اللامعقول في موضوعة الاستقلال
تعكس مساحة اللامعقول في أي خطاب فرديا كان أم جماعيا، درجة الرواسب
الأولية “ما قبل المنطقية ” وحجم الطفح اللاواعي الناتج عن الرغبة في
بناء عوالم سيكولوجية متخيلة للاحتماء بها من مرير الواقع، أو سيادة
الثقافة النمطية غير الملونة في الذاكرة المدركة، أو للشعور بفقدان
السيطرة على المصيرـ حسب تعبير(سيمان) ـ بما يصاحبه من شعور بالعجز عن
إمكانية التأثير في الواقع وتحقيق الطموحات، ومن ثم سيادة التوقعات
المنخفضة لتأثير الأدوار، أو لغياب المعنى الموجه للسلوك، أو لضبابية
المعايير المحددة لما هو مشروع و ما هو غير مشروع، بما يصاحبه من سيادة
عدم الاضطلاع بالمسئوليات العامة و الأنشطة المنتظمة، وحتى المسئوليات
الزوجية والأسرية..
ويكفي أن نتفحص الواقع الموريتاني، من خلال دراسات ميدانية أو مؤشرات
تقارير التنمية البشرية، أو أقرب المصادر “سحنات المتحدثين المنهكة ” في
المشاهد الطقسية (الكارنفالية) في تشييد أهرامات “الينبغيات” البعيدة من
الواقع، حتى نستحضر أهمية أن ” الله وحده الذي لا يحمد على مكروه سواه”
وأن ما يلوكه بعض المتعلمين ” المروضين ” من كلام نمطي، مثل : ” ترقيم
الجمهوريات إلى ثالثة ورابعة.. ” ومفاهيم النهضة والتجربة الديمقراطية..”
هو أشبه ما يكون بمن يضجع تحت خيمة ويناقش الانجازات في المصاعد
الكهربائية المثبتة بها، وكأنه في حالة “نوام” أو سير أثناء النوم، أو
يحاول استنساخ أرواح الآخرين، في تطفل مقيت على حيازة ما للغير، وهي
خاصية أكثر ما تشيع في التركيبة الذهنية التي تبخس نفسها في أعماقها، و
هي خاصية يمكن قياسها بسهولة في موريتانيا، حين التحقق ـ على سبيل المثال
لا الحصرـ من كثير من الألقاب العلمية ” الدكتور،الخبير ” وحتى الانتساب
والتخصص الأكاديمي..
صحيح أن الخطاب الذي لا يمت للواقع بصلة هو الأكثر إغراء للناخب بصورة
عامة، و الناخب التعبيري أو غير العقلاني بصورة أخص، والذي يبحث عن مظلة
سيكولوجية من كوابيس مصيره المفلس، الذي لا يحتمل الصبر عليه، وبما أن
الخطاب الإنشائي يعتمد الينبغيات، ويدغدغ المشاعر، فإن المشاهد يميل إلى
تصديقه، كعالم مشيد من ” أحلام اليقظة والهلوسات ” بديلا أو مخرجا وحيدا
متاحا له.
وبما أن اللغة تساهم في تشييد عوالمنا بما يشبه ” الفهرسة ”
لمتتالية التعقل، فقد رفع من مستوى ” الكلمة ” إلى حد أنها لم تعد تكتفي
بتسويغ الواقع، وإنما أيضا تحل محله وتحدده، بحسب اتساع مساحة اللامعقول
فيه، بما يترتب على ذلك من اغتراب الإنسان عن نفسه في ذلك الواقع،
والتوحد معه و استدماجه في الذات، إلى حد الانزعاج من أي محاولة
للاستفاقة منه, وكأنها عملية تكسير لعظامه أو سلخه من هويته.
ويعد هذا مؤشرا على سيادة ” الاغتراب المعرفي ” ـ حسب المنظور
السوسيولوجي للاغتراب ـ لدى ( توكفيل، تونيز و ميرتون ) وغبرهم، بما
ينتج عنه من قصور في التصورات العقلية عن المشاهد الواقعية، ومن ثم غياب
التفسير الرشيد لمجريات الواقع، وميل للمتعلمين إلى الخضوع للمسيطرين،
وسهولة انفصالهم عن واقع مجتمعهم، ومن ثم تعرضهم لمزيد من الاغتراب
الذاتي، الذي يؤشر بدوره إلى تزايد الشعور بعدم القدرة على إيجاد الأنشطة
المكافأة ذاتيا، وما يترتب على ذلك من عدم الشعور بالرضي، الذي يعد أحد
الأضلاع الأساسية للسلامة النفسية.
وهكذا،وفي السياق ذاته، توصلك الملاحظة الواقعية، إلى أنه على عكس
المعطيات الموضوعية، يتغنى سكان ” واضعي اليد ” أو سكان الأكواخ بأمجاد
سكان ” الفلل ” ويتفانون في الدفاع عن الحق في التعدي على حقوقهم، تمهيدا
لشرعنه انتهاجهم لنفس المسلك،وتواطؤا مع عبارة : ” دعه يختلس دعه يمر،
ليفسح لي فرصة أن أختلس”.
حقا، يبدو أن سوء الطالع يلاحق باستمرار المجتمع الذي يؤسس وعيه
بوطنه على معايير غير نابعة من تطور تراثه الحضاري، ومستوردة بزيفها، إلى
حد يجعله يتآمر أو بتواطؤ ضد نفسه، إلى الحد الذي لا يدرك ولا يعرف ولا
يسائل معه مؤسساته عن أبسط أبسط حقوقه الوطنية، مثل: توفير الحياة
الآدمية الضرورية، وتوفير مياه النهر العذبة للاستفادة منها في ذلك،
بدلا من هدرها في المحيط، وإقامة مؤسسات علمية لرصد معدلات التلوث في
المياه أو الواردات الغذائية أو الدوائية، أو مراقبة الصحة الاجتماعية
والنفسية للمجتمع والأفراد من المسئولين والعامة، وحماية المجتمع من
الاختراق، بمنع الترويج للسلع والرموز الصهيونية ” ملابس النجم
السداسي”..الخ، و بدلا من المطالبة بذلك والمحاسبة في التقصير بصدده،
يستمر الزهو بمجرد السماح له بلعب دور ( الكمبرص) في ترديد الأناشيد
الاحتفالية بأمجاد الانجازات التي لا توجد خارج نصوص الإنشاء اللغوي، في
مشهد مثالي ” للاغتراب بسلب المعرفة ” الذي يترتب على تغييب هدف
المعرفة، المتمثل في وضوح الرؤية بالواقع، حيث يتم حجب المعرفة بصورة
متكاملة بالظواهر الاجتماعية، إما من خلال التشويش على الإدراك، أو من
خلال تحديد مواضيع التفكير العقلي بعيدا عن الواقع، أو من خلالهما معا،
حيث يتم إقصاء بعض التخصصات المعرفية من مجالات التعليم، مثل : العلوم
السلوكية ” السوسيوسيكولوجية ” أو خلطها بمعارف أخرى لتمييع رسالتها
وتشويه منهجها ـ كما لاحظ العلامة عبد الصمد الديالمي،في كتابته حول
ملامح تطور علم الاجتماع في المغرب ـ و هكذا تسود المعارف غير الرشيدة أو
السهلة الترويض، أو التي لا تخوض مجالاتها في المواضيع الواقعية التي
يحسها الإنسان أو ترفع من مستوى الرشد في وعيه بوضعه، سواء بالنسبة لغيره
في فترة ما قبل الاستقلال أو ما بعد 50 سنة من الاحتفاء به.
أجل، إن من سوء الطالع أن تقدس أوهامك إلى حد يلجمك عن مجرد التفكير
في بشاعتها، بدلا من الصراخ في وجهها على طريقة العبقري ( نيتشه ) قائلا
: ” اقتلوا الشائن ” التي أطلقها في وجه الاستبداد الكنسي والاغتراب
الإنساني عن ماهيته…
ليتساءل المرء، متى سينتشل سكان الصحراء أنفسهم من العيش في الأمنيات
لإدراك فشلهم في تحقيق الشرط الأول لتنظيم الدولة، ألا وهو تجاوز النظم
الأولية ” القبلية الفئوية، والعرقية ” ومن ثم تجاوز مظاهر ” العصاب
الهوامي” بالرغبة في امتلاك صفات المراكز الحضرية ” مراكش ” مثلا، ليس
باستحقاقه من خلال إنجاز التركيب الثقافي.. الذي يشيد الحضارة الملموسة،
وإنما من خلال الاستيلاء عليه، وتدميره، في مؤشر واضح على العجز عن ربط
الأسباب أو العلل بالمعلولات، أي بميكانيزمات ” العقلية السحرية ” في
إدراك الأشياء.
لنتصور أن كثيرين ما زالوا يجادلون بأن الاستثنائي في استقلال
موريتانيا, هو أن المستعمر لم يشيد بها بنية تحتية، كما فعل في غيرها،
لتحيلنا هذه الدمدمة إلى ضرورة مراجعة نظرية العلامة ابن خلدون حول دورة
عمر الدولة، المحصورة في حدود القرن الواحد، لتبدأ في الاضمحلال، مما
يجبرنا إلى التفكير بمهوم الاستقلال” بهواجس” غير حشدية، من حيث اعتباره
خروجا من دائرة الإعالة والاعتماد على الآخرين، إلى دائرة الرشد والنضج
والاعتماد على الذات، وكل من يدعي غير ذلك، إنما يخلطه بمهوم ” الإقليم
المتخلى عنه ” أو اللقيط ، وليس غريبا على الصحراويين الاحتفاء ” بخيبة
المتخلى عنه ” لمداراتها, فمازالت ” المطلقة ” تملأ الدنيا بالزغاريد
والضجيج رغم خيبتها بالتخلي عنها!