فتـــــــــــــــيل الخلاص
ي غمرة استجابات العبقرية الحضارية التونسية للتحديات التي
تواجهها، وتزايد مظاهر الحراك الجماهيري في أرجاء المنطقة, لا يسع المرء
إلا أن يتلمس موضعه في مضمار التطور الحضاري، وقدرة الجماعات على تجاوز
مسلمات ” الحلقة الجهنمية ” المفرغة إلا من تشابكات الجهل والفقر والمرض,
ومراوحة أخرى مكانها منذ عقود، باجترار التعليل ( النكوصي) المستمر
لمرحلة نشأة ” دولتها ” مثل المجتمع الموريتاني, بما يشبه حالة التيه
والضياع المستمر لمن لا يريد توصيف ذلك ( بالوسواس القهري ), دون أن يكون
للقائمين على هذه الدولة أي مشروع سوى إشباع غريزتهم السلطوية بالعزف على
النزعة التمفصلية الصحراوية، التي لا تمانع معها أي مجموعة قبلية أو
اثنيه أو غيرها ـ مهما كان حجمها وحجم إمكاناتهاـ من الانفصال عن
إقليمها، متى ما أتيح لها ذلك.
ف
كما لا يسع المرء إلا أن يتساءل عن منحنى عتبة المرحلة ( الو عيية )
التي تظهر مع معطياتها الاحتجاجات على المسلمات ” الصنمية ” وما إذا كانت
تتطلب مستوى معينا من التعايش مع دور الدولة في حياة الناس، بحيث يمكنهم
إدراك تراجع ذلك الدور،أي الحد الذي تتبلور فيه أهداف النخبة الثقافية
والسياسية وتطلعاتها، إلى المستوى الذي يصبح فيه المجتمع قادرا على إنتاج
أكثر من مشروع أو استجابة نيرة للتحديات التي المستجدة باستمرار، بما في
ذلك خيارات ” الثورة السياسية أو الزراعية أو الصناعية أو الثقافية
الاجتماعية ..الخ” و التي يتجاوز فيها مرحلة تحديد الأهداف إلى مرحلة
انجاز الأهداف الأكثر تطورا، وما إذا كانت مثل هذه المفارقات تعوز مجتمع
” ما قبل الدولة” في موريتانيا، وتنأى به عن معطياتها، إذ لم تحظ غالبيته
العظمى بأي دور للدولة في حياتهم,، و ما زالوا يتشاءمون من مظاهرها، بل و
يعتقدون انه ـ حتى ـ الطبيعة تكفهر في وجه سلطاتها، و تعبر عن ذلك في شكل
زوابع رملية أو كسوف النجوم والكواكب.
ثم لا يسع المرء أيضا إلا أن يتساءل؛ حول حدود التشابكات الثقافية ـ
الاجتماعية والجغرافية وغيرها بين الناس التي تمكن من اتساع دائرة الوعي
بواقع أنفسهم، أو ما هم عليه، من خلال محاولة مقارنة بعضهم ببعض، ومصداق
مقولة : ” إننا نتعلم الضحك على أصنامنا بالمرور على أصنام الآخرين” ومن
ثم فإن حالة اللاقياسية التي يدعو إليها البعض, تعني الجهل المثبت
مسبقا, كوعاء للعصمة المبنية على تناقضات اليقين المزعوم، فعدم التداخل
أصبح مستحيلا في زمن الشمولية, كما أن أي محاولة للبقاء على الحياد
واللجوء إلى عوالم منفصلة, تتسم بالهزلية والتهريج, فرفض التعلم من
الآخرين مع قلة فائدته, يؤشر على قوة تراكم سوء الفهم الأجوف, الذي لا
يفيد معه الاحتماء بالتوغل في مجاهل الصحراء, التي ظلت مرتعا للمتسيبين
وقطاع الطرق فترة طويلة؟
كما لا يسعه إلا أن يتساءل عن الحد الذي يصبح معه الوعي الاجتماعي
المقارن (هذا) منهجا سلوكيا مهما، عند ملاحظة أن ما يعتبره المواطن
التونسي وضعا ” بائسا، لا يطاق” وباعث على الثورة، تعتبره الغالبية
العظمى من الموريتانيين ” ترفا ” لا ينال في أقصى درجات الطموح، وأحيانا
أخرى لا يطال إلا في عوالم ” جنان الآخرة المشيدة إلهيا “, مثل ثمار
وأشجار الزيتون والفواكه, نظرا لسيادة الندرة والشح في فرص الحياة، وما
يصاحبها من تجليات ” ثقافة الفقر ” بكل مظاهرها المتدنية في المهارات
والذوق والطموح و المبادرة ..الخ, التي أشبعها الانثروبولوجي الأمريكي (
اسكار لويس) وصفا وتحليلا.
