في مكتبه المتواضع شرقي مدينة بوسطن في ولاية ماساشوستس الأمريكية. يجلس العجوز الأمريكي ” جين شارب ” في كل صباح ليقرأ باهتمام شديد الرسائل الواردة إلى بريده الإلكتروني, وليتابع التفاعلات العالمية المستمرة مع كتاباته المستفيضة وإسهاماته الكثيفة في دراسات ونظريات الصراع اللاعنفي.
على مدى خمسة عقود كاملة, كرس العجوز الثمانيني “جين شارب” كافة كتاباته الفكرية وجهوده البحثية من أجل صياغة خطط وإستراتيجيات خاصة بالصراع اللاعنفي والانقلابات السلمية والثورات المخملية الناعمة.
يعتقد “جين شارب” بأن الصراع هو أمر طبيعي لا مفر منه, ولا بد من وجوده في سلوك المجتمعات البشرية قاطبة, لذا يحاول “شارب” أن يجعل من هذا الصراع ممارسة سلمية لا عنفيه, تخلو من الأسلحة والقتال وسفك الدماء.
يبدي “شارب” معارضته الشديدة لشتى أنواع العنف ويعتبره شذوذاً عن روح الإنسانية والأخلاق.
العجوز الأمريكي يعارض مفاهيم: الأنظمة الدكتاتورية والانقلابات العسكرية والثورات العنفية وما يترتب عليها من قمع سلطوي. كما ويؤكد في العديد من كتاباته على أن العنف لا يمكن بأي من الأحوال أن يكون هو الحل الأمثل للصراع. في كتابه “هناك بدائل حقيقية” يؤكد “شارب” على وجود بدائل سلمية ولا عنفيه عديدة يمكن الاستعاضة بها عن العنف والممارسات الوحشية والقمعية.
على غرار الوصفات التي يضعها الأطباء لمرضى السمنة المفرطة, قام “شارب” بجذب انتباه أنصار وحركات المعارضة في العالم إلى وصفة فريدة مكونه من 198 إستراتيجية لاعنفيه, تمثل في مجملها نموذجاً مثالياً ومتكاملاً لإطلاق الثورات السلمية والانقلابات الغير عنفيه.
تأثر الكثير من أنصار المعارضة والتحرر في شتى أرجاء العالم بكتابات شارب وخصوصاً بوصفته اللاعنفية المكونة من 198 إستراتيجية. أيقن الكثيرون بأن إستراتيجيات شارب ال198 كفيلة بقلب أي نظام دكتاتوري في العالم.
بالفعل أخذ الخصوم السياسيين والمتربصين بأنظمة الحكم من المعارضين بتطبيق إستراتيجيات شارب والاستعانة بمؤلفاته الموغلة في الإسهاب والتفصيل.
لمسات شارب في مجال التخطيط للعمل اللاعنفي ظهرت بشكل جلي وواضح في مسلكيات المعارضة في كثير من دول شرق أوروبا والبلاد الآسيوية والشرق الأوسط. وفي بعض الأحيان تولى شارب بنفسه تدريب نشطاء المعارضة في بعض هذه الدول.
تأثر شارب أشد التأثر بالماهاتما غاندي, وقد ألف كتاباً تناول فيه إسهامات غاندي ودوره كملهم ومساهم فعال في ترسيخ مفهوم السلوك اللاعنفي في النضال والحراك السلمي في العمل الثوري.
في العام 1983 قام شارب بتأسيس معهد دراسات يختص بشؤون الصراع اللاعنفي أطلق عليه إسم “معهد البرت إنشتاين” نسبة إلى عالم الفيزياء الشهير ومكتشف النظرية النسبية في الفيزياء “ألبرت إنشتاين” , والذي يعد نصيراً بارزاً للسلم العالمي واللاعنف.
الكثيرون أساؤوا الظن بالعجوز الثمانيني “شارب” وكالوا له الاتهامات وهاجموه شر هجوم. فالنظام الإيراني على سبيل المثال, تذمر مراراً من كتابات شارب, واتهمته مؤسسات الدولة الإيرانية بتهييج المعارضة في البلاد. ذات التذمر والاستياء صدر عن الرئيس الفنزويلي “هوغو تشافيز” الذي هاجم جين شارب ومعهد ألبرت إنشتاين بضراوة, واتهمهما أيضاً بتهييج المعارضة في بلاده.
الإتهام الذي طالما وجه لجين شارب هو الترويج للإمبريالية الأمريكية, واتهم أيضاً بالعمل لمصلحة جهاز الاستخبارات الأمريكية وحلف الناتو وذلك من خلال سعيه لتحقيق أهدافهم في تفكيك العالم وإغراقه في بحر من الفوضى والانقلابات الناعمة, لتتمكن الاستخبارات الأمريكية والناتو من تحقيق الأهداف التي لا يكون بالوسع تحقيقها بواسطة الحملات العسكرية.
يدافع شارب عن نفسه ويرفض هذه الاتهامات بشده, ويؤكد على أنه لا يتلقى التعليمات من جهاز الاستخبارات الأمريكية أو أي أطراف حكومية أخرى, كما ويؤكد على أن معهد ألبرت إنشتاين لا يتلقى أياً من أنواع الدعم الحكومي.
166 عالماً ومفكراً من صفوة الأكاديميين العاملين بالجامعات الأمريكية بعثوا برسالة دعم وتأييد لجين شارب ومعهد ألبرت إنشتاين, كما وأثنوا على الدور الريادي الذي يقوم به شارب ومعهده في نشر مبادئ الحرية والديمقراطية والسلام في النطاق العالمي.
“نعوم تشومسكي” و “هاورد زن” كانوا على رأس قائمة الموقعين على رسالة الدعم والتأييد هذه.
نحن كفلسطينيين و عرب معنيين بأخذ العلم الذي يسطره جين شارب, ومعنيين كذلك بالتفكر في الوصفات النضالية التي يعدها ببراعة ذلك العجوز المحنك.
يجب علينا كفلسطينيين وعرب أن نجرب كافة أنواع النضال, بما فيها النضال اللاعنفي.
النضال اللاعنفي المقصود به هنا لا يعني بالمطلق حالة السلام الجامدة أو الخنوع والاستسلام الذي ينشده البعض.
النضال اللاعنفي هو حالة ثورية تتفق مع النضال العنفي المسلح في الحماسة والولاء للوطن والفداء, لكن تتنافر معها في الأسلوب والطريقة والأدوات .
العجوز الأمريكي “شارب” دخل عقده التاسع ولا يزال شخصية مثيرة للجدل. أثر كثيراً في سلوك البشرية في عهدها المعاصر,لكن الإعلام لم يعطيه حقه بالقدر المناسب. يتهمه الكثيرون بالعمل وفقاً لأجندة الاستخبارات الأمريكية, لكن هذا الإتهام وإن صح الإدعاء به, فهو لا يسيء لشخص شارب, لأنه بالأساس مواطن أمريكي, ولا يوجد عيب أو حرج في عمل مواطن ما لصالح مخابرات بلاده.
هذا الأمر لا يعنينا كثيراً بقدر ما تعنينا إسهامات العجوز شارب ونظرياته واستراتيجياته الذكية, التي تتطلب الذكاء والفطنة في التنفيذ, وتحتاج ذخيرة العقول الواعية المستنيرة بدلاُ من تلك الذخيرة المعدنية.
“جين شارب” مفكر كبير, ساهم في إرساء السلم العالمي وساهم في حقن دماء البشرية, لذلك يبدو أحق وعن جدارة بنيل جائزة نوبل للسلام والتي ذهبت إلى المستهتر باراك أوباما, الذي نال الجائزة وهو لا يستحقها على الإطلاق.
لكن خارج إطار البحوث والنظريات الجامدة التي يعمل بها جين شارب, يبقى أن نسأله عن رأيه في سياسة بلادة الخارجية, وعن الجرائم الهوجاء والممارسات الهمجية التي ارتكبتها الولايات المتحدة في حق الإنسانية.