الفرق بين الثقافة والحضارة ودور ذلك في وحدة أو تفكك العالم
إن مفهوم الثقافة يرتبط بمجتمع معيَن ومحدد الهوية، في حين أن مصطلح (حضارة) يُستخدم ليشير إلى مجموعات أكثر اتساعا وأكثر شمولا في الزمان والمكان، كما يُستخدم مصطلح (حضارة ) للدلالة على المجتمعات التي بلغت درجة عالية من التطور وتتصف بالتقدم العلمي والتقني والتنظيم المدني والاجتماعي. هذا الاستعمال يعود بنا إلى أصل الكلمة بمعنى حضر أو تحضر في مواجهة البداوة و الترحال، يؤدي هذا الاستخدام إلى مفهوم تطوري، يتضمن في الوقت نفسه شحنة من الأحكام التقييمية التي حملها معه مفهوم (الحضارة ) فترة زمنية طويلة، وعليه فإن هذا الاتجاه يفيد أن كل حضارة هي ثقافة بمعنى ما، ولكن ليست كل ثقافة حضارة .
تمثل الثقافة جملة من العناصر المتحركة، ذات المنحى المتجدد من ذاته، والمندفع باتجاه التوالد والإضافة، بما يسمح بتشكيل أساليب الحياة والطرق في التفكير والتعامل ، ذلك أن الثقافة موقف من الحياة أحداثا وكائنات، مجتمعة أو متفرقة ، شعوبا وأمما، و بهذا تكون سابقة على الحضارة التي تتقولب المجتمعات بها في قوالب ثابتة يقل التمايز فيها بين الشعوب، وتندحر الخصوصيات وتتلاشى الشخصية التقليدية للمجتمع، وتذوب لتعاود الظهور ممتلكة ملامح شبيهة بسواها.إن الانتقال إلى الحضارة والسير في ركبها يلغيان كثيرا من السمات الثقافية للشعوب المنخرطة في السياق الحضاري الواحد ، فالشعوب الأوروبية انتقلت في معظمها من حالة الثقافة إلى طور الحضارة ، فأصبحت – باستثناء لغتها – مجتمعا حضاريا موحدا يمارس العادات نفسها ويسير وفقا للنظام والمقاييس. والانفتاح الحضاري، غالبا ما يقود إلى انسداد ثقافي من نوع خاص، وهو ما حدا بالبعض إلى القول إن الدخول في قصور الحضارة المشتركة يستوجب خروجا من مضارب الثقافة، فالحضارة ملك للجميع، أما الثقافة فهي حالة يختص بها شعب ما. لذا نجد بعض علماء الاجتماع المعاصرين، يستخدمون مصطلح حضارة، لكي يشيروا إلى مجموعة الثقافات الخاصة التي بينها تشابه أو أصول مشتركة ، وبهذا المعنى يتحدث البعض عن الحضارة الغربية التي تنضوي تحتها الثقافات الفرنسية والانجليزية والألمانية والإيطالية والأمريكية ، أو حين يتحدث عن الحضارة الأمريكية التي انتشر نمط الحياة الخاص بها في ثقافات الشعوب الأخرى ، وكذلك حين الحديث عن الحضارة العربية في إطارها ثقافة مشرقية ومغاربية.
إن قراءة للتاريخ الحديث للحضارة البشرية تُبين لنا أنه تاريخ الكشوفات والإنجازات، بقدرما هو تاريخ الصراعات والحروب، إنه تاريخ القهر والاضطهاد، تاريخ الإبادة. وليست البشرية اليوم بأفضل حال عما كانت عليه من قبل، من حيث التحاور والتآزر، أو من حيث التعقل والعدالة والسلام ، بل إن القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، بما شهداه من العنف والدمار، يهزأ من كل الشعارات التي طرحتها الأيديولوجيات التقدمية التحررية منذ عصر الأنوار في القرن 18م، حتى النضال من أجل حقوق الإنسان مع بداية القرن 21م. والعالم اليوم يتحد بقدر ما ينقسم ويتشتت فهو يميل إلى الوحدة على الصعيد الحضاري، أي بكل ما يتعلق بنمط العيش وتقنيات الاتصال وأسواق التبادل، لكن يبدو ممزقا على صعيد الخصوصيات الثقافية وبالتالي على الصُعد الدينية والمذهبية والقومية، كما هو الحال في الشرق الأوسط وأصقاع كثيرة من العالم أصبحت ساحة للصراعات والحروب من أجل البقاء، توظف فيها فوارق الثقافة، وتؤجج فيها هواجس الهوية والذاكرة، لأن الحضارة تحيل إلى المكان والحاضرة ، أما الثقافة فتحيل إلى الزمان والذاكرة، والحضارة تقنية وأداة، فيما الثقافة قيمة ومعيار، والحضارة سوق ومبادلة يغلب فيها الإنتاج المادي، أما الثقافة فهي إنتاج للرموز والنصوص، والحضارة تنتج المجانسة و المشاكلة، في حين أن الثقافة تخلق التنوع والغنى والإنفراد، من هنا تبدو الحاجة إلى إقامة التوازن بين آليات التحضر وإبداعات الثقافة. وإذا كانت آليات التحضر، وقوانين السوق، و سبل الإعلام، توحد العالم، فإنه يفرقه التراث والهوية الثقافية، والشعوب تجمعهم أمكنتهم الحضارية بقدر ما تفرقهم أزمنتهم الثقافية، ولعل هذا هو الفرق بين الثقافة والحضارة.
*مقال منشور بجريدة الصباح اليومية التونسية الصادرة 2010-12-25
*أستاذ جامعي، رئيس الشعبة العامة ، وأستاذ الحضارة بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية.
drlemrabott@yahoo.fr