أي إعلام عمومي تريدون؟
تابعت ـ باهتمام بالغ ـ تصريحين متواليين ومتطابقين لرئيس الجمهورية انتقد فيهما الإعلام الرسمي، على هامش لقاءين متعاقبين ببعض ممثلي قطاع الصحافة، كان أولهما مع مكتب تجمع الصحافة، أما ثانيهما فقد كان مع نقيب الصحفيين الموريتانيين.
كما أني كنت قد تابعت قبل ذلك ـ وبفضول كبيرـ بعض التصريحات التي تميزت بنبرة حادة، وبجرأة غير مسبوقة أطلقها بعض العاملين في قطاع الإعلام الرسمي، وتوعدوا فيها بتنظيم سلسلة من الاحتجاجات والاعتصامات المتوالية، للمطالبة بحقوقهم المشروعة، والتي كان ـ ولا زال ـ على رأسها المطلب الشهير المتعلق بزيادة 50%.
والحقيقة أن كل تلك التصريحات لم تقدم أجوبة مقنعة على أسئلة ملحة، وإنما أثارت أسئلة عديدة، وغذت شبهات قديمة جديدة مرتبطة بقطاع يمكن اعتباره بأنه هو “التفاح الفاسدة” التي أفسدت كيس التفاح كله، فلا مصيبة في هذا البلد إلا وللإعلام الرسمي مساهمة جبارة في حدوثها.
وحتى لا أكرر كلاما قديما كنت قد عبرت عنه في مقالات سابقة، فإني سأحاول أن أخصص هذا المقال للإجابة على سؤالين في غاية الأهمية، أحدهما أثارته تصريحات رئيس الجمهورية، والتي أكد فيها بأنه أعطى تعليماته بضرورة فتح وسائل الإعلام أمام الجميع، إلا أن العاملين في تلك المؤسسات لم ينفذوا تلك التعليمات. أما ثانيهما فقد أثاره العاملون في الإعلام الرسمي عندما توعدوا بتنظيم سلسلة من الاحتجاجات للمطالبة بحقهم في زيادة 50% التي حُرموا منها.
يقول السؤال الأول : هل الرئيس جاد فعلا في فتح مؤسسات الإعلام الرسمي أمام الجميع؟
والإجابة على هذا السؤال تفترض أن نميز في البداية بين كلمتي الرغبة والإرادة، وهذا التفريق بين الكلمتين هو وحده الذي سيمكننا ـ وحتى إشعار آخر ـ من إيجاد تفسير منطقي للتناقض الصارخ بين رغبة الرئيس المعلنة في الإصلاح، وغياب الإرادة الجادة في فرض ذلك الإصلاح المنشود.
فلا جدال ـ حسب ظواهر الأمور ـ في أن الرئيس يرغب فعلا في التحسين من أداء الإعلام الرسمي، وفي فتحه أمام جميع الموريتانيين، وفي منحه مزيدا من الاستقلالية.
لا جدال في وجود تلك الرغبة التي تظهر من خلال بث كل مداولات البرلمان ـ بأمر من الرئيس ـ رغم أن بعض النواب، استغل تلك المداولات في بعض الأحيان، للإساءة لشخص رئيس الجمهورية، وتحدث فيها بعضهم عن رئيس الجمهورية بطريقة لا تليق.
ومما يجب أن نلفت الانتباه إليه هنا هو أن وسائل الإعلام الرسمي التي نقلت كل مداولات البرلمان، لم يكن في مصلحتها، ولا في مصلحة النظام، أن تغلق أبوابها أمام أي نقاش آخر، مهما كانت حدته، لأن ذلك النقاش ـ وببساطة شديدة ـ لن يكون أكثر حدة من انتقادات نواب المعارضة للرئيس ولأغلبيته.
وتظهر كذلك رغبة الرئيس في تحسين أداء الإعلام الرسمي، من خلال لقائه بالشعب بمناسبة ذكرى التنصيب، رغم ما شاب ذلك اللقاء من أخطاء تعمدها القائمون عليه.
كل تلك الإشارات تقول بأن الرئيس يرغب فعلا في استقلالية الإعلام الرسمي، ولكن في المقابل هناك إشارات أخرى أكثر وضوحا، تقول بأن الرئيس ليست له إرادة جادة لتحسين أداء الإعلام الرسمي، ولو كانت هذه الإرادة موجودة لدى الرئيس فعلا، لقام بأول خطوة في سبيل تحقيق ذلك، ولاختار لإدارة تلك المؤسسات من يسعى بصدق، ويمتلك ـ في الوقت نفسه ـ القدرة اللازمة لتحسين أداء تلك المؤسسات الفاشلة حتى الآن.
ولو كان الرئيس يسعى فعلا للتحسين من أداء تلك المؤسسات لأعاد الاعتبار للصحافيين والإعلاميين المشهود لهم بالتميز، والذين تم إبعادهم وإبدالهم بمن لا صلة له بالإعلام، ولا قدرة له على التحسين من أدائه، حتى ولو مُنح زيادة 500% على راتبه.
وقبل أن أختم الجواب على السؤال الأول لا بد أن أشير بأنه قد يُقبل من العبد الفقير كاتب هذا المقال، ومن غيره من عامة الناس، أن تكون لهم رغبة في إصلاح الإعلام الرسمي، دون أن ينفذوا تلك الرغبة، لأنهم لا يملكون الوسائل اللازمة لتنفيذ تلك الرغبة ميدانيا. أما أن تكون للرئيس ـ الذي يملك كل تلك الوسائل ـ رغبة في الإصلاح، دون أن يجسد تلك الرغبة ميدانيا، فذلك يعني أن الرغبة لم تكن موجودة أصلا، وهو ما ينسف كل ما قيل سابقا للإجابة على السؤال الأول.
بل إنه فوق ذلك يمكن القول ـ لنسف ما قيل سابقا ـ بأن الرئيس عندما ينتقد الإعلام الرسمي، أو أي قطاع حكومي آخر، إنما ينتقد نفسه، لأنه هو المسؤول أولا و أخيرا أمام الله، وأمام الشعب الموريتاني عن كل تلك الأخطاء التي ينتقدها. وعلى الرئيس أن يعلم بأن أي تلميذ في الإعدادية يمكن له أن يكشف كل عيوب الإعلام الرسمي، لأنها واضحة جلية. ونحن لسنا بحاجة لرئيس ينتقد عيوبا صارخة، بقدر ما نحن بحاجة لرئيس يصلح تلك العيوب الصارخة.
وبلغة أيامنا هذه، فإن الشعب لا يريد رئيسا ينتقد الأوضاع، وإنما يريد رئيسا يُصلح تلك الأوضاع. وإذا كانت القدرة على انتقاد الواقع تنفع كثيرا أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية، فإن الاعتماد عليها قد يضر كثيرا من أصبح هو الرئيس.
أما السؤال الثاني الذي سأحاول أن أجيب عليه في هذا المقال فيقول: هل يحق للإعلاميين الرسميين أن يطالبوا بزيادة 50% أم أنه لا يحق لهم ذلك؟
في البداية أقول بأنه يحق لكل عامل ـ نظرا لتدني الرواتب ـ أن يحتج، وأن يناضل، وأن يطالب بزيادة راتبه بنسبة معتبرة ( لا أقصد هنا الدلالة اللغوية لكلمة معتبرة في قاموس الوزير الأول).
وأقول ـ تلمسا لعذر عن كلام سأقوله بعد حين ـ بأني كنت قد طالبت الوزارة الوصية في مقالات سابقة بأن تمنح للعاملين في الإعلام الرسمي زيادة 50 % التي مُنحت لغيرهم من العمال.
كما أني كنت قد خصصت قبل ذلك أسئلة عديدة لصالح مؤسسات الإعلام الرسمي من بين خمسين سؤالا كتبتها لرئيس الجمهورية، مباشرة بعد الإعلان عن لقاء الشعب، بمناسبة ذكرى التنصيب.
تلك الأسئلة مع غيرها من الأسئلة، التي ظل يطرحها غيري، والتي تهم العاملين في الإعلام الرسمي، كان يمكن طرحها على رئيس الجمهورية خلال ذلك اللقاء، إلا أن بعض العاملين، وبعض القائمين على مؤسسات الإعلام الرسمي، هم الذين ضيعوا تلك الفرصة اليتيمة، التي كان يمكن من خلالها أن يتم طرح مشاكلهم ـ وبشكل مباشرـ على رئيس الجمهورية.
وبالعودة إلى جواب السؤال، فإني أقول بأنه لا يحق لكثير من العاملين في الإعلام الرسمي أن يطالبوا بزيادة 50%، بل إنه لا يحق للكثيرين منهم أن يتقاضى راتبه أصلا، حتى من دون تلك الزيادة.
لا يحق لهم ذلك لأسباب عديدة أذكر منها اختصارا:
1 ـ إن عمال الإعلام الرسمي يتقاضون رواتبهم من ثروة الشعب، لذلك فإنهم مطالبون بخدمة الشعب لا خدمة غيره. ويتأكد الأمر أكثر عندما تتكرر الأوامر من أعلى سلطة في البلاد لتطالبهم بالتفرغ لمهمتهم، والابتعاد عن التطبيل والتصفيق للرئيس ولأغلبيته.
ولأن الكثير من العاملين في هذا القطاع الحيوي لم يهتموا في الماضي، ولا في الحاضر، بالشعب ولا بهمومه، لذلك فإنهم لا يستحقون الرواتب التي يتقاضونها من ثروة هذا الشعب المسكين والمغلوب على أمره.
إن على المطالبين بزيادة 50% أن يؤدوا واجبهم قبل المطالبة بتلك الزيادة. وعليهم أن يتوبوا قبل ذلك كله من الضرر الذي ألحقوه بالشعب الموريتاني المسكين.
عليهم أن يتوبوا من كل ذنب اقترفوه في حق كل مواطن مات مريضا، ولم يجد علاجا، ولم يُسمج له أن يُسْمِع أنينه قبل موته، من خلال مؤسسات الإعلام ( تلفزيون ، إذاعة، الشعب).بل إن ذلك المواطن المسكين وهو يموت بلا علاج ، كان يسمع من بعض المطالبين اليوم بحقهم في الزيادة، بأن المؤسسات الصحية تؤدي مهامها على أحسن وجه.
وعليهم كذلك أن يتوبوا من كل ذنب ارتكبوه في حق جياع كثر، وفقراء كثر، وعاطلين عن العمل كثر، ومظلومين كثر لم يسمحوا لهم بأن يتحدثوا في وسائل الإعلام التي يصفونها زورا بأنها مؤسسات عمومية ووطنية.
وعليهم ـ قبل المطالبة بالزيادة ـ أن يتوبوا من ذنوب اقترفوها في حق معارضين كثر، سبوهم، وشتموهم، وقذفوهم بأبشع الأوصاف، في مؤسسات الإعلام ” الوطني”، ليس خدمة للشعب، وإنما تزلفا لحاكم، سريعا ما ينقلبون عليه وينتقدوه، بعد أول دقيقة يعلن فيها أنه قد انقلب عليه منقلب آخر.
2 ـ إن الصحفي العمومي الذي يستحق راتبا محترما هو ذلك الصحفي الذي يناضل ويضحي بوقته وبجهده وبسمعته، وحتى بعمله، من أجل أن يفرض على المؤسسة التي يعمل فيها أن تمنحه استقلالية كافية، تمكنه من تأدية مهمته النبيلة على أحسن وجه. أما الصحفي العمومي الذي “يناضل” و”يضحي” بوقته وبجهده وبسمعته من أجل أن يعيق أي تحسن، أو أي استقلالية في المؤسسة الني يعمل بها، حتى ولو كانت تلك هي “رغبة” أعلى سلطة في البلاد. إن مثل هذا الصحفي لا يستحق الراتب الذي يتقاضاه، أحرى أن يطالب بزيادته.
3 ـ إن أهم خطوة إصلاح يمكن اتخاذها في الوقت الحالي، إذا ما ظل الرئيس يرفض أن يعين على تلك المؤسسات من له القدرة والرغبة في إصلاحها، هي العمل على ترشيد الموارد التي تهدرها مؤسسات الإعلام الرسمي، خاصة التلفزيون والوكالة الموريتانية للأنباء ( الإذاعة قد تكون أحسن قليلا)، وذلك من خلال إغلاق تلك المؤسسات التي فشلت فشلا ذريعا، في أن تقدم شيئا مفيدا للمواطن وللدولة، وتشريد كل العاملين فيها.
فتوفير فاتورة الكهرباء التي تكلفها التلفزيون، وتوزيع المبلغ المخصص لتلك الفاتورة على فقراء” فصالة” أو “الغايرة” قد يكون أكثر أهمية من استمرار التلفزيون بباقته الشاحبة التي يطالعنا بها كل يوم.
4 ـ لا خلاف على أن القائمين على هذه المؤسسات لا يملكون موارد كافية، ولا خلاف على أن ظروف العاملين في تلك المؤسسات ليست مريحة، وأن الوسائل المتاحة لهم لتأدية مهامهم قد لا تكون كافية، لا خلاف على كل ذلك. ولكنه لا خلاف أيضا على أن الأوجه الحالية المسيطرة على شاشة التلفزيون، وعلى بقية مؤسسات الإعلام الرسمي ليست لها رغبة أصلا في تقديم ما يفيد المواطن.
فإعداد برنامج تلفزيوني، أو إذاعي، أو تخصيص صفحة في الشعب مثلا لتأبين المرحوم عالم الرياضيات الشهير يحيى ولد الحامد لا يحتاج إلى موارد مالية، بقدر ما يحتاج إلى حس وطني، وأخلاقي، وإنساني كثيرا ما يغيب عن العاملين في تلك المؤسسات.
وربما يقول قائل هنا بأن تجاهل مؤسسات الإعلام الرسمي، لوفاة المرحوم يحيى ولد حامد، إنما هو ناتج عن تجاهل السلطات الرسمية لتلك الفاجعة.
وفي اعتقادي الشخصي أن تجاهل السلطات الرسمية لوفاة عالم الرياضيات الشهير، إنما هو بسبب سلبية السلطات الرسمية، وبسبب غياب روح المبادرة لدى الحكومة، التي لا يمكن لأي وزير فيها أن يتخذ أي قرار مهما كانت بساطته، إذا لم تصدر له “توجيهات سامية” باتخاذ ذلك القرار.
ولو أن أي صحفي في الإعلام الرسمي من الصحفيين المطالبين اليوم بزيادة 50% قرر ـ بمبادرة شخصية ـ أن يقوم بتأبين عالم الرياضيات الراحل، لما وجد ـ بالتأكيد ـ من يمنعه من ذلك، ولكن المشكلة تكمن في أن أولئك الذين يطالبون اليوم بحقوقهم كاملة، لا زالوا يرفضون ـ وبإصرار عجيب ـ تأدية واجباتهم، حتى منها تلك التي لن تسبب لهم ضررا مهما كانت بساطته، بل أن مثل تلك المبادرات التي لا كلفة لها، كانت ـ على العكس ـ ستساعدهم في أن يكتسبوا مصداقية هم بأمس الحاجة إليها.
6 ـ من الغريب أن لا يتذكر بعض الإعلاميين الرسميين الغاضبين أصحاب الرأي، وقادة الفكر، إلا في أوقات الشدة والعسرة. ومن الغريب أن يطلب الإعلاميون الغاضبون مناصرة من حجبوا عنهم التعبير عن آرائهم من خلال مؤسسات من المفترض ـ أو هكذا يقال ـ إنها مؤسسات عمومية مفتوحة للجميع.
فكم من صاحب رأي حرمه صحفيو الإعلام الرسمي من الظهور في المؤسسات التي اغتصبوها، وانحرفوا بها عن مسارها الوطني، وحولوها إلى مؤسسات لإعاقة التغيير، بدلا من أن تكون مؤسسات لإحداث التغيير.
وكم من صاحب رأي مستنير ربما توقع أن يستضيفه التلفزيون “الكولومبي” قبل أن يستضيفه التلفزيون “الوطني”. وكم من صاحب رأي مستنير توقع أن تستضيفه إذاعة “لكوادور” قبل أن تستضيفه الإذاعة “الوطنية”. وكم من صاحب قلم رصين توقع أن تنشر له الجريدة الرسمية لهايتي ـ لا أدري إن كانت لهايتي جريدة رسمية ـ قبل أن تنشر له الجريدة الرسمية الموريتانية.
إن مشكلة الإعلام الرسمي لا يمكن اختزالها في زيادة 50 %، ولن يتم حلها ـ بالتأكيد ـ من خلال منح زيادة لعمال اكتتبوا بطرق لا صلة لها بالشفافية إطلاقا.
إن أزمة الإعلام الرسمي أشد استفحالا، وأكثر عمقا من ذلك كله، وهي لا تختلف عن أي أزمة من الأزمات الكثيرة التي تتخبط فيها كل المؤسسات العمومية.
إنها أزمة نتجت في الأساس عن حصاد سنوات عجاف، لم يعقبها ـ حتى الآن ـ عام أغيث فيه الناس، وهي سنوات عجاف ظلت فيها تلك المؤسسات تطرد وتهمش وتقصي خيرة موظفيها، في الوقت الذي كانت تستقطب فيه صغار الناس، وترفعهم مكانا عليا، ليفسدوها، ويفسدوا من خلالها المجتمع كله.
لذلك فإن إصلاح الإعلام الرسمي ، إذا ما كان يُراد له الإصلاح، يجب أن يبدأ أولا بتثبيت قوة طاردة وجاذبة في كل مؤسسات الإعلام الرسمي، طاردة لكل “الصغار” الذين تضخموا كثيرا، وقادرة على أن تلفظهم بعيدا، في الوقت الذي تستطيع فيه أن تجذب ” الكبار” الذين تقزموا كثيرا بفعل التهميش و الإقصاء الممنهج.
إن إصلاح الإعلام الرسمي بدون التصالح مع أولئك الكبار، لن يكون إلا مهزلة جديدة، تضاف إلى المهازل الكثيرة التي دمرنا بها، ولازلنا ندمر بها، هذا البلد المتعطش ـ بكل قطاعاته ـ لإصلاح جدي.
تصبحون على إعلام عمومي ..
محمد الأمين ولد الفاظل
رئيس مركز ” الخطوة الأولى” للتنمية الذاتية
هاتف 46821727
elvadel@gmail.com
www.elvadel.blogspot.com