موريتانيا الديمقراطية والجزيرة الموريتانية !

ظلت قناة الجزيرة تنفخ في ‘الانجاز الديمقراطي الموريتاني’ حتى كدنا نصدق ان موريتانيا صارت سويسرا المغرب العربي.

منذ آخر إنقلاب عسكري في موريتانيا (يصعب حصرها ولكنني أقصد ذاك الذي أنهى حكم معاوية ولد الطايع الذي رأى أن علاقة موريتانيا بإسرائيل ضرورة لمستقبل بلده) اهتمت قناة الجزيرة الفضائية بموريتانيا وأخبارها لدرجة أنها نقلت مكتبها مؤقتا من الرباط بعد أن أغلقته هذه إلى نواكشوط بعد أن رحبت به تلك، ومع أن طبيعة القناة الإخبارية تفرض عليها الاهتمام بالأخبار والأحداث الجارية، إلا أن الجزيرة أفرطت في موضوع موريتانيا وانزلقت القناة في خضم تلك التغطية إلي الترويج مباشرة أو مداورة إلي أن موريتانيا هي الجنة الجديدة في عالم العرب حيث الديمقراطية تزدهر وتترعرع من أمام بيت ولد الطايع إلى بوابة بيت ولد عبد الله مرورا ببيت ولد السالك وبيوت غيره من الأولاد وأنها ستنبت خضرة ووردا أمام بيت ولد عبد العزيز آخر الجنرالات الديمقراطيين حتى هذه اللحظة!

لا غبار على الجزيرة في مبدأ التغطية إلا أن الإفراط فيها بهذا الشكل أوحى للمشاهد العربي في المغرب العربي قبل مشرقه بأن سويسرا المغرب العربي هي الآن موريتانيا وبيروت ليست أفضل منها وهي تتربع على عرش سويسرا الشرق العربي منذ أن استقلت إلى يومنا هذاّ!

مشكلة التغطية الإعلامية من هذا النوع، وموريتانيا نموذجا، هي أنها تترك انطباعا لدى المتلقى مفاده أن ما يجري يستحق التغطية وأنه يشكل مصدر أخبار مهمة. والحقيقة ليست هكذا، ذلك أن قناة الجزيرة، كما الديمقراطية في نواكشوط، طارئان قد يزولان بمجرد أن يقرر عريف آخر في ثكنة بالقرب من أحد مراحات الإبل أن يركب دبابة ويتفقد بها القصر الرئاسي ليكتشف طيب المقام فيه فيقرر أن يقيم هناك ليعلن منه في الصباح التالي أن ما فعله كان عملا اضطراريا لا بد منه لتصحيح المسار الديمقراطي الذي أختلف الأولاد كلهم- من ولد هيداله إلي ولد فال- حول كيفية تصحيحه فقرر أن يأتي هو بحفنة من الأولاد الآخرين ليعلموا بقية الأولاد كيفية تصحيح المسار!

ومع احترامي الشديد لمهنية قناة الجزيرة والدقة التي تطبع أغلب ما تذيعه القناة إلا أنني أرى أن تعاطيها مع الشأن الموريتاني بهذه الكيفية وعلى مدى أكثر من سنة أفتقد للرؤية وغابت عنه الرسالة مع تحليه بالمهنية والحرفية العاليتين! ومحصلة الأمر أن القناة خلقت حالة إعلامية لنفسها وجدت في موضوعها (الديمقراطية) ما يستحق التغطية وراحت تقصف المشاهد العربي بأخبار الديمقراطية الناشئة في نواكشوط، واعتقد أن تغطية أخبار الديمقراطية في موريتانيا لم يضاهيها في عدد الساعات والاهتمام إلا تغطية القناة نفسها للحرب على غزة مطلع العام مع الفارق بين الحدثين في الأهمية لدى المواطن العربي. وهذا النوع من الإفراط في التغطية ضمن حالة إعلامية مختلقة هو اختراع أمريكي بامتياز دأبت وسائل الأعلام الأميركية وخاصة المتلفزة منها على ممارسته خاصة أثناء الأزمات التي تواجه الولايات المتحدة ولعلنا نتذكر كيف أن قنوات أميركية على رأسها سي. أن.أن خلقت من العراق بعبع وغول لا يمكن التعايش معه قبل أن يغزو الكويت منذ ما يقرب من العقدين وينتهي به المطاف إلى ما هو عليه اليوم. مع أنني لا أرى ربطا بين الحالتين الموريتانية والعراقية إلا في موضوع التغطية الإعلامية.
ولأنني أجزم أن الموضوع تعاطت معه القناة من زاوية الديمقراطية وغيابها بين العرب لهذا السبب لم أر نفس حجم ومساحة التغطية في قناة الجزيرة الدولية الناطقة بالإنجليزية والموجهة إلى جمهور غير عربي شبع ديمقراطية في أميركا وأوروبا بالذات!

والأكثر من ذلك فأن موضوع المصالحة السياسية بين الأطراف الموريتانية والتي انتهت باتفاق داكار كان مسخرة حقيقة وتصارع على السلطة على حساب مصالح الموريتانيين التعساء منهم والسعداء إلا أن القناة تعمدت عدم طرح هذا الجانب وإنما اهتمت فقط بمتابعة مملة لإحداث المصالحة وما صدر عن ولد داداه أو ولد مسعود وممثلي بقية الأولاد الذين شاركوا في تلك المحاورات المتناقضة مع المبدأ الأساسي الذي تجري باسمه ألا وهو الديمقراطية وحقوق الشعب!

ولأنني أجزم أن ما جرى في موريتانيا لا أساس اجتماعي أو ثقافي له ولهذا لن يستمر وأن أستمر سيقف على ساق واحده صنعها قرار سياسي في حين غابت الأخرى لأنها لا يمكن تركيبها صناعيا ولا زراعتها سياسيا بل تنمو طبيعيا نتيجة تطور اجتماعي ضمن سياق تاريخي طويل والذي لا ساق طبيعية ثانية له هو غير طبيعي مهما ركبنا له من سيقان وقد ينتهي إلى ما انتهت إليه (ديمقراطيات) عربية لا تزال تحيى بيننا ولكن حياتها كموتها: لا أحد يزورها أو يسأل عنها وأن ماتت فلن يتأسف عليها أحد ولا أطن أن أحدا سيقيم لها جنازة!

وحتى لا يعتقد القارئ أنني ضد “الديمقراطية” بثوبها الموريتاني أو غيره من الأثواب فأنني أؤكد احترامي الشديد لموريتانيا وشعبها وإبلها وكافة أولادها والأكثر من هذا فأنني سعيد أن أرى رؤساء موريتانيين سابقين أحياء يرزقون ومحترمين داخل موريتانيا وليس خارجها فقد جرت العادة العربية ألا يكون هنالك رئيس سابق حي في بلده وإنما أما ميت أو منفي! إلا أنني رأيت في تغطية القناة قناة الجزيرة الفضائية محاولة غير مفيدة لتسويق وهم ما كان يجدر بالقناة المعروفة بحصافتها أن تنزلق إليه.

ومع انفضاض “مولد” الديمقراطية الموريتانية بفوز الجنرال السابق ولد عبد العزيز بالرئاسة وتقديم الإتحادين الأفريقي والأوروبي التهاني له على فوزه الكاسح (كتصديق على شرعيته) فأنني أتسأل عن “المولد” الجديد الذي قد تختلقه أية قناة فضائية عربية لتشغلنا به فترة ما بعد شهر رمضان على اعتبار أن لا “موالد” في شهر رمضان الكريم!
مصطفى الفيتوري

ميدل إيست أون لاين

www.middle-east-online.com/?id=82075

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى