قوميون في حالة دفاع……
غطت على الساحة السياسية والإعلامية لفترة من الوقت ظلال التحركات والتصريحات الصادرة عن الأحزاب القومية في موريتانيا، والردود المعاكسة التي صدرت هي الأخرى عن مناوئيهم وخصومهم.
يبدو في أول وهلة أن هناك حراكا مدروسا بعناية، ومخططا له بدقة من قبل القائمين على هذه الأحزاب، يحدوهم الأمل لرص صفوفها ترميما لما هو موجود وطلبا لما هو مفقود، ولم لا في في تجميع عناوينها العديدة بعدد حروف اللغة العربية ” المحاصرة ” وتوحيدا لشتاتها الذي تفرق أيادي سبأ، وتخندق في صفوف متقابلة بين الموالاة والمعارضة لأسباب ليس المقام مقام عرض لها.
قد يفهم البعض مخطأ أن هذا الحراك ذا طابع هجومي، أو يصطنع خصوما، التيار القومي أبعد ما يكون حاجة لهم، فلا قدراته الإعلامية وهو ـ الذي رغم قدرة بعض قادته وأعضائه المذهلة على امتشاق صهوة القلم العصية ـ لا يتوفر على موقع إخباري واحد يتبنى آراءه ويدافع عنها في عصر الناس فيه على دين إعلامهم، ولا حتى أولوياته وأجندته السياسية، التي يظهر أنها مشحونة بأمور أخر تمس صميم بينة التنظيمات القومية المتعددة، لعل من بينها تمهيد الأرضية المناسبة لتحقيق الوحدة الفكرية والتنظيمية، تجعله يهدر جهده في معركة لن تفصل في حربه الطويلة مع من يصفهم بالتغريبيين.
بل إن هناك أسبابا يدركها من يدركها وتغيب عن البعض، تتلخص في مجملها حول المرارة التي يعانيها قادة وحتى قاعدة التيار القومي العربي من هذا التشتت والفرقة التي قسمت الجزء الواحد إلى أجزاء عدة، تزداد فواصلها يوما بعد يوم، عدا عن انهيار السند القومي، وضعف الدعم الذي لا يمكن لأي جهة سياسية من العيش دونه، وهذا ما نلمسه في قلة وضعف الأنشطة السياسية والإعلامية لها. مقابل ازدياد تلحظه العين في السيطرة شبه المطلقة للإعلام الموجه الممول والخاضع للتيارين الفرنكفوني والإسلامي.
هذا إضافة إلى التغول الإعلامي والسياسي لليسار الذي لا يبدي تحمسا كبيرا في الدفاع عن الهوية الحضارية لموريتانيا وحاضنتها الثقافة العربية الإسلامية، بل يستغل أي سانحة بسبب أو بدونه للنيل من الأحزاب القومية وما هجومه اللاذع عليها بمناسبة زيارتها للجماهيرية متهما إياها ببيع الوطن في مزاد علني عنا ببعيد..
إلا أن السبب الأبرز كان تضحية التيار الإسلامي بأحد أسس برامجه وهو دعم اللغة العربية حتى لا يظهر وكأنه يساند القوميين، وربما أنه كان يحس في ذلك الوقت حاجتهم الماسة له، وكان بطبيعة الحال فيما إذا تبنى موقفهم، سيظهرهم الطرف الرائد صاحب المبادرة، والقادر على توجيه دفة السياسة، وهو الأمر الذي يبدو أن الحسابات السياسية لرفاق ولد منصور لا تحبذه؛ حتى ولو فسر موقفهم الغريب هذا وكأنهم ينكلون أو يتشفون من خصوم طالما نظروا إليهم والى تصرفاتهم بعين الريبة والشك، فالتاريخ المشترك بين التيارين يبدو أنه يضفي بظلاله على أي تحرك قد يقرب بينهما.
يدرك القوميون الآن وأكثر من أي وقت مضى حاجتهم لتجاوز وضعية الرؤوس المتعددة والتي تشبه إلى حد التطابق الخطوط المتوازية التي لن تلتقي، ومراجعة واقعية ومجردة وجريئة لمسيرتهم السياسية، آخذين بعين الاعتبار النتائج وأسبابها، ناظرين للمستقبل واكراهاته التي لا ترحم ضعيفا أو صغيرا حتى ولو كان على حق؛ فالعصر عصر حق القوة وليس قوة الحق.
وهم مطالبون بتبسيط آرائهم النخبوية الحالمة والمعقدة وتقريبها من الواقع المعاش؛ واقع الخبزة ناقصة الوزن والراتب فاقد التوازن، واقع الإرهاب والبطالة والدعوات الفئوية التجزيئية، واقع الإنسان الشارد التائه الذي لم يعد يصدق شيئا ولا يثق في شيء مما يدور حوله؛ لكثرة ما وُعد فأُخلف، ومُني فصبر وانتظر وما تغير شيء إلا للأسوأ.
وقبل هذا وذاك على التيار القومي أن يعالج بصورة مستعجلة هذا الشرخ المتمدد طولا وعرضا في علاقاتهم مع التيار الإسلامي، فما يجمع بينهما أكثر مما يفرق، وحدود التلاقي وحتى التماهي أفقيا وعموديا بين الخطابين القومي والإسلامي أصبحت من الوضوح بمكان يسهل معه التدليل إلى حاجة التيارين لبعضهما، حتى أن المتابع أو المتلقي العادي أصبح لا يميز بين الخطابين لأي الحقلين ينتمي أو من أي الطرفين يصدر إلا من خلال معرفته السابقة بمُصدره، وعلى هذا فلا يخطئ من يرى بأنهما يلعبان في نفس الساحة، وربما هذا ما قد يزيد من الحساسية المفرطة بين الطرفين.
ليس من الوارد قبل تجاوز هذه العقبات والتحديات الحديث عن انتفاض أو هجوم قومي على هذا الطرف أو ذاك، ولو كان يستحق هذا الهجوم، أو عن محاولة القوميين لفرض أجندات معينة، ولا حتى عن المواجهة الفعلية والمتكافئة للخطاب التغريبي الآخذ في التمدد والتكلس على مفاصل هذا الوطن إن بدعم الجهات النافذة داخليا وخارجيا أو بتخاذل من يفترض فيه الوقوف الحازم في وجهه.
مولاي أحمد ولد لمونك


