الشعارات لن تطعم جياع2011
كل الدلائل تشير إلا أن العام 2011 سيشهد احتجاجات اجتماعية قوية، إذا لم تتخذ السلطات الحالية ـ وعلى عجل ـ تدابير استثنائية لتفادي تلك الاحتجاجات. والأسباب التي قد تؤدي لتلك الاحتجاجات عديدة، منها ما هو خارجي، ومنها ما هو داخلي. منها ما هو موضوعي، ومنها ما هو شكلي. منها ما هو نتيجة لكلفة بعض القرارات الإصلاحية، ومنها ما هو نتيجة للاستمرار في بعض الممارسات الخاطئة.
لقد تفاعلت تلك الأسباب المتعددة تحت السطح، بما فيه الكفاية، ولم تعد تنتظر لكي تطفو عليه، في شكل احتجاجات شعبية عارمة، لا يمكن السيطرة عليها، إلا شرارة البداية، تلك الشرارة التي يستحيل التنبؤ بتوقيتها، أو بمكان اشتعالها.
و لن تختلف الاحتجاجات المتوقعة في أي لحظة، عن “ثورة الجياع” التي عرفتها البلاد في عهد الرئيس السابق، لن تختلف عنها، لا من حيث الاتساع، ولا من حيث سرعة الانتشار، ولا من حيث غرابة مكان انطلاقة الشرارة. وهي لن تختلف ـ كذلك ـ في سماتها البارزة، عن الاحتجاجات التي عرفتها دول عديدة من العالم في السنوات الأخيرة.
وموجات الاحتجاجات الاجتماعية الجديدة، التي اكتسحت دول العالم في السنوات الأخيرة، والتي يبدو أنها ستشكل ـ في المستقبل ـ بديلا للاحتجاجات التقليدية، تتسم في أغلبها بالعفوية. فهي احتجاجات بلا رؤوس وبلا قيادات، فثورة الجياع مثلا لم يكن لها قادة. ولم تستطع السلطة أن تُحَمِّل مسؤوليتها لقادة المعارضة الذين فوجئوا بها، تماما، كما فوجئت بها السلطات الحاكمة.
كما أنها قد تنحرف عن مسارها الأصلي لتتخذ أشكالا عنيفة وتخريبية، نظرا لغياب قيادات توجهها وتحدد مسارها.
أضف إلى ذلك صعوبة التعامل معها أمنيا، فهي ليست لها رؤوس يانعة تقطف. كما أن جمهورها غير متجانس، وهو بالضرورة قد لا يكون كله معارضا للسلطة. فثورة الجياع ـ مثلاـ كانت أكثر حدة في المناطق المحسوبة على السلطة، وفي المناطق غير المعروفة أصلا بالاحتجاجات ( مقاطعة كنكوصة مثلا).
كما أن هذه الاحتجاجات قد تستغلها الأحزاب السياسية المعارضة، والنقابات، و كل القوى السياسية التي فقدت منذ مدة القدرة على الفعل، وعلى تحريك الجماهير. واستغلال تلك القوى السياسية والنقابية لذلك النوع من الاحتجاجات، ودخولها في خط المواجهة، يمنح ـ عادة ـ لتلك الاحتجاجات فعالية أكثر، وقدرة أكبر على التأثير، كما حدث في احتجاجات تونس الأخيرة.
- موريتانيا وتونس:
قبل الحديث عن الأسباب والدوافع التي قد تؤدي إلى ثورة جياع ثانية، قد يكون من المناسب تقديم مقارنة خاطفة بين موريتانيا وتونس، من خلال بعض المؤشرات التنموية، وذلك لكي نعرف كم هو صبور الفقير الموريتاني، وكم هو طيب، ووديع، وبريء. وربما تساعدنا تلك المقارنة، في أن نلتمس العذر للفقراء الموريتانيين، وأن نتفهم احتجاجاتهم القادمة، والتي تؤكد كل المؤشرات بأنها ستكون عنيفة وقوية، إذا ما ظلت الأمور تُدار بنفس الأسلوب، وتَسَير بنفس الوتيرة، وتَسِير في نفس الاتجاه.
وإذا كان بلدنا متقدما على تونس في المجال السياسي، وفي مجال الحريات العامة، إلا أنه في المجالات الأخرى لا يمكن مقارنته بها. هذا إذا ما استثنينا “جامعاتنا” التي قال عنها وزير التعليم ـ الذي تمت ترقيته ـ أنها أكثر تطورا من الجامعات التونسية.
فنسبة التونسيين الذين يعيشون تحت خط الفقر لا تصل إلى 10%، أما في بلدنا فإنها تزيد على 42%. ومتوسط دخل الفرد التونسي، يساوي تقريبا متوسط دخل أربعة موريتانيين. ونسبة الأمية في تونس لا تصل إلى 20%، أما في موريتانيا فالنسبة تقترب من 50%.
وتونس تحتل الرتبة 59 عالميا حسب التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية. في حين أن بلدنا وبعد حربه “الشرسة” ضد الفساد، لا زال يقبع في الرتبة 143 عالميا. وفي تونس التي يتجاوز سكانها 10 ملايين، والتي لا تمتلك من الثروات ما نملك، لم تتجاوز نسبة البطالة فيها 14%، في الوقت الذي وصلت نسبتها في بلدنا إلى 32%.
و معاناة المُعَطلين عن العمل في موريتانيا، لا يمكن مقارنتها بمعاناة أشقائهم العاطلين عن العمل في تونس، والذين قادوا موجات الاحتجاجات القوية، التي هزت تونس في الأيام العشر الأواخر من العام2010.
لقد عانى المعطلون عن العمل في موريتانيا كثيرا، ومعاناتهم تزداد حدتها يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وعاما بعد عام، ونظاما بعد نظام. فقد تراجع دور وكالة تشغيل الشباب كثيرا، ولم تعد هذه الوكالة قادرة على توظيف المئات من حملة الشهادات في وظائف مؤقتة، كما كانت تفعل في الماضي. ولم تعد قادرة على تمويل مئات المشاريع الصغيرة لأصحاب الشهادات.
لقد ظل دور هذه الوكالة يتراجع، قبل أن يتوقف تماما منذ 6 من أغسطس 2008.ولقد برر الرئيس هذا التوقف في لقائه بالشعب بمناسبة ذكرى التنصيب، بأنه توقف مقصود ومتعمد. فالوكالة تنتظر ـ حسب رئيس الجمهورية ـ تخرج حملة الشهادات المكونين في معاهد التكوين المهني، لتمويل مشاريع معتبرة لصالحهم.
و تخرجت أول دفعة من حملة الشهادات، بعد أن تم تكوينها مهنيا لمدة عامين، وبلغ عددها 77 خريجا. لكن المفاجأة والصدمة، هي أن هذه الدفعة التي توقف نشاط الوكالة كله، في انتظار تخرجها، حسب ما جاء في “لقاء الشعب”، قد تجاهلتها الوكالة نفسها،كما تجاهلتها الوزارة الوصية، ليتفرغ المتخرجون الموعودون بالتمويل في “لقاء الشعب”، لكتابة الرسائل المفتوحة لرئيس الجمهورية، ولرفع اللافتات أمام الجمعية الوطنية، لينافسوا بذلك إخوة لهم، من حملة الشهادات المعطلين عن العمل، سبقوهم لتلك ” الأنشطة”.
إنها خيبة جديدة للمعطلين عن العمل، لا تختلف عن خيبة سابقة، تمثلت في رفض شركة النقل العمومي ـ رغم تمديد سن الاكتتاب إلى أربعين ـ السماح لأصحاب الشهادات الذين تتجاوز أعمارهم 33 سنة، بالمشاركة في أهم عملية اكتتاب نُظمت في هذا العام.
وغاب الاهتمام بالمعطلين عن العمل حتى لدى المعارضة، ولم يوجه نوابها ـ رغم أسئلتهم الشفهية الكثيرة ـ سؤالا واحدا لوزير التشغيل والتكوين المهني حول وضعية المعطلين عن العمل.
وبالمختصر المفيد، فإن أوضاع المعطلين عن العمل في موريتانيا أصبحت بالغة السوء، وهي أكثر سوءا من أوضاع أشقائهم في تونس، وهم اليوم يشعرون بمرارة لم يشعروا بها في الماضي، رغم أنهم عانوا كثيرا في الماضي. وهذه المرارة قد يعبر عنها بشكل غير متحضر، إذا لم يتم الالتفات قليلا لأصحاب الشهادات الجامعية، الذين يتسكعون على أرصفة شوارع “موريتانيا الجديدة”.
- الأسباب والدوافع:
أما فيما يخص الأسباب والدوافع التي قد تدفع الفقراء بصفة عامة، إلى القيام بحركات احتجاجية، فسأوردها ـ دون ترتيب أو تصنيف ـ في النقاط التالية:
1 ـ لم يحدث في تاريخ البلد، أن اتسعت الفجوة بين الوعود ومستوى الانجازات، كما اتسعت في أيامنا هذه. فمرشح الفقراء قد وعد في حملته الانتخابية بوعود ” ثورية”، لم يَعِد بها رئيس من قبله، خاصة في مجال محاربة الفساد، وفي مكافحة الفقر. في حين أن مستوى الانجاز ظل متدنيا جدا. وهو ما تسبب في تنامي الشعور بالإحباط، ليصل إلى مستويات قياسية غير مسبوقة.
2ـ الآثار السلبية للأزمة العالمية، والتي تنعكس سلبا على مستوى المعيشة، وبالأخص في الأوساط الفقيرة.فالارتفاع العالمي المتواصل لأسعار بعض المواد الأساسية، كان له بالغ الأثر في بلدنا. لقد وصل سعر السكر ـ عالميا ـ إلى مستوى لم يصل إليه منذ ثلاثين عاما. في حين أن سعر النفط ظل في تصاعد مستمر، حتى وإن كان لم يصل بعد للمستوى الذي وصل إليه، في عهد الرئيس السابق.
3 ـ لقد ظهر جليا أن عَدَاء الرئيس لرموز الفساد، والذي كان يصر على تأكيده بمناسبة، أو بغير مناسبة، لم يكن عداءً مبدئيا، بل كان عداءً مؤقتا و موسميا. كما أن الاهتمام بالفقراء، كان اهتماما موسميا، ولم ينعكس ميدانيا في البرامج، وفي العمل الحكومي. فالفقير الموريتاني يدفع اليوم ضريبة أعلى من الضريبة التي كان يدفعها في العهود الماضية، على كل لقمة أرز حافية يبتلعها، وعلى كل كلمة يلفظها في هاتف نقال، وعلى كل “جرعة” بنزين. في حين أنه تم رفض زيادة الضرائب على السجائر، وربما يكون ذلك من أجل تشجيع الموريتانيين على الانتحار البطيء، لتخفيف الأعباء على “رئيس الفقراء”. كما أن عدم الاهتمام ـ ميدانيا ـ بالفقراء يظهر جليا في ميزانية 2010 المعدلة، حيث تم تخفيض ميزانية البرامج والمشاريع المخصصة للشرائح الأكثر فقرا، بنسب تتجاوز 50% ( مكافحة آثار الرق، مكافحة التسول، برنامج لحدادة، برنامج اتويزة، مشروع مكافحة الفقر في آفطوط وكاراكور، حماية المستهلك، إعادة إعمار الطينطان….إلخ).
4 ـ الاختفاء الفاضح لوزارة التجارة، والتي لم يعد لها أي دور، للحد من آثار الارتفاع المستمر للأسعار، وللحد من المضاربات والاحتكار. بل أن هذه الوزارة لا زالت ترفض أن تفعل أي شيء لصالح المستهلك، حتى في مجال التشريعات، والتي لا يمكن ربط عدم سنها بالارتفاع العالمي لأسعار النفط. لم يعد لهذه الوزارة أي دور لصالح المستهلك، إلا في شهر رمضان، من خلال متاجر رمضان، لذلك فربما يكون من المهم ـ ترشيدا للنفقات الحكومية ـ أن يتم إغلاق هذه الوزارة، وأن يسرح عمالها حتى حلول شهر رمضان القادم. هذا إذا لم يكن من الأسلم إلغاؤها نهائيا، كما تم إلغاء كتابة الدولة لشؤون إفريقيا، التي لم نعرف لِمَ تم استحداثها؟ ولم نعرف ـ كذلك ـ لم تم إلغاؤها من قبل أن يكتمل حولها الأول؟
5 ـ لقد عمل النظام الحالي على “تجفيف الكثير من منابع الدخل”، حيث توقف العديد من الأنشطة الحرة التي كانت تدر دخلا. ورغم أن بعض هذه الأنشطة قد تم توقيفها في سبيل الإصلاح، إلا أن هناك أنشطة أخرى قد تم توقيفها بلا سبب وجيه. كما أن تخطيط العشوائيات، والذي كان ـ ولا يزال ـ يشكل مطلبا ملحا، رغم بعض الآثار السلبية التي قد تصاحبه، قد تسبب في استهلاك آلاف الأسر الفقيرة، لمدخراتها القليلة، لبناء مساكن جديدة، في وقت ارتفعت فيه أسعار مواد البناء كثيرا. كما تسبب كذلك في نزوح أسر أخرى، إلى العاصمة، من أجل الحصول على قطع أرضية، في ظل ارتفاع صارخ لتذاكر النقل. وفي الوقت نفسه فقد انشطر الكثير من الأسر الفقيرة، إلى أسرتين أو ثلاثة، من أجل الحصول على عدة قطع أرضية. وهو ما تسبب في مضاعفة استهلاك تلك الأسر الفقيرة، في وقت بلغت فيه أسعار المواد الاستهلاكية مستويات مخيفة، مما تسبب في المحصلة النهائية، إلى إفقار الكثير من الأسر الفقيرة أصلا.
6 ـ فشل الأغلبية الداعمة للرئيس في التخفيف من احتقان الفقراء، بعد عجزها الواضح، عن تسويق بعض الانجازات القليلة، التي تحققت في العام 2010.
7ـ لم يبذل النظام الحالي جهدا ـ ولو خجولا ـ لاستقطاب الصالح من أبناء الوطن، لكي يعينوه في حروبه المعلنة ضد الفساد والفقر، ويخففوا بالتالي من الاحتقان الناتج عن خيبة الأمل من نتائج تلك الحروب. فالمواطن الصالح، والمثقف الصالح، والصحفي الصالح، والموظف الصالح، والشاب الصالح، والمرأة الصالحة، لا يزالون مهمشين. فلا موظف واحد تم تعيينه أو ترقيته نظرا لكفاءته أو استقامته. ولا زالت التوشيحات يُحرم منها من يستحقها. فلماذا لم يُعترف للأستاذ الجليل بدوره في الدعوة، وهو الذي قدم ما عجزت وزارة التوجيه الإسلامي عن تقديمه رغم مواردها وإمكانياتها الكثيرة؟ ولماذا لم يُكرم ذلك الأستاذ الجليل الذي لم يُعترف له، لا في الداخل ولا في الخارج، بدوره الرائد في التعليم وفي الدعوة؟ ولماذا لم يوشح الباحث الكبير الذي أنجز أضخم عمل علمي في السنوات الأخيرة؟ ولماذا لم توشح بعض المنظمات الشبابية، والتي رغم تواضع الوسائل، تعمل بلا كلل، من أجل حماية مستهلك، أو توعية ” فتاة ” أو تنمية موهبة، أو تعمل بإبداع، لرسم بسمة، و زرع أمل، في نفس محتاجة؟
8 ـ لقد شكل رضا الرئيس عن حكومته، خيبة أمل كبرى، بالنسبة لكثير من الفقراء الذين كانوا يتوقعون إقالتها. فالرئيس في مقابلته الأخيرة، قال بأنه لن يغير الحكومة ما دامت تقوم بعملها المطلوب!!!! فعن أي عمل مطلوب يتحدث الرئيس؟ وما الذي أنجزته هذه الحكومة المرتبكة منذ تشكيلها؟ وهل انعكس الأداء الحكومي على مستوى معيشة المواطن؟ هل انعكس ذلك الأداء على وجبة الطعام التي يأكلها الفقراء؟ وهل انعكس على الدروس في الثانويات؟ وهل زاد من حجم التمويلات الصغيرة؟ وهل حسَّن من أداء صناديق القرض والادخار؟ وهل رفع من إنتاجية المزارع في حقله؟ وهل خلق ذلك الأداء فرصا جديدة للمعطلين عن العمل؟ وهل خفف ـ ولو قليلا ـ من هجرة شبابنا إلى الخارج طلبا للخبز الحافي؟ وهل انعكس ذلك الأداء على الثقافة؟ هل مكن من فتح مكتبات جديدة؟ أو نوادي جديدة؟ وهل انعكس ذلك الأداء على الوئام الاجتماعي؟ وهل انعكس على أداء منتخبنا الوطني؟ وهل شعر المتسولون بذلك الأداء؟ هل أحس به المعوقون؟ وهل ذاق طعمه الأيتام؟ وهل زار ذلك الأداء ضحايا حمى الوادي المتصدع، قبل رحيلهم عن دنيانا؟ وهل قلل الأداء الحكومي من رتابة تلفزيوننا الشاحب؟ وهل خفف ذلك الأداء من مستوى الإحباط الذي نعيشه؟ وهل زرع أملا في نفوس المواطنين بغد أفضل؟
لو كان أداء الحكومات يقاس بالخطابات والشعارات، لكان أداء الحكومة جيدا. ولو كانت الخطابات والشعارات تطعم الجائعين، أو تشفي المرضى، أو تعلم الأميين، أو تغني الفقراء لما شوهد على هذه الأرض جائع، ولا مريض، ولا فقير.
المشكلة أن الخطابات والشعارات والألقاب لا تفيد الفقراء في أي شيء. والمشكلة أن الفقراء الذين كانوا هم أول من ناصر “رئيس الفقراء”، من المحتمل جدا، أن يصبحوا أشد خصومه في هذا العام الجديد. والفقراء الذين أثبتوا ميدانيا مناصرتهم لرئيس الفقراء، من خلال تصويتهم المكثف له، بإمكانهم أن يثبتوا ميدانيا، عكس ذلك، من خلال المشاركة المكثفة في الاحتجاجات القادمة، والتي لن تتأخر كثيرا، إذا لم يتم اتخاذ قرارات استثنائية وشجاعة، من أجل التخفيف من معاناة الفقراء الذين نفد صبرهم.
تصبحون وأنتم أقل فقرا.. وإلى الأحد القادم إن شاء الله ..
محمد الأمين ولد الفاظل
رئيس مركز ” الخطوة الأولى” للتنمية الذاتية
هاتف 6821727
www.elvadel.blogspot.com