حول أخلاقيات الصحافة

إن سمو مهنة الصحافة، وارتفاع مبناها ومعناها يرتبط أيما ارتباط بمدى سماكة “المسحة الأخلاقية” التي تزين شكلها ومضمونها.

والصحفي الذي يضع نفسه موضع المحكوم بقانون “الخلق الحسن” أثناء ممارسته لمهنته، يستطيع أن يقنع العقل ويرضي القلب بما ينسجه من معالجات إعلامية تأخذ شكلها الجمالي العام من قدرته البيانية، وحسه المهني والأخلاقي.

وإذا كانت الأخلاق هي “مجموعة من العادات والتقاليد، تحيا بها الأمم كما يحيا الجسم بأجهزته وغدده” طبقا لتعريف الشيخ محمد الغزالي لها، فإن أخلاقيات الصحافة هي مجموعة من الأخلاقيات والمبادئ والمحددات، تحيا بها الصحافة كما يحيا الجسم بأجهزته وغدده، وذلك لأن صحافة من دون أخلاق صحافة فاقدة لروحها الحقيقية وجوهرها المكنون.

ومن المعلوم بأن مصدر الإلزام في أخلاقيات الصحافة وفي غيرها من القوانين الأخلاقية الأخرى هو مراقبة الله جل وعلا، ثم الضمير المجرد والإحساس بالواجب، وكذلك القوانين الملزمة.

من هذه المنطلقات، وعلى هامش الملتقى الدولي الأول لنقابة الصحفيين الموريتانيين حول “أخلاقيات المهنة الصحفية” والذي شارك فيه بالإضافة إلى عشرات الصحفيين الموريتانيين، خبراء ومتخصصين من دول خارجية عدة، ساهموا إلى حد كبير في بلورة الأفكار المطروحة وتحويلها إلى مجموعة من الأخلاقيات من شأنها أن تسموا بمهنة الصحافة وأن تنزلها منزلتها اللائقة بها، لتبقى الكرة الآن في ملعب الصحفي نفسه.

أردت هنا أن لا أفوت الفرصة على نفسي دون أن أسجل بعض الخواطر التي تردني من حين لآخر حيال الموضوع ذاته، بالرغم من أنني لست صحفيا بمعنى التخصص، ولا حتى بمعنى التجربة العميقة، حيث أن تجربتي مازالت في طورها الابتدائي وقد لا تسعفني جدا في تقديم تصور شافي ووافي عن موضوع أخلاقيات الصحافة، وهو الشيء الذي جعلني اكتفي بتسجيل بعض الخواطر علها أن تثري حديثا أو تثير استشكالا أو تجيب على آخر، وذلك انطلاقا من شتات من المعارف كنت قد جمعتها من مصادر مختلفة، وتجربة ميدانية لا تزال قصيرة الأمد.

وأبدأ لأقول بأن الصحفي لا بد وأن يكون عنده رصيدا أخلاقيا فطريا حتى يستطيع أن يتأقلم مع أي أخلاقيات وضعية يراد لها أن تقود تجربته الإعلامية، أو أن تقومها كلما جنح أو مال به هواه إلى النقائص، وذلك من منطلق أن “من تطبع بغير طبعه نزعته العادة حتى ترده إلى طبعه” فـ”الطبع أمالك” كما يقال.

والتجارب الإعلامية الموريتانية كغيرها من التجارب في مختلف دول العالم العربي والغربي تحتاج إلى مسحة أخلاقية سميكة جنبا إلى جنب مع القوانين الوضعية الأخرى الناظمة للعمل الصحفي، لكي تضمن لنفسها القبول ومن ثم البقاء، وبالتالي على الصحفي أن يكون ذا خلق رفيع عموما وأن يتخلق بأخلاقيات الصحافة بشكل خاص حتى يستطيع أن يضيف “مسحة أخلاقية” – هي مصدر مصداقية مؤسسته الإعلامية ومكمن احترام الآخرين لشخصه الكريم، ومهنته الشريفة – إلى معالجاته الصحفية.

وتتأكد أهمية التحلي بأخلاقيات الصحافة كلما اتسعت المساحة المخصصة لحرية الرأي والتعبير، حيث ينبغي للصحفي أن يستغل المساحة المخصصة له فيما ينفع الناس من منطلق أنه حر ومسؤول في آن واحد.

والحرية ليست مطلقة بل لها حدودها التي تمتد لتنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، كما أن المسؤولية هي الزاد الحقيقي للصحفي باعتباره مسؤولا أمام الله عز وجل وأمام المجتمع، ويجب عليه أن يعامل نفسه انطلاقا من ذلك، بل ويتعامل مع المجتمع أيضا من نفس المنطلق، بحيث يكون جانب المسؤولية حاضرا لديه في كل الظروف المكانية والزمانية وأن تظهر بصمات الصحفي المسؤول في كل ما يقدمه للمجتمع من مواد إعلامية مهما كان نوعها.

ومهما كان للمجتمع الحق في الإعلام، وكانت الصحافة مدينة بالقيام بهذا الدور، فإن ذلك يستلزم أولا وأخيرا مراعاة المنظومة القيمية لدى للمجتمع المستهدف.

من جانب آخر فإنه من المعلوم بالضرورة أن أي إطار تشريعي ناظم للحقل الصحفي يظل قاصرا عن القيام بدوره مالم يعزز بإطار خلقي يكون بمثابة الحارس المكين الذي يحرس الصحفي من الوقوع في الأخطاء والزلات العظيمة.

وأخيرا أقول أنه إذا كانت عقوبة الذنب في الدنيا لا تقتصر على مرتكبيه فقط، بل أحيانا تعم لشمل آخرين معه، وذلك حين يتسبب ارتكاب الذنب في حبس القطر عن مجتمع معين بمجرد أن شخصا واحدا ارتكب ذنبا، فإن غياب الخلق لدى الصحفي أيضا قد لا تقتصر عقوبته على الصحفي اللاأخلاقي فقط، بل قد تعم العقوبة لتشمل جميع المنتسبين لها، وذلك حين تتسبب زلات وأخطاء صحفية خارجة عن إطار قوانين وأخلاقيات المهنة في كشف رداء الاحترام عنها، وبالتالي حرمان كل المنتسبين لها من مجرد التمتع بالامتيازات المعنوية للمهنة، كأن يبقى مجرد الانتماء للصحافة عار لا يصقله ماء البحر.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى