجه في حلة مناسبة. فالله يجازيه أحسن الجزاء. وقد عودتنا الدار إخراج نفائس كتب المذهب.
ولم يكن الشيخ محنض بابه مجرد ناقل أمين، ولا راو ضابط فحسب، بل كان مع ذلك ناقدا صيرفيا لما ينقل أو يروي.
وهو وإن كان حريصا على التأصيل والتوثيق في النقل، مؤثرا في بحثه للاتباع والخروج من العهدة، إلا أنه مع ذلك يضفي صبغة التجديد والاستنتاج على بحوثه المؤصلة. ومن درس الميسر والفتاوي يجد فيها الكثير الطيب.
وأما إن كان البحث في غير مسائل الحلال والحرام فتجده أشد تحررا وابتكارا لما لم يسبق إليه وقد أشار إلى شذرات من ذلك الشيخ محنض بابه بن امين حفظه الله تعالى في تقديمه للميسر.
ومما يحضرني الآن أن بهاء الدين السبكي من أهل القرن الثامن الهجري قال في عروس الأفراح شرح تلخيص المفتاح أن النهي يأتي للامتنان مستدركا به على صاحب التلخيص ولم يمثل له، وترك بياضا إذ لم يحضره مثال له وبقي هكذا غُفْلا حتى أتى السيوطي في عقود الجمان وقال:
قلت وللتقليل وامتنان

وللدعا الإرشاد والبيان

قال في شرحه عند قوله “وامتنان”: ترك له بهاء الدين السبكي بياضا.
وهكذا فعل السيوطي على حفظه وجمعه، ثم جاء المرشدي في شرحه وفعل مثل ذلك فأحال على ذلك البياض.
لكن الشيخ محنض بابه لما وصل له في “طرته” على عقود الجمان مثل له بكل بساطة بعد ما مكث البياض فارغا من أثناء القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر أي ما يناهز خمسة قرون. وهذا مجرد مثال فقط.
ومن ذلك استدراكه لـ “يأتي” بمعنى يصير [فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا] وذلك أن ابن مالك ومن بعده من شراح التسهيل عَدُّوا الأفعال التي تأتي بمعنى صار وتعمل عملها ونظمها الشيخ المختار بن بون في احمراره قال :كصار آض إلخ.
ومن ذلك الخلاف في وجوب التخصيص للفاعل، والقصة التي جرت له مع بعض أهل المدرسة البونية في ذلك.
ومنها تحقيقه في “أل” وقد رأيت العلامة البراء بن بك كتب عليه هذا تحقيق لمحنض بابه لم يسبق إليه إلى أشياء من هذا النمط.
وعلى هذا الأسلوب البديع جرى أبناؤه وأحفاده والحمد لله.
إن من ساد ثم ساد أبوه

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم

والاطراد ذكرك اسم من علا
بلا تكلف على وجه جلي

ثم قد ساد قبل ذلك جده

مثل النجوم التي يسري بها الساري

وأبه وجدَّه على الولا
مثل الحسين بن الحسين بن علي

فالله يرحم سلفهم ويبارك في خلفهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد فال (اباه) بن عبد الله 19 ربيع الأول 1438

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى