ليلة عند الدرك.. سبع ساعات بلا أكسجين

أحمدو ولد عبد القادر إمامي في الشعر وأحد الذين تتلمذ عليهم حرفي في تأتآته الأولى.. ولد قبلي بأربعين عاما؛ بأربعين قامة شعرية، بأربعين قلقا إبداعيا.. بأربعين وترا ما زال يعزف توليفات تأسر الذائقة.. أحمد ولد عبد القادر استضافه الدرك الوطني قبلي بأربعين عاما ـ تقريبا ـ ورغم كل انحناءات تلك الليلة أمام جبروت البذلة الخضراء، إلا أنها كانت مهدا لميلاد خالدته ” ليلة عند الدرك”.. أنا أيضا أمضيت ليلة عند الدرك، ورغم فوارق الزمن والجغرافيا، إلا أنها نفس ليلة ولد عبد القادر التي تمت بصلة قربى لليل الملك الضليل.


تتوقف شاحنة أمام سيارتنا الــ”الكارينا” بعد منتصف الليل بدقائق، يتقافز مراهقون ببذلة الدرك الوطني، يسألون عن أوراق السيارة وعن البطاقات المهنية؟؟؟!! وليس عن بطاقات التعريف.. ينتهي الحوار القصير بزجي وزملائي في مؤخرة تلك الشاحنة، مع ما يربو على ثلاثين شابا.. رغم محاولتي شرح موقفي، والاستفسار عن سبب التوقيف.. استشاط كبيرهم غضبا وقال إنه غير مستعد للنقاش لأن أقصى ما سأتفوه به هو أن هذا الوضع غير سليم ولا منطقي ولا قانوني، وهو يدرك ذلك، إذن لا فائدة من الحوار… سيدي العزيز أنا من المغضوب عليهم بلعنة الشعر في هذا البلد، والضالين بألق الصورة.. أمارس الإخراج السينمائي وأدير مهرجانا سينمائيا سيفتتح من طرف الوزير الأول بعد أقل من أسبوع، وبسبب التحضيرات أضطر للسهر في المكتب حتى هذه الساعة.. هذه هي الوثائق وتلك بطاقة تعريفي وهؤلاء زملائي.. ولكن لا حياة لمن أنادي..

نفذت الأوامر العسكرية المتعجرفة، وحشرت نفسي في زاوية ضيقة، وانطلقت الشاحنة إلى وجهة لا أعلمها.. عشر دقائق بالضبط، توقفت ونزلنا في قيادة أركان الدرك الوطني.. أهلا!.. دار الضيافة؛ عنبر اكتشفت عندما أشرقت شمس الغد أنهم يستخدمونه مرآبا للسيارات، رحبوا بنا على طريقتهم غير المضيافة.. مساحة المرآب حولي 120 متر مربع، ومحيطه قذر، مطمور بأعقاب السجائر وأعواد الثقاب، وبقايا الأطعمة المعلبة.. والغبار؛ يستضيف زهاء الخمسمائة “متشرد” على حد تعبير مضيفينا (أنتم مجموعة من المتشردين وأطفال الشوارع، واللصوص، ضركم أكثر من نفعكم.. وستندمون على اليوم الذي ولدتكم أمهاتكم فيه).. تتزاحم أجسادنا تماما كالبهائم بكثافة أربعة أشخاص في المتر المربع الواحد؛ تصوروا!؛ بل أربعة أشخاص وقدم شخص خامس أو يده.. روائح الغبار والعرق والسجائر والعطور الرديئة.. وروائح أخرى غير مصنفة تتفاعل مع بعضها لتعطي رهبة خاصة للمكان الضيق، المغلق إلا من جهة واحدة ، المسكون بجيوش البعوض والموبوء بسيزيفية الانتظار.. ينادي سيد القوم الذي اكتشفت لاحقا أنه أشدهم غباء : ( انتطموا في دابور هكذا ـ أعتقد أنه يقصد طابور ـ ، وإياكم ثم إياكم من فتح هواتفكم أو الحديث إلى بعضكم.. لا شراب، لا أكل، لا تدخين، لا صلاة، لا نوم ولا قضاء حاجه، من يحمل بطاقة تعريف فليكن هنا، ومن ليست لديه فليبق في مكانه).. يا سبحان الله! لا سؤال عن الوجهة ولا أسباب الخروج ليلا في تلك الساعة ولا حتى السماح بطرح أسئلة.. الغريب أننا لا نعلم لماذا تم اقتيادنا بهذه الطريقة ولا لماذا يمنع التجوال ليلا.. فوضت وزملائي أمرنا لله وقنطنا من إمكانية إيجاد عاقل نتفاهم معه.

