لماذا لا نعلنها انتفاضة شعبية؟
بسم الله الرحمن الرحيم
أعتذر في البداية للقراء الأعزاء عن عدم نشر الوثيقة الثانية من تسريبات ” أنبيكت لحواش” في هذا الأسبوع . والسبب يعود ـ في الأساس ـ إلى أنه قد تم الترخيص لضحايا ضد الفساد بتنظيم وقفة شبابية لتكريم الموظف المثالي للعام 2010. وهي الوقفة التي كان قد تم رفضها من طرف والي نواكشوط السابق في العام الماضي.
ولقد تزامن الترخيص للوقفة مع موعد نشر المقال الأسبوعي. وهو ما استوجب تخصيص مقال هذا الأسبوع للحديث قليلا عن الوقفة، وعن فكرة تكريم الموظف المثالي، وعن الدور الذي يمكن أن يلعبه الشباب ـ بصفة عامة ـ في محاربة الفساد.
وقبل الحديث عن الوقفة، وعن التكريم، وعن دور الشباب في محاربة الفساد، قد يكون من الضروري أن أتحدث ـ وبشكل مختصرـ عن التغيير عبر القلم أي عن ثلاثة أنماط من الكتابة التي قد يمارسها المهتمون بالشأن العام.
النمط الأول: يتعلق بالكتابة التي تقتصر على النقد. وهذا النمط يمتاز بسهولته، و بشيوعه، وبكثرة الأقلام المتفرغة له. و رغم أهمية هذا النمط فإنه يظل أقل الأنماط الثلاثة أهمية.
النمط الثاني: ويتعلق بالكتابة التي تقدم مقترحات وأفكارا في أي مجال من المجالات. وهذا النمط من الكتابة بالغ الأهمية، رغم أنه لا أحد من القائمين على الشأن العام يولي أي أهمية للأفكار والمقترحات، خاصة إذا ما كانت ثورية وإبداعية.
النمط الثالث: ويتعلق بالكتابة “الميدانية” وهي الكتابة التي تحاول أن تنزل بالأفكار النظرية إلى أرض الواقع. وهذه هي أهم الأنماط الثلاثة، خاصة في بلد كبلدنا، يتحدث أهله كثيرا، ولا يعملون إلا قليلا.
ونظرا لحاجتنا الملحة في هذا البلد إلى النمط الثالث من الكتابة، فقد ارتأينا في “ضحايا ضد الفساد” أن نجسد ميدانيا ـ كلما كان ذلك ممكنا ـ بعض الأفكار والمقترحات النظرية التي كنا قد دعونا إليها سابقا لمناصرة الحرب المعلنة على الفساد.
ولعل دعوتنا لانتفاضة شعبية ضد الفساد، تستخدم فيها كل “الأسلحة” المتاحة، هي من أبرز و أهم تلك الأفكار والمقترحات. فنحن على يقين بأن الحرب الرسمية المعلنة ضد الفساد لن يكتب لها النجاح، إذا لم تصاحبها انتفاضة شعبية ضد الفساد، يقودها ضحايا الفساد في هذا البلد، والذين يمثلون تقريبا كل الشعب الموريتاني.
ولقد قلنا سابقا بأن ضحايا الفساد ـ خاصة المتعلمين منهم ـ يجب أن يكونوا في الصفوف الأمامية في هذه الحرب، والتي هي حربهم، قبل أن تكون حرب أي جهة أخرى.
كما أننا قلنا سابقا بأنه على ضحايا الفساد أن لا يهادنوا الفساد، إذا ما أعلنت الجهات الرسمية هدنة رسمية معه. وأن عليهم أن لا يفقدوا حماسهم، إذا ما فقدت السلطة حماسها. وأن عليهم أن لا يستبدلوا عدوهم (الفساد)، بأي عدو آخر مهما كانت وحشيته و شراسته، إذا ما استبدلت السلطة حربها مع الفساد بحرب أخرى، وإذا ما استبدلت عدوها بعدو آخر، وهي كثيرا ما تفعل ذلك.
ومن المثير للاستغراب أن ضحايا الفساد لا زالوا يرفضون أن ينتفضوا ضد الفساد. بل أن الكثير منهم يعمل ـ بوعي أو بغير وعي ـ على تفشي الفساد.
فمن الغريب في هذا البلد الغريب، أن تجد شابا جامعيا ينتقد برلمانيا أو سياسيا أو موظفا إداريا لأنه لم يخض نيابة عنه “حربا بالوكالة” ضد الفساد، في الوقت الذي لم يفعل فيه ذلك الشاب الجامعي شيئا مذكورا لمحاربة الفساد.
ومن الغريب أن نطلب من سياسي، أو موظف سامي، يعيش حياة رغدة، أن يحارب الفساد، في الوقت الذي يرفض فيه ضحايا الفساد أنفسهم، وهم الذين يعيشون حياة صعبة، أن ينتفضوا ضد الفساد.
ومن الحماقة أن نتحدث عن الفساد وعن المفسدين ورموزهم، في الوقت الذي نمارس نحن فيه ” فسادا صغيرا”. ولا يحول بيننا وبين أن نمارس فسادا كبيرا، إلا أن نجد لذلك سبيلا.
فكم من مرة صفقنا لمفسد؟ وكم من مرة لهثنا خلف سياسي بائس، لا نكلمه ولا يكلمنا، إلا في المواسم الانتخابية، مقابل فتات من المال الحرام الذي كدسه؟ وكم من مرة سرنا كالقطيع خلف وجيه من القبيلة، قد يكون أميا لا “يفك الحرف”؟ وكم من مرة حملنا إلى ذلك الأمي أسفارا من الشهادات لكي يبحث لنا عن وظيفة؟ وكم من مرة قبلنا بسذاجة أن نكون ضحية خرساء لمفسد؟ وكم من مرة قبلنا أن يتسلق على أجسادنا المنهكة المفسدون والتائهون والفاشلون؟
إننا مفسدون، إذا لم نصفع على الخد الأيمن أو الأيسر ذلك السياسي البائس الذي يغيب عنا خمس سنوات، ثم يهبط علينا فجأة في المواسم الانتخابية، ويعاملنا كالقطيع، فينثر لنا ذات اليمين وذات الشمال قليلا من أموالنا التي سرقها.
ونحن مفسدون عندما نتنازل عن حقوقنا، ومفسدون عندما نقبل ـ بلا مقاومة ـ أن نكون ضحية، ومفسدون عندما نرضى في كثير من الأحيان أن نموت جوعا، أو عطشا، أو مرضا، دون أن نُسمع ـ قبل الموت ـ صراخنا لمن يهمه الأمر.
في أحيان كثيرة، وعندما أشاهد شابا حالما، متفائلا وواثقا من المستقبل، وهو يتابع دراسته الثانوية أو الجامعية، أفكر في أن أقول له: دعك من الدراسة ولا تضيع عمرك، فأنت لن تتعلم شيئا مفيدا. كما أن الشهادة التي ستحصل عليها لن تفيدك في سوق العمل، وسينتهي بك المطاف إلى أن تُزاحم شبابا كثرا في ” نقطة ساخنة”، أو في غيرها، وربما يتصدق عليك هناك زميلك ـ الذي تسرب من الدراسة في وقت مبكر، أو الذي لم يتعلم أصلا ـ بأن يمنحك فرصة عمل تابعة له.
هذا هو مصيرك أيها الشاب الحالم، إن لم تنتفض الآن ضد الفساد.
وعندما أشاهد شابا ذكيا متحمسا نشطا، يلتفت ذات اليمين وذات الشمال، بحثا عن حاضن يحتضنه، ويستثمر طاقته، فلا يجد حزبا يهتم بالشباب، ولا يجد منظمات، ولا مكتبات، ولا ملاعب، ولا نوادي، ولا فرقا رياضية. عندما أشاهد ذلك الشاب أفكر في أن أقول له: اصبر قليلا، فستكتشفك القاعدة وتجعل منك أميرا. أو تكتشفك عصابة إجرامية، فتستثمر ذكاءك وحماسك ونشاطك في الإجرام. هذا هو مصيرك أيها الشاب الذكي، إن لم تنتفض الآن ضد الفساد.
وعندما أقابل شابا طموحا، يرسم أحلاما كبيرة، أفكر في أن أقول له : ستتكسر أحلامك الكبيرة على صخرة الواقع. وسيأتي اليوم الذي يتملكك فيه إحباط رهيب، فتهرب بعيدا عن بلدك، في رحلة بحث بلا نهاية، عن أحلامك الكبيرة التي لن تتحقق. وستركب ـ أيها الشاب الطموح ـ زوارق الموت، هربا من الموت، إلى الموت.
هذا هو مصيرك أيها الشاب الطموح، إن لم تنتفض الآن ضد الفساد.
هذا هو مصيركم ـ “يا شباب البلاد” ـ إن لم تقودوا الآن انتفاضة شعبية واسعة ضد الفساد. هذا هو مصيركم، ولن يشفع لكم أن تعتذروا غدا بأنكم لم تكونوا تملكون الأسلحة والوسائل اللازمة، لمحاربة الفساد.واعلموا أن نصف نصيب كل شاب من الثروة الوطنية الهائلة التي يزخر بها البلد، يكفي لأن يوفر له تعليما جيدا، ومكتبة في كل حي، وملاعب، ومسارح، ونوادي، وعملا كريما بعد التخرج، أو بعد البلوغ حتى.
فإذا كان نصف نصيب كل واحد منكم من ثروة البلاد يكفي ـ لولا الفساد ـ لأن يوفر له حياة كريمة، فلم لا تنتفضون الآن ضد الفساد؟ ذلك سؤال عليكم أن تجيبوا عليه فورا.
واعلموا ـ أيها الشباب ـ بأن هناك فرقا كبيرا بين الحرب على الفساد، والانتفاضة ضد الفساد. فالحرب على الفساد ـ كأي حرب ـ لا بد لها من أسلحة، أما الانتفاضة ضد الفساد ـ فإنها كأي انتفاضة ـ لا تشترط توفر أسلحة، وإنما تتطلب فقط استخدام كل شيء متاح، وتحويله إلى سلاح، حتى وإن كان لم يستخدم من قبل ذلك كسلاح.
والانتفاضة تحتاج ـ في الأساس ـ إلى شباب يمتلك إرادة قوية، ونفسا طويلا، وقادرا على التفكير بطرق إبداعية لخلق “أسلحة ذكية” وفعالة، تمكنه من توجيه ضربات موجعة للفساد والمفسدين.
ومن بين تلك الأسلحة الذكية ابتداع أوسمة شعبية لتكريم الموظفين الأكفاء، والذين قد يحالون إلى التقاعد دون أن يوشحوا أو يكرموا. فمن المؤسف حقا أن يقضي موظف عقودا من عمره، وهو يعمل بجد وإخلاص، وباستقامة يندر أن تتكرر، ومع ذلك يُحْرَمُ ذلك الموظف من أبسط أشكال التقدير، أو التكريم، سواء كان ذلك التكريم حكوميا أو شعبيا.
لقد حُرم الكثير من الموظفين الذين يستحقون التكريم، ومن بين الذين حُرموا الشرطي “الشيخ صار” الذي سيحال إلى التقاعد بعد أسبوعين، دون أن يتم توشيحه أو تكريمه.
لقد قررنا في ” ضحايا ضد الفساد” أن نكرم ذلك الشرطي المتميز في العام 2009، إلا أن والي نواكشوط آنذاك رفض الترخيص لذلك التكريم. ثم كررنا المحاولة في هذا العام، ولقد تم الترخيص لنا، وإن كان قد تأخر قليلا عن اليوم العالمي لمحاربة الفساد.
و نظرا لتواضع إمكانياتنا فقد جاء التكريم متواضعا، وهو تكريم لا نعتبره إلا مجرد لفتة بسيطة، تهدف إلى لفت الأنظار إلى موظف متميز سيحال إلى التقاعد دون أي تقدير رسمي أو شعبي، رغم ما قدم لهذا البلد الذي لا يقدر إلا المقصرين في حقه. لقد فتحنا ـ بمناسبة هذا التكريم الشعبي ـ سجلا شعبيا يمكن للجميع أن يسجل اسمه فيه، وسيقدم هذا السجل في وقت لاحق إلى رئيس الجمهورية لمطالبته بتوشيح هذا الشرطي المتميز.
وقبل أن أختم هذا المقال، فإنه من الضروري أن أذكر القراء بالأسباب التي تم على أساسها اختيار الشيخ صار موظفا مثاليا للعام 2010.
1ـ اتفاق جميع السائقين على استقامة ذلك الشرطي، ورفضه المتكرر و المتواصل والمبدئي لأخذ أي رشوة من أي سائق.
2ـ تفانيه وجديته في عمله والتي لا تحتاج لأي شهادة من أي أحد، فهي تظهر وبوضوح لكل من يتأمل ذلك الشرطي الذي يعشق عمله، والذي لا يتراجع مستوى حماسه خلال فترة تنظيمه لحركة المرور، والتي قد تمتد لساعات، في واحد من أكثر ملتقيات طرق العاصمة زحمة.
3ـ نجاحه في فرض النظام في بلد تعمه الفوضى ـ على الأقل ـ في ملتقى الطرق الذي يعمل به، مما جعل من ذلك المكان مكانا فريدا من نوعه في العاصمة، بل وفي البلاد كلها، حيث أصبح النظام و احترام قانون السير هو السلوك الذي يحرص عليه كل سائق عندما يقترب من ملتقى الطرق ذلك .
4 ـ الحس الوطني العالي لذلك الشرطي والذي يظهر جليا من خلال حواراته مع مخالفي قانون السير، فهو ينصحهم بأسلوب مهذب ومقنع، لا ينقص من صرامته في التعامل مع الأخطاء، وهو ما يؤدي في المحصلة إلى تغيير سلوك أولئك المخطئين .
5 ـ إيجابية “الشيخ صار” فهو لم ينتظر كغيره أن يَصْلُحَ كل الموظفين في قطاعه لكي يكون موظفا صالحا ومستقيما، وإنما قرر أن يكون موظفا مستقيما رغم الفساد الكبير الذي يحدث عن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، ورغم الكلفة المعنوية والمادية والاجتماعية الباهظة التي يدفعها كل موظف صالح، في بلد باض فيه الفساد وعشش وفرخ وأنجب.
6 ـ الدور التدريبي الرائد الذي يقوم به ذلك الشرطي، فهو يدرب النخبة (سائقي السيارات) في كل صباح على النظام عند مرورهم به، في طريقهم إلى أماكن عملهم، كما أنه يدربهم على النظام في كل مساء، على النظام، وهم عائدون إلى منازلهم.
تصبحون وأنتم في انتفاضة شعبية ضد الفساد..
محمد الأمين ولد الفاظل
رئيس مركز ” الخطوة الأولى” للتنمية الذاتية
هاتف 6821727
www.elvadel.blogspot.com