موريتانيا : نحو الجمهورية الرابعة؟
غدا سينصب رسميا رئيس الجمهورية المنتخب في جو احتفالي مهيب. إنها بالتأكيد “لحظات سعيدة” ستعيشها البلاد من جديد و سيتابعها المواطنون بكل اهتمام، بالرغم من حسرة و خيبة أمل الكثيرين منهم ممن كان يراودهم نجاح مترشحين آخرين في انتخابات بات من الواضح أن حساب الحقل لم يتطابق فيها مع حساب البيدر! ولكن تبقى الإنتخابات هي الإنتخابات في كل الدنيا! لا بد من رابح و لا بد من خاسر! و مع ذلك، ستكون تلك اللحظات هذه المرة مدعاة للتأمل العميق و التساؤل الحذر. فما الذي تغير بالفعل أو كان من الممكن أن يتغير في اللعبة المدهشة للسياسة و التعاطي مع السلطة في موريتانيا؟ ما بين ابريل 1992 و ابريل 2007 “تعايش” الشعب الموريتاني مع رئيسين منتخبين ديمقراطيا هما السيدان معاوية ولد الطايع و سيدي ولد الشيخ عبد الله، و كلاهما قد انتهى به المطاف خارج السلطة عبر انقلاب عسكري أبيض قاده ضباط سامون مقربون في البلاط! أما هل كان ذلك الأمر مبررا أو غير مبرر؟ شرعيا أم غير شرعي؟ فتلك قصة أخرى… لن تغير شيئا من حقيقة الأمر الواقع! …”.
غداة تنصيب الرئيس الأسبق معاوية، في 18 ابريل 1992، كتب الصحفي اللامع محمد فال ولد سيدي ميله- الذي أعتذر له مرة أخرى عن حشره في طقوس هذا التنصيب- في صحيفة “البيان” تحت عنوان “لحظات سعيدة” ما يلي بالنص: “تجري الاستعدادات هذه الأيام لوضع اللمسات الأخيرة على الدولة الموريتانية الجديدة ذات المؤسسات الدستورية اللائقة والتي كرستها إرادة الشعب الموريتاني صاحب الحق. وستبرز الجمهورية الجديدة للناظرين في ثوبها القشب بين الحين والآخر. والرجل الذي أراد لها أن تكون كذالك وضحى في سبيلها بما لديه و وهب لها سيفه ودرعه وترسه، سيبرز إلى جانبها في ثوبه القشب هو الآخر.. وسيحضر الأصدقاء والأقارب والمتطفلون والناس جميعا باستثناء الجيران… لكن غيابهم لن يغض من جلالة المشهد ولا من سحر تلك اللحظات: فسيرى الراؤون موريتانيا الجديدة وهي تدوس النجوم بأخمصيها. لحظات فريدة بالتأكيد. ثم، يصحوا الناس وتستعيد الحياة اليومية تعاستها المعتادة… وتبلى الحلل وهي جديدة.. إلا أن الحضور سيذكرون دوما أنهم عاشوا تلك اللحظات. أما الجمهورية الجديدة فسيبقى لها دائما أن تذكر الرجل الذي اختارها لنفسه – إذا هو نسي- بأنه مخير بين أمرين في معاملتها: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان”.