و في هذا السياق,لا يسع المرء أيضا إلا أن يتساءل؛ عما إذا كانت
دعاية تأسيس دولة موريتانيا من ” العدم ” تندرج في إطار محاولة ” تنويم
إيحائي” لإضفاء صفة ” الفوق وطنية ” أو صفة ” الإلوهية ” على السلطة
المخلقة لها، على طريقة ” تأييس الأيسيات من ليس” أو الخلق من العدم، ومن
ثم سحبها على ” مخلوقهم ” لإبقاء فعلتهم خارج مجال التداول الفكري
(كـتابو) لا يقبل التدنيس بتناوله كمفكر فيه، أو كتنظيم موضوعي قابل
للتقييم وإعادة النظر في أدائه الوظيفي وبنائه، ترسيخا لقاعدة أن ما
يعتبره الناس حقيقة، يصبح كذلك بالنسبة إليهم ـ حسب جزئية نظرية ( توماس
ثورن)ـ واعتمادها كآلية لاستمرارها مجرد دولة ” سلطة ” دون إمكانية
اشتراط تحويلها إلى دولة من أجل ” المواطنين” مع ضمان ارتهان أتباعها لها
“كقدر مقدور” حتى وان كانت (لا ترحم و لا تترك الرحمة تنزل من غيرها) و
دون أن تحل بها لعنة الحديث النبوي، بالقياس على تلك المرأة التي حبست
قطتها فلاهي أطعمتها ولاهي تركتها تأكل من الخشاخش انطلاقا مما هو دارج؛
عن مسؤولية الدولة الوطنية كحاوية تنظيمية للمجتمع في المكان الذي تهيمن
عليه، إلى درجة تتحدد معها الصورة المفردة للمجتمعات, من خلال النموذج
السياسي لنظامها، وموضعتها في الأمكنة الاجتماعية للعالم الأول بمواصفاته
المتجاوزة للزمان والمكان, والعالم البائس المحشور تحت عبء الوقت المفرط
و العاجز عن ملء إيقاعه العديم الجدوى, الذي تندر فيه الحوادث المستجدةـ
حسب(ألريش بك), نظرا لسيطرة العمى وشيطنة كل دروب النقد والتشريح,
ومحاولة مواجهتها دائما بنسخ من نسخ مكررة من الأساطير والعصي السحرية,
درءا ” للشعور بالعار” الذي تتميز سيكولوجيته بالميل إلى استنزاف الجهد
في التحايل على إخفاء العلل, والعيش في عالم الينبغيات, بدلا من الاعتراف
بالواقع المرير لإمكانية تجاوزه.
إن مثل هذه الهندسة الفكرية والعملية في أمكنة المجتمعات في عوالم
البؤس أو غيرها, تخلقها الدولة الوطنية, وتحددها تصرفات حكامها, بحسب
درجة حماية أرواح وممتلكات وكرامة كافة مواطنيها, كما هو وارد في تعريفات
و مفاهيم الدولة, ومبادئ المواثيق الدولية لحقوق الإنسان, في موادها ( 12
و 15 ) من اتفاقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية, مثل حق المعاشات
والعجز والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعا, إضافة إلى ما تنص عليه
المادة (26 ) من نفس الميثاق على حق توفير التعليم المجاني لكافة
المواطنين, وما تنص عليه المواد (23 و 24 و25 ) من نفس الميثاق على عدالة
توزيع الدخل القومي, وضمان تحديد حد أدنى للأجور, والقضاء على البطالة
ورفع مستوى المعيشة، و عدالة تطبيق القوانين بحيادية وتجرد عام..الخ, مما
لا يترك مجالا لعدم المساءلة القانونية ” الإنسانية ” لأي دولة, متى ما
أبانت عن عجزها المتكرر لسبب أو آخر عن أداء وظائفها تلك, بحيثيات كثيرة,
منها:
•أنه حيثما يتطوع حفنة من الأشخاص بالموافقة العشوائية على استلام
مسؤوليات الدولة من الاستعمار, وفصلها عن إقليمها المركزي عبر التاريخ,
وحصرها في منطقة صحراوية بدوية بهُوية مبهمة مقطوعة عن المراكز
الحضارية والبشرية لها, دون وعي إرادي لمواطنيها, بعقلية ارتجالية صرفة,
بعيدة عن التصور الاستراتيجي للدولة, بدون أبسط بنية بشرية أو مادية,
سواء في التربية والتعليم أو الأمن أو الزراعة أو المنشآت الصحية أو
المواصلاتية أو العقارية أو الزراعية ..الخ, فمتى ستعتبر الدولة الوطنية
والاستعمارية منافيتين لحقوق الإنسان وبحاجة إلى خلاص؟ ومتى سيتوقف
القانونيون عن هجر معارفهم واستخدامها في غير التطوع للدفاع عن الفاسدين
والنطق باسم الحكومات والتمسح بها، دون أن يكونوا مشاركين فعليين معهم؟
•وحيثما تبقي المؤسسة الرسمية لهذه الدولة على امتيازات لعملاء وجامعي
الضرائب ” شيوخ الاستعمار” ومجندوه, فمتى ستعتبر الدولة ومنافية لنفسها
وهي ترفع شعار “الدولة الوطنية” و متى ستعتبر هذه الدولة ضد حقوق الإنسان
وبحاجة إلى خلاص؟
•وحيثما تقرر طغمة فاسدة الارتباط بالصهاينة, رغم أنف الغالبية العظمى
للمجتمع الذي تزعم أنه انتخبها, وتخرج من السلطة بكل سلامة بدنية ومالية
واجتماعية, رغم ما عرفته حقبتها من شتى أنواع الفساد, بما في ذلك اتخاذ
أحد وزراء داخليتها غرفة نوم حمراء بجانب مكتبه لتلويث أعرض وكرامة
المواطنين, وبدون ملاحقة قانونية, وكأن المجتمع مجرد ” عبده سلطة ” أو
عبده مسئولين, فمتى ستعتبر الدولة ضد حقوق الإنسان وبحاجة إلى خلاص؟
•وحيثما ينبري فقهاء السلطة ” المتصهينون ” بالفتاوى لتسويغ العلاقة مع
الصهاينة, رغم تأسيس الدولة على مبدأ الإسلام, والتزام غالبية سكانها
بمبادئه, دون أن يتعرضوا للعزل والمحاسبة, فمتى ستعتبر هذه الدولة منافية
لحقوق أناسها وبحاجة إلى خلاص؟
•وحيثما يتم تركيز فرص الحياة الشحيحة في أحياء محددة من ” العاصمة “,
مثل الإضاءة الكهربائية, البث المرئي, شبكة مياه الشرب والصرف الصحي
والمراكز الصحية.. أو كل ما هو متاح من مظاهر الدولة والتحضر, ويتم إهمال
الغالبية العظمى للمناطق الأخرى, باستثناء فترات الحملات الانتخابية ”
الفولكلورية ” لجلب الأصوات, فمتى ستعتبر الدولة منافية للحقوق الإنسانية
لسكانها وبحاجة إلى خلاص؟
•وحيثما يكون غالبية السكان يعيشون تحت خط الفقر المدقع وعديمو الدخل,
وعرضة لفتتك الجوع والعوز والأوبئة, في عشوائيات ” العاصمة ” والمناطق
الأخرى, نصف حفاة وعراة, خاضعون لصدف الطبيعة البقاء للأصلح, و
يتساقطون أمواتا على الطرقات غير المعبدة, في الحالات الاستعجالية
للحوادث والأمراض والولادة, باتجاه المستشفى اليتيم على علاته في ”
العاصمة ” في الركن القصي عن التجمعات الكثيفة للسكان, على بعد أكثر من
ألف كلم, دون وجود أي مظهر لطوا قم الإسعاف من أي نوع أو مستوى, فمتى
ستعتبر الدولة ضد حقوق الإنسان وبحاجة إلى خلاص؟
•وحيثما تكون الغالبية العظمى من السكان يعتاشون على عائدات ” المشردين
” في الخارج, الذين يمارسون المهن الهامشية و اللا أخلاقية أحيانا, مثل
الدجل والشعوذة والتهرب بالقروض المصرفية واستجداء التمويلات الخيرية
للجمعيات الوهمية…, نظرا لتدني مستواهم المهاري, فمتى ستعتبر الدولة
منافية لحقوق الإنسان وبحاجة إلى خلاص؟
•وحيثما تكون القنصليات متورطة في المتاجرة والتهريب والاسترزاق بطرق
غير شرعية, وعاجزة عن حصر المهاجرين, وتقديم الخدمات الضرورية لهم, من
وثائق سفر للعمال والمواليد والوفيات, وتعليم الأطفال وتنظيم تأمين
عائداتهم ومصالحهم في الوطن, بما هو أسوأ من أحوال اللاجئين المعترف بهم,
فمتى ستعتبر الدولة منافية لحقوق الإنسان وبحاجة إلى خلاص؟
عجبا, أن تترك جماعة نفسها عرضة لأبسط أنواع الخطر و اعتباطية الطبيعة,
في سذاجة منقطعة النظير و تظل تراوح عجزها لعدة أجيال عن أن تميز بين
وجود ” دولة ” في ذاتها, بغرض إشباع الغريزة الحيوانية للسلطة لدى ثلة
قليلة من أفرادها على بقية الحفاة العراة, المشردين نساء وأطفالا
وشيوخا في الشتات, بلا مهارات فنية و أحيانا بدون وثائق مدنية, مثل من
تعرضوا لأبشع الكوارث والحروب الاستثنائية, في ( الصومال وأوغاد ين
ودارفور وغيرها ) وبين وجود الدولة لخدمة ” المواطن” ورفاهيته, وتستمر
تراوح مكانها دون أن تفرز أي مظهر للحيوية العبقرية وردة الفعل
المتناسبة, وكأن عقلها ” مقطوع ” وعاجز عن الابتكار, ولا تريد أكثريتها
أي تغيير, في عجز عن التمييز بين البقاء أو التحقق الوجودي ونوعية
تنظيمها, ويستمرون يكتفون عن ذلك بالتشكي والاستجداء باستغلال علل
حياتهم الرديئة!.
وعجبا مضاعفا, لمن يتصارعون و يهدرون جهدهم في التظاهر أو يزهون أو
يرتضون بان يرفلوا في الحرير ومظاهر الأبهة, دون أن يشعروا بالخجل والعار
أمام أنفسهم وأمام غيرهم, وهم يزعمون أنهم يمثلون وينطقون باسم الحفاة
العراة ويتجاهلون أنهم يوصفون ـ في أحسن الأحوال ـ ب ” مصاصي الدماء ”
الذين يفلسفون آثامهم حول تزييف ” أمنيات” إمكانية الحياة بشكل أفضل،
بمنطق ( توتالوجي) أي لغو تحصيل الحاصل, الذي يعني منطقيا, توحيد القضية
وموضوعها ومحملوها, بما يشبه تكرار الكلمة للتدليل على صحتها!.
و بصرف النظر عن إمكانية قيام المجتمع الموريتاني بذلك من عدمه, فعلى
ماذا تتوجب الثورة عليه أصلا ” السلطة السياسية ” فقط , كما هو الحال في
تونس, أم ” الدولة الوطنية ” ذاتها, وكيف يمكن إعادة حيوية المبادرة إلى
الروح الجماعية المبتورة من مركزها, و من هو ذلك ” المخلص” الذي سيشعل
فتيل الخلاص؟!