لست من المعجبين أصلا بتصريف فعل الأمر، وأنا الشغوف بصيغ المجاملة والاحترام الآدمي (من فضلكم، لو سمحتم، عفوا، شكرا.. إلخ).. أجدني مجبرا على تلقي أوامر تافهة: (أجلس، استدر، اخرس وإلا…) من طغمة من المراهقين المهوسين بالنرجسية، المحكومة أفعالهم بمركب النقص.. تشفق عليهم وأنت تخاطبهم ـ أو على الأصح تستمع إلى تخاريفهم ـ، أنهم يجدون ذواتهم، ويشعرون بالارتياح، وهم يوزعون الإساءة والكلام النابي بالمجان هنا وهناك.. بل ويستخدمون العنف البدني ـ الصفع ـ لكل من تسمح شخصيته بذلك.

ليلتي عند الدرك.. عشت خلالها بعض التفاصيل الصغيرة لقصص من هنا، ولأشخاص من هنا.. صحفيين من مؤسستين إعلاميتين كبيرتين؛ إمام مسجد بتوجنين؛ خبير في تقنيات الاتصال وناشط في المجتمع المدني؛ فنان شعبي ليس من أسرة فنية لكنه معروف إلى حد ما؛ فرقة من الراب كانت تؤدي سهرة موسيقية في سوكوجيم؛ طفل في الخامسة عشر كان يجلب اللبن لأخته من الحانوت المجاور لمنزل أهله؛ شقيقان كانا في طريقهما من المستشفى لعيادة أمهما المريضة؛ مخنث، بائع متجول، ومالك محل لإصلاح الهواتف النقالة بنقطة ساخنة؛ خمسيني يشكو من البواسر ولا يسمح له بقضاء حاجته.. ومجذوب يرفع عقيرته بالدعاء على هؤلاء العسكر الكفرة الذين حرموه متعة قيام الليل.. وشلة من المراهقين يشد بعضهم على أيدي بعض قائلا: “السجن للجدعان..” على طريقة المصريين.. وأنا على يقين أن من بين ضيوف الدرك أيضا لصوص ومخبرون وشخصيات لا تخطر على بال بشر.. فما الذي يجمع بين كل هؤلاء غير الانتماء لوطن أفسده المستعمر ذات مرة، وأفسده السياسيون مرات بعد ذلك.. ويفسده العسكر في الوقت الراهن؟ أي حق يملكه هؤلاء يخولهم توقيف حرية مواطن، ومنعه من حقه البشري والطبيعي في النوم دون جرم اقترفه؟ اللهم إنه الإفلاس.. اللهم إنه الإفلاس.

الحقيقة أنني لست البتة ضد فلسفة حظر التجوال بعد ساعة معينة، لكن شرط أن تكون لها مبرراتها المنطقية.. والحقيقة أنني مستعد للتغابي واعتبار أن هناك إرهابيون يهددون سلامة الأمن العام، وهناك أسباب أخرى لا أدركها لجهلي وبساطة تفكري.. لنتفق.. أليس من حقي آنئذ كمواطن أن أعلم عن طريق وسائل الإعلام بهذا الاستنفار وبمواعيد حظر التجول، حتى يكون لاعتقالي وتوقيف حريتي وجه حق؟.

أيها المتعجرفون، ما هكذا تؤكل الكتف، أعلم أن الانهزام أمام مسؤولياتكم والفشل الذريع في تأدية المهمة المنوطة بكم هو ما يدفعكم إلى حافة اليأس، ويحدو بكم إلى التخبط وضبابية الرؤية.. توقيف حرية المواطنين العاديين المسالمين لن يوقف شلال عدم الثقة الذي يؤثث نظرتنا إليكم.. تضييق الخناق على حريات الأفراد لا يجدي نفعا في فك رباط بالون أزمة تنخر أجهزتهم وتضعكم كل شروق شمس أمام مفترقات طرق تؤدي كلها إلى الهاوية .. أدرك أن سبع ساعات من وقتي أو وقت أي موطن لا تعني لكم شيئا، لكنها بالنسبة لي سبع ساعات بلا أكسجين.. هل بإمكانك تحمل سبع دقائق بلا أكسجين؟

علمونا في دروس التربية المدنية أن الدولة مثلث متساوي الأضلاع: الشعب أولا، والإقليم ثانيا، والسلطة ثالثا وأنتم تبالغون في تقزيم الشعب وتفكيك الإقليم.. لتحويل المثلث مستقيما لكن ليكن في معلومكم أن المستقيم في منطق الرياضيين ليس شكلا هندسيا يراهن عليه..

أعذركم فأنتم لا تعلمون.. أعذركم وأشفق على قومي وعلى علم هذا البلد الذي يقوده أمثالكم.

محمد ولد ادوم

شاعر ومخرج سينمائي

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى