ثمن الرسوب: أو حتى لا نعبر من تحت الحِمل

الحلقة الثالثة: هل نحن حقا تائهون؟

لعل الهجوم الإرهابي الذي استهدف المنطقة العسكرية في النعمة، يدعونا إلي الانخراط في مسلك وطني يتجاوز الإدانة….. في ديناميكية كفاحية يسمو بها ألمها إلي مرحلة التضحية.، إذ لم يعد السب يكفي لصد الرياح التي تذرو الرصاص.

ولن تتمكن موريتانيا – في جميع الأحوال- من امتلاك ذاتها والطموح إلي مستقبل أكثر أمنا، ما لم تنبذ اللغة المتداولة…لغة الإسراف في جلد الذات و السير في ظلال المنفعة، وتتحدث بصوت آخر… غير صوت التخوين الذي طالما ابتزتنا به النخب المزيفة.

تلك النخب المواصلة لدورة الإفقار وامتصاص مقدرات الأمة و التي وصفتها قي بداية هذه المعالجات بالمسؤولة :

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

– عن عدم تنقية العقيدة الشعبية من الأردان والشوائب التي لحقت بها عبر العصور، كالتزمت والانحلال، وذلك بسبب قصور فهمها لمذهبنا المالكي الأشعري،مما تسبب في جعل شبابنا وقودا للنار التي نصلى بها

– وعن مسخ كنهنا الثقافي بواسطة تركيزها الدائم على فك لحمتنا والتشكيك في وجداننا، عن طريق البغي السياسي الممهد لدولة الشتات

– و عن تخريب مسلماتنا الاقتصادية والمالية بخلقها طوابير من آلاف الجياع مقابل إثراء مشئوم يفرق بين المرء وأخيه. . . وهى أخيرا مسؤولة بسبب ممارستها الطويلة لعدم المسؤولية .

فهل نخن أمام نخب ،أم أننا أمام مزيج من عصبية الظلم وغباء التجبر، همه الأول تحديد عمر التيه ،تاركا شأن الأمن القومي للقدر المحتوم ؟ لست ادري؟

علي كل حال، فخمسون عاما من التيه، هي ما ُوصف به حصاد عمرنا الهزيل في ميدان الممارسة السياسية منذ الاستقلال. والتيه صيغة ملطفة للضياع المفضي للهلاك. فمـــــــا أصعب أن نسلك دروب الخيال طول هذا الوقت، وكم هو مرهق تحمل نصف قرن من الضياع.

غير أن التنبه للتيه لا بد أن يكون متجردا، كي يصير حميدا ومشابها لما مارسته النخب عبر التاريخ باعتباره دورا رياديا يرمي إلي ترشيد الشعوب وتحريرها من خدر الوهم، ليرفدها بالقدرة العقلانية المعينة علي تحديد مكمن الداء، فيسمج بالاستشفاء دون لعن الماضي، وقت إذ فقط يمكن تلمس معالم طريق الإنقاذ

وظيفة التنبه للتيه مثلا، أعانت الملك يوسف بن أيوب المعروف بصلاح الدين الأيوبي علي التحسين من ظروف أهل الشام ومصر ومن ثم محاصرة النخب المزيفة في مسعاها لتشتيت القوة، مما يخولها الانفراد بالسلطان.

ولقد منحه ذلك حظوة في قلوب الناس وهممهم، كانت احد العوامل المركزية في زيادة الحماس وبالتالي هزيمة الإرهاب وتحرير القدس سنة 1187

كما أضفى الإمبراطور نابليون سنة 1800- بعد تنبهه لتيه النخب- طابعا اجتماعيا علي النظامين الإداري والقضائي فنظم الحياة بتشريعات ملائمة هي أصل سلك الوظيفة العمومية ونظام الاستئناف، سبيلا إلي تصحيح الأخطاء وضمان تساوي الفرص.

وليس القانون المدني الذي هو المرجع الحقيقي للقوانين الوضعية وكذا عقلنة الإنفاق منذ بإنشاء محاكم الحسابات في سبتمبر1807و إنشاء الباكالوريا في مارس 1810 لفائدة تعميم التعليم الثانوي الذي لم يكن موجودا بسبب احتكار النخب المزيفة للفلم إلا ثمار لذلك التنبه.
ولقد كان للنظام المتري Métrage (الثورة الحقيقية في مجال المعاملات)، بالغ الأثر في ردع الغش وغيره من الإصلاحات، الدور الأبرز في خلق إنسان مطمئن إلي الإنصاف (وليس العدل بالضرورة)،يملك ذاته ،ليضحي بها وقت الضرورة ضد الإرهاب

التنبه للتيه كذلك ألهم الرئيس أبراهام لينكون(أول رئيس جمهوري) رفض تعطيل مساهمة جزء من المجتمع في دورة الإنماء ، فألغى الرق سنة1863، كما حال قراره إبداء الكثير من التسامح اتجاه الجنوبيين المهزومين دون تنامي خطر الشعور بالدونية، وهو القرار المتخذ ضد إرادة النخب المزيفة الراغبة في الإرهاب

.هكذا إذا، تلاحظ القيمة الإنتاجية لوظيفة التنبه للتيه لدي المجتمعات عبر الزمن ،كما يلاحظ الطابع الاستراتيجي لهذه الوظيفة المتجردة و الضامنة للتشغيل الشامل لكافة موارد المجتمع بما فيها الأمن، فماذا حصدنا نحن من التنبه للتيه؟

لا شيء غير لعن ظلام الماضي دون التطلع إلي النور ، مكتفين بأن “سيأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون”، مواصلين الانبهار بالوهج التايواني للنخب المزيفة، التي تبذر اليأس وتفتي بعصمة الحكام، الذين هم أنصاف آلهة، كان قدومهم موعد مع القدر، فهم ملهمون، وهم فوق البشر.

فهل نحن خالقي أرباب جدد؟ أم دعاة نهضة وطن؟

لقد علمنا التاريخ باستمرار إلي أين توصل مثل هذه السُنن:

فالانشقاق الكنسي الذي أدى إلي الخراب الروحي في ارويا و الآئل إلي أرذل الممارسة، كمكننة العلاقات الاجتماعية وزواج المثليين ، كان- و كما هو- تعبير متطرف عن الحاجة إلي الصدق ،ردة فعل ساعية للتحرر من زيف النخب التي من كثرة امتهانها للتحريف ، اقتنعت بأكذوبة تأليه البابا وعصمة الرهبان ، مرتكبة بذلك اخطر جرم في حق النبي عسى عليه السلام ، الذي حُول دينه إلي مشروع سياسي ،يبتز العامة ويرشى الخاصة في سبيل المنافع ،تارة بمنح صكوك الغفران، وتارة أخرى بتطويع الحق الرباني وجعله أداة للتسلط علي رقاب الناس

وإذا كان البروتستانت كاللوثرية Luthérianisme و الكلفينية Calvinisme وغيرهما ، أكثر انتشارا في العالم من باقي المسيحية ،فسر ذلك عائد إلي التنبه المتجرد للتيه الرافض لثقافة الكذب المبنية علي الكمال والعصمة من الأخطاء

و نحن هنا في هذا المنكب البرزخي، نـُلبس الوظيفة لُبسا غريبا ، يساعد علي تنامي كل أشكال الإرهاب، إذ أتقنت النخب المحيطة بالحاكمين التكيف مع صروف العاديات المتلاحقة، وهذا ما أعتقد انه دعي رئيس الجمهورية إلي استخدام تعبير “أغلبية الكرسي” لوصف البعض، خلال مؤتمر صحفي عقده بمدينة روصو. فكم كان الرئيس موفقا في استنتاجه الذي يدعمه التاريخ القريب.

ففي نهاية السبعينيات أضافت هذه النخب إلي بيان الرئيس المصطفي، أن قد جاء الحق وزهق الباطل، وأنَ عشرون عاما من التيه تكفي لكي يبغض الشعب ابن الأمة الذي كان يوصف قيل ساعات بالبار.

ومع ذلك لم نستشعر النور المنسكب من نافذة الانقلاب.

فماذا جنينا؟

و لأن النخب لم تجد الوقت لتحلي بختمها بيان الرئيس محمد خونه، تداركت الخلل بتهذيب الجماهير نابذة الحكم البائد، الذي خُدعنا فيه ،فأبادنا ،كما أبادنا صروف الليالي والجدود العواثر، سالكين بذلك مسلك إخوة لنا من قبيلة جرهم.

رغم ذلك لم يكن للمواطن تلمس الفرق بين المقدم و العقيد.

فكم ربحنا؟

في إدارة الرئيس معاوية، لم يكن للنخب إلا أن تتصدى لتحديد عمر التيه، بعد أن جمهرت الدولة والشعب، مستغلة ظروف الخواء.

الرئيسان اعل وسيد، كلاهما خضع لضغط التحديد النخبوي للتيه، فأعطي وصفه الخاص به: التصويت الأبيض ،وتداخل المهام

فهل نحن حقا إلي هذا الحد تائهون؟

وبماذا أفادنا التنبه التيه؟

و لماذا لا يخلق هذا المسعى قيمة جديدة علي طريق تحقيق الأمن القومي الذي هو محك الرهان كما حدث مع أمم أخرى؟

والي متى يضل التنبه للتيه مجرد مظهر للمسلكية العبثية التي طالما مارستها النخب لترويج بضاعتها كلما أحست البوار؟

لست ادري ؟

لكن اغلب الظن أن هذه الممارسة، ناموس يخرج من ذات المشكاة التي ننبذها اليوم ، مشكاة الإمعان في الحرمان الذي من رحمه يولد التطرف ، وهو لعمري ارث ثقيل نئن تحت وطئه في إطار تصرفنا المندرس خارج السياق والمؤدي لا محالة إلي خلل التدبير، وبالتالي الاستمرار في التيه. فندبوا كمن ينبذ التيه ثم بواصل مسار الضياع مغردا خارج السرب.

ولقد كلفنا هذا المسلك الكثير، وسيكلفنا أكثر، ذلك أن انعدام الانسجام في إطار التوجه عامل رسوب أساسي، قد لا نقدر علي ثمنه، فيرهقنا إلي الأبد. وهذا شيء خطير، أرجو نبذه، كما أرجو أن يكون هو الذي تناوله رئيس الجمهورية بالشجب في رده علي مراسلة الجزيرة

ويذكرني تحديدنا عمر التيه، الذي هو في كل الأحوال، انجراف عن موضوع الأمن القومي، بقصة احد شعرائنا انشد – في خروج رهيب عن الموضوع- بكائية بها تعزل عديم التهذيب- خلال ندوة شعرية لشجب الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، فرد عليه الشيخ عدود، رحمه الله، بكلمة “انديسان”.

وانديسان عبارة افريقية، يستخدمها أخوتنا في الضفة بمختلف أعراقهم، للتعبير عن الحسرة و المعانات، أجرى التحريف اللغوي Corruption linguistique علي التراتبية الحركية لأحرفها تغييرا،فبدل الرفع جزما ،ربما لكون العرب لا تبدأ بساكن ،كما أضاف ألـــــفا ليـــنة تنطق همزا قبل النون التي استحدثت.

وفي ذات الانجراف اللساني مدها التداول العربي بأبعاد ومعان جديدة، فغدت، ردعا في شكل تمجيد يغلفه العتب الساخر، والردع هو ما نحتاجه اليوم كسلاح أخير في وجه الانتشار المخيف للوهم.

هذا الوهم المتجدد الساعي إلي تخوين قطاعات عريضة من الشعب وتخويف السلط المتعاقبة من الاستقواء بالخبرة الرافضة للتزييف المبتذل، أعاد باستمرار إنتاج أجيال من منظري المعارك الهامشية التي تستنزف العمر وتخصب الترَب للإرهاب.

وستظل هذه النخب الفاقدة الحظوة و الهيبة في قلوب الناس، المصدر الأول للقلق بالنسبة للجميع، وليست السلط التي تدعي مساندتها في مأمن من خطرها. وطبيعي أن لا يستطيع أي قائد في ظل تشوش مماثل تطبيق إصلاح ذي الأثر يحمي الأمة من المخاطر.

ذلك أن المسعى الاستهلاكي لبعض المتعلمين (ولا أقول المثقفين)، العاملين علي هامش المنفعة كان دائما قويا بما فيه الكفاية لتحوير فكرة الدولة إلي مجرد نظام للنهب وتعطيل المطالبة بالإصلاح وعبادة الحاكم، ثم سبه بعد أن يرحل.

فالي متى نواصل تقديس قادتنا ،ثم نوغل في سبهم بعد الرحيل ؟

ولماذا لا نقف مع الرئيس في وجه “أغلبية الكرسي” التي هي إرهاب داخلي يعوق الحرب علي الإرهاب الخارجي ؟

يتواصل……..
في المشاركة المقبلة ربما نعرف ما إذا كنا عبرنا من تحت الحمل أم لا

* العبور من تحت الحمل ،بكسر الحاء وجزم الميم، مثل حساني يستخدم لذم عدم الاكتراث بما يصيب الأهل ( تخاظ الراس من تحت التظيت) و”التظيت “هي وعاء به بضاعة يحمل علي الدابة في العير المعروف عندنا ب “الرفك”

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى