توزيع الحظوظ….. من المنحوس؟؟ ومن المحظوظ؟؟
توزيع الحظوظ….. من المنحوس؟؟ ومن المحظوظ؟؟
معلوم أن كثيرا من المراقبين حبس أنفاسه طيلة الفترة التي حبس فيها الرئيس اسمَ وزيره الأول في صدره، مما سمح للمتوقعين وأصحاب النبوءات وحتى الحالمين أن يصمموا تشكيلاتهم الحكومية ويشيعوا أمنياتهم، فعجَّت المجالس وامتلأت المواقع، وتضاربت التحليلات، وساعتئذ اشرأبَّتْ أعناق العامة إلى الخارج، بناء على خطابات الحملة وشعارها الوحيد “محاربة الفساد”.
لعل الضالة توجد به، وأملاً في أن تُجلب منه شخوصٌ قادرةٌ على فعل الإصلاح، خابرة بصيغه، عالمة بتصاريفه، فالمتميزون من أبناء الوطن في الخارج سادوا بأنفسهم، وليس بينهم رَحِمٌ مع أرباب العمل، وليس في الدول المتطورة من يرعى إلاًّ ولا ذمة في العامل، ولا سبيل لبقائه في العمل غير جودة أدائه، وقدرته على تحمل ابتلائه، ولعل قدرتهم على الفعل وقابليتهم للانفعال، وما لهم من عزة نفس تأبى العيش بالتملق والتعلق هو ما دفعهم للهجرة، فحُظوا وعادوا بناتجهم إلى بلدهم فشوهدت آثارهم الحميدة.
وآثار الرجال إذا تناهت**إلى التاريخ خير الحاكمين
لذلك؛ ومن أجله ظن الناس بهم خيرا إن همْ عُهد إليهم بأمانة البلد ومُكِّنوا من الصلاحيات، لكن الخبر الذي تأخرت نشرة الأخبار لأجله بدَّد ما تردَّد، ولم يظهَر اسم واحد ممن هذه مواصفاتهم فيما الصحافي عدَّدَ، ولست من الذين يبحثون عن إرضاء الجميع في تشكيل الحكومات ولا غيرها؛ لأن إرضاء الناس غاية لا تدرك، لكنَّ محاولة كسْب أكثرهم فريضة لا تترك.
ولو أخضعت الأمور للنظر أو حُكِّم فيها المنطق لكانت “التوزير” تكليفا لا تشريفا، ولعَدَّ الوزيرُ نفسَه منحوسة، وحُق له ذالك؛ فما من وزارة إلا وتعيش عقودا إلى الوراء، وتحتاج مثلها لِتَتقدَّم، وبشهادة الرئيس نفسِه فالبلد لا يتقدم منذ زمن بعيد، وما لا يتقدم بطبيعته يتقادم، ولست كذالك من القائلين بأن البيان حمل خبرا يصدق عليه قول الشاعر:
الْمستجير بعمرٍو يوم كربته**كالمستجير من الرمضاء بالنار
فذالك منطق متشائم وأسلوب المستبقِ الأحداثَ، واستباقُ الأحداث من شيم الأحداث، أما الملفت الانتباهَ فهو أن اختيار الوزراء لم يُخضع “للتوازنات المجتمعية” ولم تكن الجهة معيارَه، وما كان التمثيل السياسي المحكّمَ فيه، ناهيك عن البعد القبلي؛ إذ غابت قبائلُ ما كان لها أن تغيب وحُيِّدتْ مقاطعاتٌ بأكملها، وهي ما هي في عدد سكانها!! وكثرة نشاطها!! وصدق ولائها، ولأصحابها من الآمال بقدر هذه المعاني. وإن تفهَّم بنوها البركة الكامنة في واد الناقة، و الأسرار الخفية في المذرذرة و المشهودة في بوتلميت، واستوعبوا صلاح كرمسين، وحلقات اركيز وموقع روصو كي يوزر لكلٍّ وزير- فإنهم لم يستسيغوا أن لم يكن لهم نصيب يذكر، وكأنه لا فعل لهم يحمد فيشكر، وقد كان من الممكن أن يتم اختيار شخص يمثل كل المقاطعات بحيث يكون مسكنا في إحداها ومجتمعا في الأخرى، وامتداداته العائلية في الثالثة، ويتمتع بالأهلية العلمية والخبرات والتجارب الكافية، ولو دقق النظر بمثل هذه الطريقة لخرج الوزراء يمثلون كل الجهات شاءت أم أبت، ولكانوا إشراكا لكل القبائل لأن المجتمع بعضه من بعض ولكن…..!!
