تاريخ الزنوج الموريتانيين ضارب في القدم
بدو أن مثقفينا عاكفون هذه الأيام على التـكـفـير عن ماضي صمتهم السيئ. فمحاضراتهم وملتقياتهم وطاولاتهم المستديرة (مثل الصفر شكلا ومضمونا) أصبحت من الكثرة بحيث عاد بعضهم إلى تناول مواضيع كنا نظن أنها متجاوزة لأنها كانت قد فعلت فعلتها المشينة والمخجلة بلـُـحمتـنا الوطنية.
ي
فماذا يُـفيد ديمقراطيتنا المأمولة إذا كان زنوجُ موريتانيا مجرد وافدين؟ وأي مصلحة لهؤلاء “المثقفين” في عودة الجو المشحون بالكراهية بين البيظان والزنوج؟ وإذا لم يكونوا مدفوعين بأيديولوجيا عنصرية، فأين أدلتهم التاريخية على نظرتهم الإقصائية الشوفينية البغيضة؟ وإذا كانوا يجهلون تاريخ موريتانيا، فتلك مسألة غير مقبولة من “مثقفين” بـ”مستواهم”. وإذا كانوا مطلعين على التاريخ، وينكرونه لأسباب خاصة، فتلك خيانة للضمير لا تليق بمن يقدمون أنفسهم على أنهم “نخبة”.
إننا بحاجة إلى نخبة جديدة أو متجددة تحْـقِـنـنا بجُـرعة من مصْـــل التصالح الوطني قادرةٍ على أن تـنسينا أحداث 89 المؤلمة؛ لتعيد ترميم علاقاتـنا: عسانا نبدأ معركة التنمية بعيدا عن الملاسنات العرقية التافهة والمعيقة لمسيرة موريتانيا الجمعوية..
فنقاش “موريتانية الزنوج” لا مبرر له ما دامت نظرة عابرة لكتب التاريخ والآثار وأسماء المواضع تكفي للتدليل على أنهم في هذه البلاد أقدم من جلِّ ساكنتها.
يقول السيد محمد بن إبراهيم بن محمد الفالي في كتاب “تاج المناقب والفصول في مآثر القلاقمة آل الشريف ببزول” إن “ما تذكره المصادر وتورده الروايات وتدل عليه الحفريات هو أن هذه البلاد قبل الإسلام كانت مأهولة بخليط من الشعوب السوداء والبيضاء: فيهم اليهودية والنصرانية والوثنية”.
وما قد يغيب عن هؤلاء المثقفين (أو ما يُـغـيّـبونه عمدا) هو أن زنوج موريتانيا كانوا هنا على مر العصور، بل إنهم أسلموا قبل مجيئ المرابطين، وأكثر من ذلك شاركوا المرابطين في دحر القبائل البربرية المستعصية، ومن ثم احتلال المغرب. ويرى مؤرخو الولوف أن انطلاقة المرابطين كانت من شبه جزيرة سان الويس نافينَ انطلاقتهم من جزيرة تيدره كما يرى مؤرخو المغرب.. يقول محمد جوف في كتاب “تاريخ المدارس القرآنية بغرب إفريقيا”: لقد “اختار عبد الله بن ياسين جزيرة سان الويس مركزا لقيادته. واستطاع أن يجمع ألف مقاتل من الولف والبرابرة والفلان”.
وإذا كان “مثقفونا” قد درسوا شيئا من تاريخ المرابطين، فإنهم سيقفون كثيرا عند قول ابن خلدون: “ضحضاح في الصيف، غمرٌ في الشتاء”؛ لأن وصفا كهذا ينطبق على النهر أكثر مما ينطبق على المحيط.
وهكذا يقول ولد حامدن في موسوعته: “على افتراض أن ابن خلدون يعني نهر السنغال، فربما كانت هذه الجزيرة هي التي تقوم عليها اليوم مدينة سان الويس. وهذا ما تقوله الحكايات الشعبية لقبائل الولف، أما الحكايات الشعبية لقبائل التكارير فتقول إنها جزيرة قريبه من مدينة بودور. أما على قول ابن أبي زرع وابن الخطيب أنها جزيرة في المحيط، فلعلها جزيرة تيدره الواقعة بين انواكشوط وانواذيبو”..
أما عن مشاركة الزنوج في إقامة الدولة المرابطية فيذكر المؤرخ ولد حامدن أن “عناصر من الزنوج قد شاركوا المرابطين في حروبهم”؛ فكان لبى وارَجابى- زعيم التكرور- مع يحيى بن عمر “في هذا الحصار”، كما ورد اسم أمدُجْـنو في من كان مع أبي بكر بن عمر في درعه. وللتوضيح فـ”أمدُ” تعني أحمد في اللغات الزنجية، و”اجْـنو” تعني الزنجي بالبربرية، وهذا ما يُستشف منه أن أحمد الزنجي (أمد) ولبي واجابي لعبا أدوارا كبيرة، وإلا لما حفظ التاريخ اسميْــهما.
ومن يـبحث عن أدلة تاريخية على قدم الزنوج بهذه الأرض، وما لعبوه من أدوار بارزة، يـُـلقي نظرة على كتاب “مناهل الصفاء في أخبار ملوك الشرفاء” للوزير القشتالي (المغربي) الذي جاء فيه أن الشريف محمد فال ابن إبراهيم فال (أحد شرفاء كنارْ) كان مع وفد أعيان الولف والتكارير والفلان الذين استقبلوا سنة 996 هـ جيش المنصور السعدي وثـنـوْه – عن طريق المفاوضات- عن إفساد الجنوب الموريتاني بعد ما هدم تمبكتو كما هو معروف.
وفي مخطوط للمؤرخ باكا أن بعض الزنوج والى المغافرة في شربـبه وبعضهم والى الزوايا.
وقد أورد العلامة محمد اليدالي صاحب كتاب “شيّـم الزوايا” أن ناصر الدين لما فتح شمامه، وعزل ملوك الزنوج، ولـّـى عليهم القاضي عثمان. فأراد القاضي عثمان أن يولي عليهم من هو أهل لذلك، فطلب من “فالات كنار” (أبناء الشريف ببزول) أن يتولوا الأمر، فرفضوا قائلين: هؤلاء أخوالنا [يعنون الزنوج] ولا نريد أن نأخذ مُـلكهم، لكن سنقترح عليكم رجلا هو أعدلهم. وكان هذا الرجل هو أخ أبجنقار: ملكة الوالو، وفيه وردت مقولة ناصر الدين مخاطبا القاضي عثمان: “استعمله وهو قاتلك”.
وتوضيحا لذلك فقد قتل أصحاب مشروع دولة ناصر الدين ملك شمامة (أو ملك بعض ممالكها) المعروف ب “فارا” وولوا مكانه يريم كودي (وهو صهره) فمالأ المغافرة ضدهم، وقتل القاضي عثمان “ثالث الأئمة” حسب تعبير ولد حامدن الذي يذكر أن أوديكه بن أبي أيوب (أحد زعماء أولا اخليفه) تآمر مع بوركرك، رئيس زنوج شمامة، ورؤساء قبيلتيْ الرغيوات وبارانْ ضد جماعة قضاة زوايا شرببه.
لقد شارك الزنوج الموريتانيون في الكثير من الحروب خاصة على مستوى الإمارات الجنوبية؛ فكانوا يتحالفون مع بعض الأطراف مع أو ضد أطراف أخرى؛ فقد تحالف التكارير – مثلا- مع البراكنة ضد الترارزة في عدة معارك كان من أبرزها يوم “المرفك” سنة 1785 الذي قتل فيه غيلة أمير الترازرة (اعلى الكوري ولد أعمر ولد اعلي) من طرف أحد رماة الفلان. وللتشديد على حضور الزنوج، نورد ما ذكر الدكتور محمد المختار ولد السعد في كتاب”إمارة الترارزة وعلاقاتها التجارية و السياسية مع الفرنسيين من 1703 إلى 1860 ” من أن شرني L.P. CHERNY قال “إن مجموعات البولار التي استأنفت زراعة المزارع الواقعة قبالة بودور من جنوب كندي (أي ما بين اللكات وبودور) ابتداء من 1868 ، كانت ملزمة بدفع أشكال مختلفة من آباخ (الضرائب) لأمير الترارزه مقابل السماح لها بزراعة تلك المزارع”. وإذا كان ولد السعد أورد ما قال شرني في سياق توضيح حدود إمارة الترارزة شرقا، إلا أننا نفهم من كلمة “استأنفت” أن البولار كانوا يزرعون تلك الأرض قبل 1868 بفترة طويلة. أما دفعهم للضرائب فلا يعني أي شيء فهو كمنح البيظان لنفس الضرائب، عن زراعة أرض ما، لنفس الأمراء مقابل الحماية، تماما كما كانت مجموعات من اليبظان تدفع الضرائب لبعض الأمراء عن التقاط العلك في مناطق معينة.
وحسب أرشيف الإدارة الفرنسية لما وراء البحار، فقد أحرق المستعمر- في بدايات القرن العشرين- أكثر من ثمانين محظرة للفلان خصوصا والتكارير عموما كانت قائمة لأمد طويل على الضفة اليمنى لنهر السنغال.
والحقيقة أن من ينفي وجود زنوج أصليين في هذه البلاد، إنما ينفي – بالإضافة إليهم- هوية عشرات قبائل البيظان الذين ينحدرون من أصول زنجية. ومن المفارقة أن من بين “مثقفينا” الناكرين لوجود زنوج أصليين في موريتانيا من ينتمي سلاليا إلى مجموعة زنجية ذائبة في مجتمع البيظان منذ عدة قرون. وقلما يوجد مجتمع من البيظان في الترارزة والبراكنة والعصابة والحوضين إلا وبه أفخاذ أو أسر من أصل زنجي. وإلى هذا يذهب المؤرخ ولد السعد حين يقول: “وتعتبر مجموعة عزونه (أولاد آكشار، أولاد بنيوك ولكباعات) المتمركزة منذ عدة قرون في وادي السنغال الأسفل [ولاية الترارزة] من أكثر مجموعات الترارزة اختلاطا عرقيا حيث ذابت فيها مجموعات زنجية قديمة”.
ودون الدخول في تفاصيل مملة، يجب على هؤلاء “المثقفين” أن يعرفوا أن إحدى مدننا التاريخية (ولاته) أُسست من طرف سرغلات سنة 1214 “عندما تفرقوا من غانه “حسب المختار ولد حامدن. وعندما مر الرحالة ابن بطوطة بولاته (إيولاتن حينها) سنة 1352 كان ملكها سونينكيا يسمى فاربا.
أما شنقيط، وإن أجمعنا على أن بناءها تم بفضل جهود محمد قلي وأعمر يبني (وثالث لهما) سنة 1262، غير أن اشتقاق اسم المدينة من “شن كدي” (وهما كلمتان زنجيتا الأصل أو آزيريتان – والآزيرية مزيج من السرغلية والبربرية ما زالت له بقايا- تعنيان “مربط الخيل” أو، في رواية للعلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في “صحيحة النقل”: “عيون الخيل”) تعطي الانطباع بأنها مدينة زنجية وثنية قديمة جدا اندثرت فأعاد بناءها أولئك الرجال بعد قرون وقرون.
ويقول الشاعر امحمد بن أحمد يوره في كتاب “إخبار الأحبار بأخبار الآبار” بعد شرح معنى تـندكسمي بالبربرية: إن “أول من سكنها ألمان دمت، جد أحرار جلمت الذين منهم الولي العالم المنفق ألمان بوبكر. وقيل إن آثار القرى التي هناك آثارهم”. ويقول محقق الكتاب الباحث الراحل أحمد ولد الحسن (جمال) أن الشيخ محمد المامي قال في كتاب “البادية” انه رأى ألمان بوبكر يقيم الحدود بيده..
هذه القرية التي ما تزال بها بقية آثار للزنوج تبعد فقط 60 كلم جنوب شرقي انواكشوط، وبها قبر العالم محمد سالم ولد ألما والأمير محمد فال ولد عمير.
كما يذكر ولد أحمد يوره أن أصل آوليكات (70 كلم شرقي انواكشوط) “أوجك بالبربرية، لأن هناك قلبا من حفـْـر السوادين [الزنوج] الأول، منها موضع الساقية التي احتفروها قديما وأطلعوا منها الماء فصار يَـغترف فيها القائم والقاعد بلا حبل ولا دلو، ثم لعب بها الزمان.. فلم يـبـق منها أثر. وما زالت فيها بقايا من مدر وحجر”.
أما أغمباميت (90 كلم شمال شرقي انواكشوط) فيقول عنها ولد أحمد يوره بأنها تصغير (مبربر) لـ “أمبام” وهو الحمار بالسودانية [الولفية] ..
هذه القرية الخالية من أي حياة، والتي يبدو أنها كانت ولفية، تحوي بين حصاها قبر اللغوي الكبير قطرب الديماني.. أضف إلى ذلك أن كرمسين تعني بالولفية دار مسين، وانتينو تعني الحارس الليلي بمعناه العسكري إلى آخر عشرات القرى والتلال والوديان التي ما زالت تحافظ على أسمائها الزنجية.
والحقيقة أنه لا أحد ينكر وجود زنوج موريتانيين منحدرين من مجندين سنغاليين (Des Tirailleurs) غير أنهم يمثلون نسبة أقل من واحد في المائة من زنوج موريتانيا.. وحتى هؤلاء فقد تزوجوا قبل عشرات السنين بموريتانيات وأنجبوا موريتانيين، وتزوج أبناؤهم الموريتانيون بموريتانيات وأنجبوا موريتانيين، ولم يعد التشكيك في انتمائهم لموريتانيا مقبولا، فهم مثل الموريتانيين من أصول فرنسية أو مغربية أو لبنانية…
أما الزنوج الموريتانيون الأصليون فانتماؤهم لموريتانيا لا يقبل الطعن أو المساومة، بل إن طرح هويتهم الموريتانية للنقاش جريمة تستحق العقوبة لأنها محاولة خطيرة ومسمومة لزعزعة السلم المدني وتفكيك أواصر الوحدة الوطنية.
وقد كان بإمكان مثقفي ما بعد 3 أغسطس أن يغسلوا عن وجوههم عار سنوات الصمت المخزي دون المساس بحرمة هوياتنا.
ملاحظة:
هذا المقال نشر ابان المرحلة الانتقالية 2005 على خلفية نقاشات حول الهوية دارت حينها.
نعيد هنا نشره إسهاما في النقاشات المماثلة الدائرة حاليا على خلفية الاضرابات والإضرابات المعاكسة ذات الطابع العرقي التي تشهدها الجامعة هذه الأيام.
المصدر : موقع التيسير الثقافي