أما عند تنصيب الرئيس السابق سيدي، في 19 ابريل سنة 2007، فقد كتب السفسطائي الفقير إلى رحمة ربه، صاحب هذا المقال الممجوج، تحت عنوان “بين الليلة و البارحة” ما يلي بالنص: “على وقع برقيات التهاني والتبريكات من كل أرجاء العالم لكل من الرئيسين الموريتانيين الجديد المنتخب وكذا الآخر المنتهية مأموريته، تغمر الموريتانيين هذه الأيام مشاعر فياضة تمتزج فيها نشوة الانتصار والنجاح إلى جانب التعقل وكظم الغيظ على مضض وتغليب التأني والبراغماتية والانشغال بحسابات الربح والخسارة وتخمين المحاصصات بالنسبة لجميع الأطراف التي شاركت في اللعبة. والكل مستسلم لدغدغة الإطراءات العربية والدولية المشيدة بنجاح المسلسل الانتقالي نحو الديمقراطية في موريتانيا والتغني بتفرد تجربة هذا البلد. يتم كل هذا وموريتانيا – التي تقف مجددا على مفترق طرق حاسم – تنتظر موعدا آخر مع التاريخ. إذ، سيجري تنصيب الرئيس المنتخب واستلامه لمقاليد السلطة في 19 ابريل (نيسان) 2007 من طرف المجلس العسكري للعدالة و الديمقراطية الذي قاد المسلسل الانتقالي منذ 3 أغشت 2005. و يبدو أن مشهد تنصيب رئيس الجمهورية سيتكرر للمرة الثانية في تاريخ هذا البلد، بعد أن تم تنصيب أول رئيس منتخب- قبل خمسة عشر سنة- في 18 ابريل (نيسان) سنة 1992!”
فما الذي سيتميز به موسم “تنصيب الرئيس المنتخب” في الخامس من أغسطس (آب) 2009 عن ذينك التنصيبين السابقين؟ هل من جديد حقا؟ أم أن لسان حال الديمقراطية الموريتانية يقول: كل انقلاب و انتم بخير.. و كل مرحلة انتقالية وانتم بخير.. وكل تنصيب رئاسي وانتم بخير.. جزاكم الله خيرا.. عودوا مرة أخرى إلى نومكم!؟ ”
وإذا كانت كل محاولة للتنبؤ بما قد يحصل في المستقبل المنظور تعد من السابق لأوانه فضلا عن كونها غير مواتية من الناحية المنهجية، فإن واجب الدعوة للتأمل و التساؤل المتيقظ عن “ماذا بعد” الانتخابات الرئاسية و نجاح “المترشح” الأبرز محمد ولد عبد العزيز، يظل واردا، بعيدا عن أجواء التحمس المشروع ومواقف التفاؤل و التشاؤم التي تتنازع الرأي العام الوطني هذه الأيام.
فهل سينجح الموريتانيون في التصالح مع ذواتهم قصد وضع تصور مبدع لتشكيل نظام سياسي أو “براديغم “”paradigme مغاير يكون قادرا على الاضطلاع بالمهام المرحلية الجسيمة؟ وما هي أهم ملامح ومقومات ذلك النظام السياسي الجديد، وما هي معالم وسيناريوهات التغييرات والإصلاحات التي تمليها المرحلة وما أجندتها الزمنية الممكنة؟
هل ستطوي فعلا الإنتخابات الرئاسية سجل الأزمة السياسية التي كانت قائمة في البلاد قبل ذلك، لتفتح صفحة جديدة بيضاء؟ هل تمت قراءة ملف تلك الأزمة قراءة صحيحة قصد الإستفادة من أخطاء الماضي و أخذ دروس مفيدة للمستقبل؟ هل نضجت الظروف الموضوعية لإقامة الجمهورية الرابعة في موريتانيا؟ و ما هي الشروط والمستلزمات الضرورية لذلك التحول الكبير؟ أم سيظل مناخ الصحراء بتقلباته المفاجئة سيد الموقف؟
هل سيكون انقلاب 3 أغشت 2005 و صنوه انقلاب 6 أغشت 2008 – اللذين قد أطاحا برئيسين للجمهورية منتخبين ديمقراطيا و منصبين رسميا- مجرد ضجة قامت وانتهت بسلام، من خلال تسليم السلطة لرئيس آخر بعد أن انتخب ديمقراطيا و سيتم تنصيبه غدا؟ أم أن ذينك الانقلابين سيشكلان نهاية فعلية لفترة الاستقرار السياسي النسبي التي عرفتها موريتانيا منذ انقلاب 1984؟ ما هي الضمانات اللازمة لاستقرار موازين الحكم في البلاد و الخروج بها نهائيا من الحلقة المفرغة للإنقلابات العسكرية و للديمقراطيات الانتقالية؟
ما هي رهانات المرحلة القادمة؟ كيف سيكون المستقبل السياسي لـ “موريتانيا الجديدة”؟ هل ستتم إعادة تأهيل و تفعيل الطبيعة الجمهورية لنظام الحكم السياسي في هذه البلاد بما يقيم دعائم ثابتة لتأسيس دولة قادرة على الاضطلاع بجدية وكفاءة بكامل مهامها ومسؤولياتها داخليا وخارجيا على أسس متينة من الحكمة والانفتاح وحسن التقدير واحترام القوانين والنظم والمؤسسات الجمهورية في عملية تفاعل وتكامل وتطور واع و مسؤول خدمة لمصالح الشعب الموريتاني أولا وقبل كل شيء؟
هل سيتم بناء جسور حقيقية وجادة للحوار الديمقراطي بين ومع مختلف الفاعلين السياسيين الوطنيين في الساحة وخارجها وتبني مبادرة إعادة بناء خطاب سياسي وطني عصري يتعالى على الثنائية الكلاسيكية لـ “السلطة و المعارضة” ويقوم على أسس جديدة ترتكز على قضايا: (1) مصلحة، (2) أمن، (3) استقرار، (4) تنمية الجمهورية الإسلامية الموريتانية؟
هل ستحسم – نهائيا – إشكالية شرعية الوصول إلى السلطة وتداولها لصالح التغيير الديمقراطي التعددي والسلمي – بعيدا عن كل أشكال العنف كخيار بديل- مع تبني ميثاق شرف جمهوري لنبذ وتجريم أي شكل آخر مغاير للوصول إلى السلطة؟ و هل ستقلع موريتانيا فعليا نحو نموذج دولة القانون مع تطوير آليات ديمقراطية توفر- على الدوام- حدا مناسبا من الحرية والتعددية الحزبية والمدنية و الإعلامية بما يحسم نهائيا موضوعة التغيير السياسي لصالح الخيار الديمقراطي المدني ذي الطابع السلمي وبما يضمن استتباب السلم الاجتماعي ويحقق التنمية الشاملة والمتوازنة؟
هل سيتم إيجاد حل جذري للمعضلة المزمنة التي تتمثل في تسييس و تجيير مؤسسات الجيش والأمن الوطني في لعبة استغلال واحتكار “العنف العمومي” للدولة كوسيلة للوصول إلى السلطة والتمسك بها تحت أي ذريعة؟ و هل ستوضع ضوابط قانونية واضحة و ميكانيزمات مؤسسية فعالة لتنظيم تعاطي المؤسسات العسكرية والأمنية مع مفردات الحقل السياسي، باعتبارها مؤسسات جمهورية، لها ما لها وعليها ما عليها بموجب القانون ولا يمكن أن تكون- بأي حال من الأحوال- “فوق” الجمهورية أو فوق “الشرعية” أحرى أن تكون في مواجهة معها كما ظل يحدث باستمرار؟
هل ستتم إعادة صياغة مفهوم و مهام الأمن الوطني و تقعيد ممارسته قانونيا و فنيا ومهنيا وأخلاقيا حسب مقتضيات و تقاليد دولة القانون. و هل حان الوقت لتغيير النظرة التقليدية الضيقة للأمن وللدفاع في بلادنا، تلك النظرة المقتصرة على أمن”السلطة الحاكمة” و أمن “الحيز الترابي” على حساب أمن “البشر” أي الناس العاديين، الذين يسمون في الدول الديمقراطية بالمواطنين. إن مثل هذا التغيير في الأفق، يقتضى من الآن فصاعدا أن تركز السياسات الوطنية أولوياتها على المواطن أولا، لتجعل من حفظ كرامته و احترام حقوقه و تحقيق طموحاته في التنمية المستدامة و رعاية مصالحه الحيوية المشروعة نقطة مرجعية لكل عمل وطني مستقبلي .
كل هذه االتساؤلات و غيرها يطرحها لسان الحال على كل الفاعلين السياسيين و بصفة خاصة على النخب و القوى الحية التي أيدت و ساندت الرئيس المنتخب و صوتت له عندما كان مترشحا – كغيره- يجوب البلاد شرقا و غربا خاطبا ود الجماهير العريضة و طالبا أصواتها. و كلنا أمل بأن تكون لدى أولئك الفاعلين و تلك النخب الجرأة و الصراحة و الإحساس بجسامة مسؤولية الأمانة التي يتحملونها لكي يضعوا تلك التساؤلات و غيرها –بحزم و جدية – ضمن “أولويات برامج عملهم” عندما يبدأ قريبا التخطيط لوضع البرنامج الإنتخابي للرئيس المنتخب “عزيز” موضع التنفيذ إن شاء الله.
نعم، لقد صوتت أغلبية الشعب الموريتاني – دون مكابرة- لانتخاب “عزيز” رئيسا للجمهورية و لكنها لم توقع له “شيكا” على بياض ليتصرف على هواه كيفما يشاء. بل، إن نية المترشح عزيز و وعوده المعلن عنها صراحة في خطاباته وأحاديثه و أدبيات حملته الانتخابية حول الإصلاح و التغيير البناء قد شكلت و تشكل أساسا صلبا لذلك التعاقد الأدبي الضمني في ما بين الرئيس المنتخب من جهة مع أغلبية الشعب الموريتانى صاحبة الحق التي أعطته – في أصعب الأوقات- الأصوات الضرورية لفوزه بمقعد رئيس الجمهورية لانتداب خمس سنوات.
إن المطلوب الآن ليس التنظير لإنشاء حزب جديد للدولة بنكهة “جماهيرية” وسط شعب فقير تتجاوز فيه نسبة الأمية 70%، فمثل ذلك الحزب لن يكون – في أحسن الأحوال- سوى نسخة رديئة من الحزب الجمهوري العتيد أو صورة طبق الأصل من حزب عادل، و هي نماذج من الممارسات السياسية معروفة بنزعتها الشمولية و قد كرست ثقافة الأحادية و أضرت بالشعب الموريتاني أكثر مما نفعته. و في الوقت الذي تستحق منا استقالة الرئيس “عزيز” من رئاسة مشروع ذلك الحزب الثناء و التقدير ، فإننا لا نتوقع أقل من الفشل لمثل تلك المشاريع السياسية المناورة، التي لن تجد من يتحمس لها سوى طواغيت المفسدين و طوابير المصفقين المحنطين الذين يهدفون من ورائها إلى تحقيق مآرب بشعة خاصة بهم. و على كل حال، يبدو أن هؤلاء قد شكلوا بالفعل الأغلبية الساحقة التي احتجزت يوم أمس جل مقاعد القاعة الرئيسية في قصر المؤتمرات، بعد أن توافدوا ذكرانا و إناثا و خناثا، أثناء اجتماع لاستئناف أعمال الجمعية العامة لحزب الإتحاد من أجل الجمهورية، في ما يعد أول مؤشر سلبي يظهر في العهد الجديد للرئيس المنتخب “عزيز”.
و لكن..على الجميع أن يتذكروا بأن التخلي عن الدستور البرلماني الموريتاني لسنة 1959 لصالح دستور مستوحي من النظام الرئاسي الفرنسي سنة 1961 هو ما أدى إلى تكريس أحادية حزب الدولة محل التعددية الحزبية الناشئة آنذاك ـ بعد صهر الأحزاب التي كانت قائمة في حزب الشعب الموريتاني الذي أضحي حزبا واحدا بله وحيدا ـ و فيما بعد، أجهزت تداعيات الانقلاب العسكري في الـ 10 من تموز (يوليو) 1978، علي ما تبقـــــي من الوعي الوطني المدني الطامح إلي التحول السياسي ذي الطابع السلمي والديمقراطي. و هذا في الحقيقة هو ما أدى إلى تكريس تقليد سلطوي ذي خلفـــــية عسكرية ـ ظاهرة أو مبطنة ـ تحول شيئا فشيئا – إلي واقع مؤبد في أسلوب الحكم، جرى ويجري التنظير له وترويجه تحت مسميات أخرى متعددة ومتحذلقة، دأبت كل أنظمة الحكم المتعاقبة علي إخفائها تحت أقنعة مستعارة: ابتداء من حزب “الشعب الموريتاني” ومـــــرورا بـ “هياكل تهذيب الجماهير” و”الحزب الجمهوري” و “مستقلي” المرحلة الانتـــقالية ثم “حزب عادل” وانتهاء بمشروع “حزب الإتحاد من أجل الجمهورية” الجاري تأسيسه حاليا.
إن المطلوب حاليا من الرئيس المنتخب “عزيز” – و هو يستعد لتنصيبه غدا من طرف المجلس الدستوري رئيسا شرعيا للبلاد- هو أن يبادر بإعادة ترتيب الأولويات السياسة الداخلية والخارجية للبلاد بشكل عام، ليركز مشروعه الإصلاحي – من بين أمور أخرى- على القضايا التالية باعتبارها ضرورية لمصلحة و أمن واستقرار و تنمية الجمهورية الرابعة في موريتانيا:
• فتح مشاورات واسعة و جدية من أجل وضع تصور للشروط المرجعية لمشروع ثقافي وطني إصلاحي شامل والعمل على القيام بالدراسات التشخيصية الحصيفة لإنجاز هذا المشروع الثقافي الإصلاحي بشكل يعالج مختلف القضايا الحيوية في المجتمع والدولة، خاصة النواحي الدستورية والمؤسسية والسياسية والمدنية والقطاعية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية و كذا السعي لإجراء دراسات وافية من أجل إعادة رسم السياسات الوطنية في مجالات الأمن والدفاع والسياسية الخارجية للدولة على أسس موضوعية وإعادة هيكلة المؤسسات المكلفة بهذه الملفات وفقا للحاجيات والمصالح التي سيكشف عنها التشخيص ويتم تدعيم ذلك التصور بأجندة زمنية محددة لتنفيذ المهام وكذا للمتابعة والتقييم؛
• تعزيز روح الانفتاح والتوافق وتعميق الصلة بين جميع الاتجاهات الإصلاحية الوطنية وتشجيع التواصل وبناء الثقة فيما بين مختلف الأجيال داخل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني قصد بناء جسور حقيقية وجادة للحوار الديمقراطي بين و مع مختلف الفاعلين السياسيين الوطنيين في الساحة وخارجها، و تبني مبادرة إعادة بناء خطاب سياسي وطني يتعالى على الثنائية الكلاسيكية لـ “السلطة والمعارضة” ويقوم على أسس جديدة وجدية تتركز أساسا حول قضايا (1) مصلحة، (2) أمن، (3) استقرار، (4) تنمية الجمهورية الإسلامية الموريتانية؛
• تفعيل أجواء الحياة الديمقراطية التعددية و تطوير ثقافتها من خلال تعميق المشاركة السياسة الايجابية و تشجيع الشفافية في تسيير الأمور العامة و تحسين إجراءات الانتخابات القادمة وضمان الحياد الحقيقي للحكومة والإدارة وتشجيع وسائل الإعلام الرسمي علي الاهتمام بالحوار والمناقشة والمناظرة العلنية حول القضايا والإشكاليات العمومية المطروحة علي الساحة الوطنية والدولية؛
• إعادة هيكلة وتنظيم الأجهزة الحكومية والإدارية للدولة بما يضمن إصلاح القطاعين المدني والعسكري ومؤسساتهما عبر إعادة تحديد الوظائف ورسم الأدوار والصلاحيات والمسؤوليات ورصد الإمكانيات وإدخال آليات فعالة للمتابعة والتقييم والمراقبة المستمرة والحرص علي حسن اختيار الرجال والنساء الأكفاء والنزهاء والوطنيين وكذا السهر على التطبيق الفعلي لمبدأ المكافأة والعقوبة؛
• اجراء إصلاح حقيقي لقطاع العدالة والحرص علي استقلاليته وفصله الفعلي عن جهاز الحكومة وهيمنة الادعاء العام عليه وكذا إعادة تنظيم و تفعيل دور القضاء والمحاكم قصد تكريس العدالة كحق لكل المواطنين علي السواء ومن دون تمييز والحد من الشعور بالظلم والإحباط و التهميش؛
• التصدي لمعالجة ملفات المظالم مهما كانت طبيعتها و مهما كان أصحابها، قصد دراستها و تقييمها بصورة جدية و تشاركية و معلنة بغية إحقاق الحق و إعطاء كل ذي حق حقه و الاستفادة من التجارب المفيدة لكل الأمم و الشعوب و خبراتهم النافعة في هذا المجال؛
• مراجعة و إعادة رسم السياسات الوطنية في مجالات الأمن والدفاع و السياسية الخارجية للدولة على أسس وطنية موضوعية و مهنية و إعادة هيكلة المؤسسات المكلفة بهذه الملفات وفقا للحاجيات و المصالح التي سيكشف عنها التشخيص العلمي و يتم تدعيم هذا التصور الأولي بأجندة زمنية محددة لتنفيذ المهام وكذا المتابعة و التقييم؛
• إنشاء مجلس وطني للأمن القومي، على غرار النماذج الدولية الناجحة (الهند مثلا)، يتألف من شخصيات وطنية معروفة بكونها فوق الشبهات وعالية الأخلاقية والخبرة والموضوعية ويشترك فيه مدنيون وعسكريون وتكلف هذه الهيئة بمساعدة رئيس الجمهورية على اتخاذ القرارات الصحيحة والمفيدة لمصلحة الجمهورية؛
• مراجعة و تفعيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفقر و كذا ميكانيزمات تنفيذها بغية تبني عقيدة تنموية تشاركية جدية و فعالة قادرة على تلبية تطلعات الشعب الموريتاني نحو تحقيق التنمية المستدامة التي تظل أهم مقوماتها تتمثل في القدرة على تصور و تنفيذ الإصلاحات الضرورية و الحرص على تطبيق أسس الحكم الرشيد و نبذ الفساد و ترشيد المصادر و العناية بالإنسان و ظروفه المعيشية و حشد الطاقات الخلاقة و تشجيع قيم التسامح والتضامن و نبذ التقوقع و الانغلاق و مكافحة الفقر و التهميش؟
• استكمال و تفعيل تنفيذ إصلاحات اللامركزية الإدارية، على غرار النماذج الدولية الناجحة (فرنسا مثلا) وذلك من خلال استحداث استصلاح ترابي وتقطيع إداري على أسس المزايا التنافسية avantages comparatifs للوحدات الجغرافية مع استحداث مجالس ولائية CR على مستوى الولايات و مجالس عامة CG على مستوى المقاطعات، يتم انتخاب أعضائها بواسطة الاقتراع العام المباشر و تمنح الصفة القانونية و الوسائل المالية للقيام بمهامها التنموية على المستويين الجهوي والمحلي وافتتاح ممثليات لجميع الإدارات و المصالح المركزية على المستويات الجهوية و المحلية وإعادة تأهيل الكادر الإداري و الفني بغية الاضطلاع بالمهام الجديدة من أجل تقديم الخدمة للسكان عن قرب و تعزيز شعورهم الايجابي بالانتماء للدولة؛
• إعادة الاعتبار لأهمية التواصل والإعلام الحر في عالم اليوم، والمبادأة بإصلاح قطاع الإعلام الرسمي المرئي والمسموع بإعادة رسم وعصرنة إستراتيجية إعلامية للدولة وتحديد الوظيفة التواصلية الجديدة لوسائل الإعلام في ظل سيادة الديمقراطية ودولة القانون من جهة وسن القوانين والمراسيم التطبيقية لحرية إقامة واستغلال مؤسسات إعلامية سمعية وبصرية خصوصية وضمان احترام اختياراتها ومواقفها واستقلالية شؤونها؛
• إصلاح وإعادة تنظيم قطاع الإعلام والتواصل بما يتماشى مع وضع دولة ديمقراطية تعددية ترجع السيادة فيها للشعب والولاء لمؤسسات الجمهورية ويطبق فيها القانون والنظام بمساواة وعدالة. ويمر هذا الإصلاح حتما بإعادة هيكلة وزارة الإعلام و المؤسسات الإعلامية العمومية بما يحدث قطيعة مع الخلفية السيكولوجية المبطنة للخطاب الديماغوجي الرسمي و المتمثلة في التعود على احتقار المتلقي و الإستخفاف بعقله و كذا تفعيل الهيأة العليا للسمعيات البصرية كمؤسسة جمهورية كاملة الصلاحيات تمارس وظيفتها باعتبارها سلطة للتنظيم؛
• إحياء وتطوير بعض المؤسسات الجمهورية الكسيحة، كوسيط الجمهورية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي من حيث هي مؤسسات دستورية قد تشكل مرجعية لتفعيل جهود إصلاح المجتمع المدني و تعزيز قدراته و كذا تنسيق أدواره كشريك كامل الأهلية و كمحاور للحكومة، كما يطالب بذلك اتفاق الشراكة المعروف بـ “كوتونو”Accord de Partenariat de Cotonou 2000 المصادق عليه من طرف الحكومة الموريتانية في إطار الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و مجموعة 77 لدول أفريقيا و الكاريبي و المحيط الهادي و كذا تفعيل وتنشيط أدوار هذه المؤسسات ودعمها بالقدرات البشرية والمهنية والمالية من أجل اضطلاعها بمهامها التنموية والتحكيمية المفيدة؛
• تفعيل حقيقي و تطوير جدي للبرنامج الوطني “للحكم الرشيد” في إطار الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفقر، بما يضمن خلق و تطوير و نشر ثقافة الديمقراطية بين المواطنين، مدنيين و عسكريين، و تشجيع الولاء لمؤسسات الجمهورية و لبرامج و أفكار محددة بدل ثقافة التملق و النفاق و الولاءات الخادعة للأشخاص و للكيانات الضيقة، و إعادة تكوين الموظفين و وكلاء الدولة القائمين على المرافق العمومية وفق ثقافة الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان و رعاية مصالح المواطنين؛
• إصلاح السياسة الخارجية للجمهورية، من خلال بلورة استراتيجية وطنية للسياسة الخارجية واضحة المعالم، تقوم على أساس السعي نحو تحقيق مصلحة وأمن واستقرار وتنمية الجمهورية الإسلامية الموريتانية و تنبني على (أ) احترام اختيارات و قيم الشعب الموريتاني عبر البرلمان أو الاستفتاء (ب) توظيف الكادر المهني المتخصص و صاحب الخبرة (ج) استقراء علمي موضوعي لمعطيات العلاقات الدولية و الممارسة الدبلوماسية و آفاق تطوراتها واتجاهاتها (د) و استغلال جيد و معقلن لمزايا التكنولوجيات الحديثة في مجال الاتصالات و المعلومات و الشبكات الرقمية المستقلة المشفرة و المحمية؛
• تبني الدولة لسياسية وطنية جادة في مجال ترقية البحث العلمي بصفة عامة، و خصوصا في مجالات العلوم الإنسانية و إنشاء و دعم مراكز للدراسات الإستراتيجية و تحليل السياسات الإنمائية وفق المعايير الدولية المعمول بها، بغية تشجيع الإسهامات العلمية الوطنية و ترشيد و عقلنة آليات اتخاذ القرارات، في مختلف الحقول، بما يمكن أصحاب القرار من الوصول إلى الأهداف المرسومة و الحصول على النتائج المتوخاة بنجاعة ومهنية في الأداء؛
و في الأخير، يجب على الرئيس المنتخب و كذا على المترشحين الرئيسيين الذين لم يحالفهم الحظ في هذه الاستحقاقات الرئاسية بل و على كل الفاعلين السياسيين في الساحة الموريتانية أن يتنبهوا إلى حقيقة مفادها أن الشعب الموريتاني قد سئم جعجعة المناورات السياسوية الكاذبة و كذا سيول الوعود الانتخابية المعسولة التي تجرعها الناس منذ سنوات عديدة وضاقوا بها ذرعا. إن حياة هذا الشعب لا يمكن أن تتوقف عند وضعية جامدة، فديناميكيته الذاتية و علاقاته مع الآخرين لا بد أن تستمر و تتغير. و ينتج عن ذلك كم هائل من الأفعال وردود الأفعال التي قد يكون البعض منها اختياريا والبعض الآخر اضطراريا، بيد أنه يجب أن تكون جميعها منظمة و منسقة في إطار سياسة وطنية محكمة ذات أهداف واضحة، توضع في خدمتها الإمكانيات البشرية و المادية و المالية و مناهج العمل الأكثر تطورا خدمة للصالح العام و من أجل الشعب.
كما أن على الجميع أن يتذكروا بأن الطريق نحو تحقيق الديمقراطية والتنمية المستدامة والاستقرار في بلادنا ما يزال طويلا وشاقا. و هو يتطلب من الكل المزيد من الانفتاح و العمل الجاد والتضحية و المثابرة والانضباط والقدرة على ممارسة النقد الذاتي والمراجعة المستمرة، بغية الإسهام الفعال في مسيرة الإصلاح الوطني وتسهيل التحول الديمقراطي وتعزيز قيم المواطنة.
فهنيئا للرئيس المنتخب على ثقة الشعب الموريتاني الذي منحه “ميزة الشك” (L’avantage du doute) بأغلبية أصواته و هو وحده صاحب السيادة بلا منازع و لا يحق لأي كان التشكيك في اختياراته. أما من كانت لديه الأدلة و البراهين على حصول تلاعب أو تزوير، فله كامل الحق في الطعن في النتائج وفق مسطرة إجرائية واضحة. و كذا هنيئا للمترشحين الآخرين على ما قد حصلوا عليه من ثقة الشعب نسبيا، و كان الأولى بهم أن يشكروا الله ثم الشعب على ما منحهم من أصوات كان من الممكن أن يمنحها لغيرهم، أو أن تكون حيادية أو ربما لاغية، بدل التسرع في رفض نتائج الإقتراع العام حتى قبل اكتمال فرزها و الإعلان عنها رسميا من طرف حكومة وحدة وطنية يتولى فيها منصب وزير الداخلية عضو بارز في المعارضة.
أما بالنسبة للنخب و القوى الحية التي ساندت المترشح عزيز و حشدت له التأييد و صوتت له يوم الإقتراع، فهي مدعوة أكثر من غيرها إلى أن تكون وقود التغيير البناء و الإصلاح الحقيقي و أدواته التي لا تكل و لا تمل. كما يطلب منها كذلك، أن تقدم – بكل أمانة و بدون مجاملة- الرأي و النصح و المشورة الصادقة للرئيس المنتخب و لحكومته و أجهزتها المختلفة. و بطبيعة الحال لن تستطيع تلك النخب و القوى الحية تحقيق ذلك إذا ما انحصرت جل اهتماماتها في الصراع على تقاسم المغانم و البحث عن المنافع و المزايا الشخصية على حساب المصلحة العامة و خدمة الشعب.
فهل يقبل الرئيس المنتخب “عزيز” أن يحول فوزه الانتخابي إلى شيء أكبر من ذلك بكثير؟ أي إلى نجاح سياسي حقيقي برسم البلاد و مستقبلها؟ و هل تستطيع النخب و القوى الحية، التي ساندت و صوتت للرئيس المنتخب، أن تساعده في جعل ذلك النجاح السياسي -إذا ما تحقق- قربانا وطنيا لخدمة الديمقراطية والتنمية المستدامة من أجل ازدهار الشعب الموريتاني؟ أم أن هجرة كل امرئ ستبقى إلى ما هاجر أصلا إليه…؟
نواكشوط، 4 أغسطس (آب) 2009
* باحث وخبير استشاري
medsaleck@gmail.com