ولعل أكثر ما حز في نفوسهم شطبهم من قيادات الحرب المزمعة على الفساد، فكأن لسان حالهم يردد:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا**ليوم كريهة وسدادِ ثغر
ربما كان من المفترض أن يتم التأني في اختيار الوزراء بقدر ما تمَّ التأني في تسمية الوزير الأول، فمن القواعد العسكرية أن الحرب التى يود أصحابها الظفر لا تطلق رصاصتها إلا بعد روية كبيرة وحسابات دقيقة تهيئة لمختلف العدة والعتاد، ومن جعل حربَ الفساد شعارَه فليجعل الورع دثاره، والأمانة بندقيته، وخوف الله درعه وسوره، وأناتِ الفقراء صفاراتِه، كما عليه أن يعيد صياغة القوانين والمراسيم والمقررات وأن لا ينشغل بترهات السياسيين، وألاعيب المرجفين ذوي الحرص على المصالح الشخصية، فحذار أن ينخدع رأس النظام بفكرة لم الشمل، وتقريب المعارضة؛ رغبة في الاستقرار، فليس من مصلحته هو أن تنضم المعارضة، ولا فائدة للبلد في ذالك، فمن لا خصوم له لا مخاوف لديه، ولا رقيب عليه، كما أن مصيره في نهاية المطاف الانشغالُ بترضية هذه الشريحة حينا، ومراعاة مشاعر تلك تارة، وإمكانات البلد محدودة، وذات اليد ضيقة، فتنصرف الوجهة عن الإصلاح إلى كسب الخواطر وتتحول الصداقات إلى مضرات:
ومن العداوة ما ينالك نفعه**ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
ولْيكن رئيس الجمهورية على علم أن أضعف البكتيريا قد يودي بحياة الأجسام الصحيحة، وأن خفي العلل أخطرها، ومهما صلب من القائد عزمه واشتدت همته فلا صلاح له إلا بصلاح البطانة:
فقد هدَّ قِدْما عرشَ بلقيسَ هدهدٌ**وخرَّب فارٌ عنوة سدَّ مأرب
تلكم كانت أحاديث العشيات، وأطرافا من سمر القوم في مجالسهم، أما رأيُ الكاتب فإنه: لا داعي للاستعجال ولا مبرر للتبرم ففيما بقي مما قلَّ منه أو كثُرَ نصيبٌ مفروض ليتامى السياسة ومساكين الانتخاب فضلا عن ذوي القربى من أهل الحملة والتصويت، فعسى أن تكون الحظوظ المتبقية قد أعدت لتراعى فيها المعايير الموضوعية، فيتم التدقيق في اختيار السلك الدبلوماسي بما يخدم مصلحة البلد، ويرفع ذكر الدولة، ويمثل المواطنين أحسن تمثيلا، فيكون فرده خطيبا إذا تحدث، حصيفا إذا علق، سريع البديهة جيد الفهم إذا خوطب، فلْيرسل لدول الاتحاد المغاربي من تربطهم به علاقات وصداقات، وليذهب للمشرق من هم أعرف بأهله وذويه القادرون على تجسيد ما هو مختمر في ذاكرة سكانه عن موريتانيا (شنقيط)، ولتكن أوروبا من نصيب طلابها والعاملين بها الخابرين شأنها، فالمعرفة مفتاح النفوس، وإتقان لسان القوم سببٌ لكسب قلوبهم، والإحاطة بعوائد المجتمعات وتواريخها داعية للمودة وجالب من جوالب الثقة بما ترمز له من نضج، وما توحي به من اطلاع ووعي.
على أن الظن بالإدارة الإقليمية أن تكون مجالا لإنصاف من لم يُنصفْ، وحبذا لو روعي في تعيين الولاَة من شروط الكفاية أضعاف ما ينبغي أن تخص به الدبلوماسية فالآذان مشتاقة لأن تسمع سيرة والٍ كان يحاضر بالجامعة، أستاذا لمادة صناعة القرار، أو محاضرا في التنمية الإدارية، بعيدا عن الذين تحنطوا في دهاليز الوزارة فأصبحت حكرا عليهم، ويا ليت الحكام يَخرج بينهم من له تكوين في خدمة العملاء، ودورة في إرضاء المراجعين، حاصلا على دراساتٍ عُلى في التسيير الإداري أو في الإدارة المحلية أو الحضرية، والناس في الداخل متطلعون للتحرر من سلطان الوالي المنبسط على كل الدوائر الحكومية الممتد إلى حيثيات أعمالها، فتدخل الوالي في شئونها أمر لا يبرره منطق ولا تقتضيه مصلحة لأن سلطته على التعليم مربكة، وهيمنته على المستشفيات مهلكة، فلا يعدو أن يمثل الداخلية في اختصاصاتها وما زاد على ذالك بقية إرث استعماري ومظهر غير حضاري، وانتقاصٌ لبقية المسئولين؛ ينتج تداخلا في الاختصاص، ويثمر تعميقا لدولة الفرد، وتعطيلا للمصلحة، ومبلغُه منحُ الولاة سندا لتشريع فسادهم، وأداة لابتزاز غيرهم.
وختاما أقول : إن فكرة الاقتداء بالغير فيما حَسُنَ سنة الأقدمين ووصية القرآن لأمة سيد الأولين والآخرين، فحبذا لو قرر النظام أن يكون جميع الأمناء العامين لكل الوزارات من أصحاب المؤهلات العُلى: دكاترةً خبراءَ، باحثينَ، كلٌّ في ميدانه، وبوصفهم الجهة المنفذة للسياسات، يمنحوا تفويضا مطلقا وتفتح لهم منافذ لاستجلاب ما ينقصهم من أصحاب الخبرة ممن اطلعوا على العوالم المتقدمة، وعايشوا نهضات الدول فبهذه الفكرة يمكن جبر ما انكسر من آمال الفقراء، وتدارك ما نقص من تطلعات المراقبين عند اختيار الحكومة، وطمأنة الشركاء الخارجيين على التوجه الصادق نحو الإصلاح، ولْيكن هذا معلنا وأسلوبا يفاخر به، فالحناجر الشعبية التي يتحدث الرئيس عن تسبيحها وتهليلها بحمده، والأصوات التي يراها أوصلته للمنصب كانت نتاج بيعة بينها وبينه على الرفق بالفقراء ومحاربة الفساد فتلك خلفيتها وضمان بقائها كذالك، وليست على غرار قول القائل :
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي**أفسر ما ذا والهوى لا يفسر
وإذ يجهد الكاتب قلمه بطرح مثل هذه الأفكار وتهدئة تلك المشاعر لفْتا لأنظار من يسوسون الأمور إلى ما هو أولى وأجدى- فإنه مدفوع بما يلاحظه من تردٍّ في قطاع الخدمات، وانهيار في المنظومة الأخلاقية….
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة**على غير إصلاح فدمع مضيع.
الدكتور/ أحمد سالم بن مايأبى
abu_albara1974@yahoo.com