ثمن الرسوب : أو حتى لا نعبر من تحت الحِمل

الحلقة الثانية:” مواطنون غير حقيقيين”

” يا صاحب الجلالة إن الخطوة الأولى في سبيل تحقيق أحلامنا هي بالضرورة أن نستيقظ”
بهذه العبارة، التي أضحت مثلا ، أجاب أول رئيس للوزراء قي المملكة المتحدة ، روبرت والبولRobert. Walpole ،الملك جورج الأول Georges 1er (العاهل البريطاني الذي لا يتحدث الانجليزية)، بعد أن كلمه مخمورا عن حلمه إلحاق الدمار باليعقوبيينJacobite

واليعقوبيون حركة موالية للملك جاك الثاني الذي أطاح به تحالف مكون من الجيش الهولندي والبروتستانت الفرنسيون Huguenot سنة 1688م. وتعتبر هذه الحركة الملوك من خارج عائلة استوارت stuart منتحلي صفة. وبالنسبة لهم لــيست المـــلــكـــة اليزابت الثانيةElisabeth II إلا السيدة فيلب أميرة وهلستن. فهم بهذا حالمون أزليون.

ويميز بين هذه الحركة و نادي اليعقوبيين، الذي هو أيضا حلم بمثالية الثورة الفرنسية أنعشته بعض الأوساط البرلمانية والصحفية، وظل مستساغا في الحياة الباريسية إلي أن أطنب المحامي والثائر الكبير روبس ابييرRobespierre في الممارسة الراديكالية، فغدا الحلم هوسا مرعبا أودي بالجميع بما فيهم روبس ابيير نفسه في ظل دمار هائل التراكم ،تسبب في تحريم النادي وتحويل مقره إلي سوق بأمر ثوري سنة 1795م، ومع ذلك واصلوا الحلم.

كما تستعمل عبارة اليعقوبيين لوصف الكنيسة السريانية الأرتودكسية الشرقية التي أسسها القديس يعقوب البرادعيJacques Baradée في أعقاب دعم الإمبراطور البيزنطي مارقيان Marcien لِحلم النخب المزيفة Contre éliteِ في مسعاها لإضعاف البطريركية الأنطاكية. فتم الانشقاق الكنسي الذي كرسه لقاء 541م الشهير والمعروف تاريخيا بمجمع خلقدونية Concile de chalcedoine ،وهو حلم متنازع الأهواء تسبب في تدعيم ما أطلق عليه جان بول سارير Jean Paul Sartre الخدعة البابوية Imposture pontificale

لست ادري في الواقع ماذا يدفعني لتوظيف الموروث الحضاري لهذه الأمم الحالمة، وماذا أروم من وراء هذا الاستخدام؟

لست أدري صراحة؟

ربما يكون تشابه تاريخية الأحداث. لست أدري؟ فنحن أعوان القضاء مولعون بالتسلسل المفضي إلي نتائج معللة.

علي كل حال، كل شيئي له سبب.

غير أنه من المؤكد أن توسمي الخير في حكومتنا ، يجعلني أقدر أحلامها الرائعة وبالأخص حلمي: ابريكسل والحوار،وأساهم في همِ البحث عن أنجع السبل لتجسيد هذه الأحلام الحكومية باستقراء تجارب الأمم .

ومهما كانت أهمية الحلم فان الحلم بتنفيذ الأحلام ليس إلا إمعانا في النوم وبالتالي استمرارٌ في الممارسات الحالمة.

فالحلمان المخصوصان قد يرتبا منافع يستفيد منها الجميع، حتى نحن “المواطنون غير الحقيقيين” الذين لا تنطبق علينا- مع الأسف- مواصفات المواطن الحقيقي الوارد تحديدها في مداخلة رسمية لأحد وزرائنا في برنامج بثه التلفزيون الموريتاني مؤخرا.

وبغض النظر عن المفهوم الحقوقي للمواطنة ،فإنني أتفهم الوزير ،الذي كان قراره الكريم ابتكارا جديدا في ميدان قوانين الأحوال الشخصية ، فهو في الواقع لم ينف عنا صفة المواطنة ،وإنما تناول بالنفي صفة المواطنة الحقيقية ، فنحن بحسبه موريتانيون ، وهذه مسلمة لا يجادل فيها الوزير، وأنى يصير الجدل في المسلمات؟

وكيف؟

ألم نكن وقودا للتغير كما أراد أهله: البناء، والمؤتمن… في ظل الاستقرار؟

أليس همنا التصفيق كلما تكلم الرئيس؟

ألم نتغلب ،حتى قال الرئيس إننا أغلبية الكرسي؟

ألم ُنــبدد؟ ألم نُــؤيد؟ ما ذا لم نفعل؟

لكننا ، مع ذلك ، لسنا مواطنين حقيقيين لسببين:

أولهما أننا لا نسكن في أحياء المواطنين الحقيقيين ، وثانيهما أن معاليه، الذي هو شخصية إستراتيجية تساهم في وضع سياسات عامة تمس مستقيل الأمة، لم يشأ أن يمنحنا الصفة، فنحن بهذا مواطنون من الدرجة الثانية ،مثل السود في نظام ابرتيدapartheid والأغيارTiers Etat في فرنسا ما قبل الثورة

وما علينا -والحالة هذه- إلا أن نتقبل المنحة الوزارية ،رافعين الأكف إلي العلي القدير ،سائلين لمعاليه موفور التمكين ومستجدين عطفه ورضاه، حتى لا يتناول النفي المواطنة ذاتها ،وتكون الطامة.

فكم ذا بمصرُ من المضحكات == كما قال فيها أبو الطــيــبِ

وكم غضب النــــاس من قبلنا == لسلب الحقوق ولم تغضبِ

ألفنـــا الخمــــــول ويـــا ليـتـنـا == ألفنا الخمــول ولم تكـــذبِ

لكن ،قصة الوزير ليست هي الموضوع المطروح . فقط ولكي لا نستمر مأخوذين بالوهج التايواني لنخب تبذر اليأس و تعطل حركة المطالبة بالإصلاح ، أردت الإشارة لهذه العقيدة الوزارية الموغلة في الحرمان …. فهل من مفر من الرسوب إذا كان الحصاد هو هذا؟
وعموما فلا بأس، المهم أن الوزير الأول، أكد أن نتائج ابر يكسل يستفيد منها كل الموريتانيين، وهو ما من شأنه أن يسمح بدمجنا، نحن” المواطنون عير الحقيقيين” في العملية التنموية، و هذا أمرٌ ممتاز.

أما عملية الحوار الذي هو مشاورة سياسية بين المعارضة والمناصرة، تخص حصرا المواطنين الحقيقيين، فنحن غير معنيين بها، وهذا ما لا يزعجنا.

يتركز إذا شغلنا علي الدعاء للحكومة عسي أن توفق في إخضاع الإدارة لخطابها المثالي، وتصير الإدارة أداة لتنفيذ البرنامج الحكومي أو-علي الأقل- في تناغم معه، فلا معنى لحكومة تناقض مع إدارتها.

لكنني ، وأنا إداري ،أدرك أن الإدارة لما تنعتق بعد من عوائقها ،ولا أقصد الفساد بالضرورة ، بل لا يزال النظام الإداري يستنزف قدراته في معارك هامشية لا تخدم الوصول إلي غاية تحويل النسق الإداري من ممارسة سلطوية إلي منظومة تسدى الخدمات بتجرد وتقنية وازنة.

وتندلع المعارك الهامشية هذه، بين مكونات النظام الإداري نفسه ،وبينه وبين السلطة القضائية في جولات “سريالية” تمتهن قوة الشيء المقضى به، وكأن مسؤولينا لم يتدبروا رد تشرشل Churchill علي القائد دوكلاس باديرDouglas Bader الذي جاء مستاءَ يشكو أحد القضاة، منعه من الطيران.

فقد قال العجوز تشرشل ” خير لبريطانيا أن تهزم في الحرب من أن تُبلى بخزي أبديِِ يدمي شرف الدولة، برفضها الامتثال لأوامر القضاء”

ومع احترامي للجهود المبذولة، فان مطمح الاستفادة من نتائج ابريكسل لن يجدي ما لم يضع نصب عينيه تحرير الإدارة من :

1- اختلال التنظيم :La défectuosité de l’organisation المتجلي في ميوع المسؤولية العامة dilution de la responsabilité publique Phénomène de والمساهم بدوره في خلق حالة خطيرة، حالة تحصر السلطات في يد شخص واحد هو رجل المهام one man show وهي وضعية أدراماتيكية ،جسدها خيال الظل الصيني، ثم طورتها بإبداع الكوميديا الايطالية لاحقا، وفيها .يقوم بطل فريد بكل الأدوار.
ولقد غدت العبارة تستخدم في علم التدبيرManagement لوصف سوء توزيع المهام، المصدر الأول للفشل وتآكل القدرة علي انتهاج المجابهة الجماعية المتجردة لهموم الناس.

ومن تجليات هذه الحالة ، امتناع المرؤوس عن امتثال الأوامر،و الازدراء بالتراتبية التسلسلية للإدارة.

غير أن أخطر تجليات الحالة، هو ما يشاع من احتماء البعض بغير قوة القانون. ولقد عجت المواقع الالكترونية في الأيام الأخيرة بأمثلة اكتوى فيها المتردد علي المصالح الإدارية يظلم مسؤولينا ،حتى ارتفعت في الآفاق صيحات المثلومين الذين لم يجدوا إلا الشقاء

2- عدم فاعلية نظام الرقابة :L’inefficience du système de contrôle ولأن الرقابة متعددة الفوائد فهي خطيرة ،و قد تؤدي نتائج عكسية تحمل بذور فناء النظام المُراقبِ .

و يبقي نظام الاغتناء الإداريSystème d’acquisition administrative،المصمم من طرف الجمعية الفرنسية للتنظيم AFNOR ، في النصف الأول من القرن الماضي عائقا حقيقيا ، يمنح سلطة تقديرية مطلقة للمتعهد بالنفقة ، والسلطة التقديرية لا ترتب المسؤولية حسب إمامي القانون العام عبد الرزاق السنهوري و جورج فدل Georges Vedel، وهذا ما يفتح باب التأويل و التحايل الذي دفعنا و ندفع ثمنه دائما.

ثم إن الطابع الإتهامي لعملية الرقابة ،وخرق مبدء قرينة البراءة، وما يرافق ذلك من ضغط نفسي ،كلها أمور تجعل المسيرين يفقدون المبادرة و الإبداع ، و بالتالي يعرقلون عملية الإنماء، مرتكبين بذاك خطأ لا يقل جسامة عن اختلاس المال العام ، وهو الامتناع عن الإنفاق في الأوجه الضرورية .

وإذا كان الموظف لا يساوي إلا ما تمنحه الدولة من وقار، فان الدولة كذلك لا تساوي لدى الموظف إلا ما يساويه لديها ، كما علمني فقيه السوسيولوجيا الإدارية ، أستاذي الجليل الدكتور. رشدي فكار، رحمه الله.

و كي لا تتكرر المعانات ونضَيِع ابريكسل كما ضيعنا باريس ودكار فنحرج الرئيس و الحكومة، لا بد للنظام الإداري أن يترفع عن معاركه الصغيرة. حتى لا يعبر من تحت الحِمل, مستمرا بذلك في حرماننا نحن” المواطنون غير الحقيقيين”

يتواصل

في المشاركة المقبلة ربما نعرف ما إذا كنا عبرنا من تحت الحِمل أم لا ؟

الأستاذ/عبد الله العالم

إداري- خبير استشاري

abdellahialem@yahoo.fr

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى