سيرة مناضل حقوقـي
كان ناشطاً في المجال الحقوقي منذ نعمت أظفاره، حفظ له التاريخ وقفات مشهودة، كان في كل واحدة منها واقفاً بالمرصاد مدافعاً بشجاعةٍ فائقةٍ ونكرانٍ للذات عن ما يعتقده حقاًّ، حتى ولو عرضه ذلك للتهديد والوعيد، مما يجعل أعتى معارضيه لا يملك إلا أن يحترم له حرية رأيه، وإن اختلف معه أحيانا في بعض الأساليب، لأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، كما تقضي بذلك الأعراف الديمقراطية.
حفلت سيرة هذا المناضل الحقوقي البارز بعديد المواقف المتميزة، التي لا سبيل إلى استقصائها وحصرها، لكنني أجد نفسي دائماً واقفاً أمام بعضٍ منها يستحق التأمل والتحليل، لما ترتب عليه من نتائج طبعت مسيرة البشرية جمعاء.
الموقف الأبرز والأشهر لصاحبنا الحقوقي، سجَّله باستماتة واستبسال، يوم جاءت الأوامر إلى “الملائكة” بأن يسجدوا لبشر مخَــلَّق من التراب والطين، فشعر المناضل الحقوقي بأن في ذلك إهداراً لكرامته وكرامة “الملائكة” الأكرمين، حيث إن السجود هو أبلغ مظاهر الاستعباد؛ فكان أن اتخذ زمام المبادرة رافضاً أي إعلاءٍ لجنسٍ من المخلوقات على حساب جنسٍ آخر، لما يمثله ذلك من ترسيخ للطبقية ومس بمبدأ المساواة المقدس بين أجناس المواطنين في هذا الكون، وقاد تمرداً جريئاً كانت عاقبته أن تحمّل مأساة الطرد من الرحمة حتى آخر الدهر.
كان لصاحبنا موقفٌ آخرُ تاريخي وجريء، عرضه لمتاعب أخرى، ولكنه هذه المرة كان دفاعاً عن حقوق الإنسان، ضد أي تجاوز من جانب أخيه أو “أبيه” الإنسان؛ وذلك حينما أراد إبراهيم (عليه السلام) بوحي من رؤيا مناميَّـة، أن يذبح ولده كما تذبح الشياه، معتمداً على مجرد أوامر غيبية، وكان الولد مستسلماً تماماً لرغبات الوالد، في مشهد يتجاوز حدود الخيال، “قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين”، فما كان من مناضلنا الحقوقي إلا أن نهض بمهمته المقدسة، إنقاذاً لروح بشرية، ودفاعاً عن حق من أقدس الحقوق الإنسانية، وهو الحق في الحياة، فبذل كل ما أوتي من قوة وإقناع، ليثني الوالد عن التضحية بفلذة كبده، بهذا الأسلوب البدائي “الذبح”، واعتبر استسلام الولد لأبيه نوعاً من الاسترقاق الفكري، الذي يجعل الضحية يتقبل الاعتداء عليه، فلم يثْنِ ذلك صاحبَنا عن القيام بواجبه؛ حاول مع الولد ليجعله يتمرد على والده، ثم حاول مع الوالد ليقنعه بحق الولد في الحياة أو على الأقل حقه في أن يموت بطريقة حضارية، لكن كان جزاؤه من الوالد ومن الولد، هو الرجم بالحجارة، ليظل ذلك الرجم تقليداً سنوياًّ، ينفذ في حق مناضلنا من قبل ملايين البشر، وهو رغم كل ذلك لا يتراجع عن مشواره النضالي، موقناً بأنه سيأتي اليوم الذي تفيق فيه الإنسانية من سباتها، وتعيد له حقه في الاعتبار والتكريم.
في هذا العصر الذي تكاثرت فيه المنظمات الحقوقية، لا أدري ما السبب في تأخر هذه المنظمات عن إعادة الاعتبار لهذا الناشط الحقوقي، والمناضل التاريخي ضد التمييز والإقصاء، والرافع للواء المساواة التامة، مهما كلفه ذلك من اللعنات والمضايقات.
مهما تأخر ذلك اليوم فإنه آت بلا ريب.