البرلمان السائب
أسدل الستار على الدورة البرلمانية الأخيرة بعد جلسات صاخبة شهدت شدا وجذبا وقيلا وقالا وسؤالا و(عراكا) وسخونة تقابل البرودة الحاصلة فيما يطمح إليه الشعب من تسيير ثرواته الغزيرة وخيرات بلاده المعطاء وكنوز جباله الشامخة وثروات محيطه الهادر فضلا عما تجود به أيادي الخيرين والممولين وأولي الفضل من من لم يأتل أن يقدم ما تسير لهذا البلد القليل عدد سكانه الكثير عدد أزماته وهمومه…
دورة برلمانية توجها الوزير الأول بتلاوة ما لذ وطاب من مديح طرب وثناء لجب على أداء حكومته “سواء من باب ما قيم به أو سيقام به”رغم زيادة الأسعار أضعافا مضاعفة وتدني الأجور مقابل التضخم أضعافا مضاعفة ..ولم يفوت نواب الأغلبية فرصة اللقاء لإعادة أشرطة “الغزل السياسي” التي طالما صدحت بها حناجرهم طيلة الدورة البرلمانية دون كبير إقناع للرأي العام أو إلقام نواب المعارضة أحجارا مسكتة ..والثناء أولا وأخير على “فخامته”.
ومن خلال مجريات جلسات الدورة الحالية ونحن على أبواب تجديد مأمورية النواب يمكن تسجيل الملاحظات البرلمانية التالية والتي لا تحتاج ملاحظتها إلى كبير جهد أو عميق تأمل فهي بادية كالشمس رابعة النهار لمن يسير في فلاة صفصف صحوا لا تحتاج إلا إلى متلق موضوعي يلقي السمع وهو شهيد غير مشبع بالتطبيل السياسي أو البحث عن رضى الزعيم وهو يترنم هياما به :
فليتك تحلو والحياة مريرة * وليتك ترضى والأنام غضاب
1-النائب –الغائب
أولى هذه الملاحظات هو ما يمكن تسمية بالنائب- الغائب : حيث آثر بعض النواب الانزواء بعيدا عن الهم الوطني والتزم التغيب الوظيفي -إن صح التعبير- عن الجلسات فاقتصر وجوده على ملء مقعد لم يغير اختيار النائب له كثيرا في دوره ..فلا هو يهتم بمراجعة المشاريع التي تعرض على البرلمانيين لإبداء الآراء فيها ومن ثم إجازتها أورفضها.. فقد كفته “السلطات العليا” مؤونة ذلك ووضعت الأمور في نسختنها النهائية وليس من دور للنائب-الغائب إلا تعديل كفة ميزان “الحكومة”.برفع الراحة وسط راحة بال وانقطاع شبه تام عما يدور من صخب ولغط .. اللهم إلا ما تيسر من ابتسامة تمليها مداخلة أو مجالة هذا النائب أو تلك ..هذا إن كلف نفسه عناء الحضور إلى القبة –وهي فرصة لدخل يومي مناسب للبعض- لكن إن استدعت الأمور ترك تلك القبة الصاخبة ظهريا والتفرغ للأمور الخاصة والشخصية .فلم لا؟..وليس ثمة من مساءلة قانونية أو أخلاقية.
والجميع يعرف أن ثمة أسماء لم تقدم أي دور داخل القبة عبر المشوار.وقد تساوت الأكتاف –ورب الكعبة – مقدم الوزير الأول أخيرا وغصت القاعة بالنواب
وحقيقة الأمر أن ل(الكوتا ) النسوية القسرية قانونيا في الانتخابات السالفة دورا في هذا السياق بل وكذلك الكوتا القبلية والنفعية القسرية سياسيا لها بصماتها الواضحة في هذا السبيل
فهؤلاء النواب الغائبون هم من لا يمتلكون مؤهلات معرفية وسياسية تؤهلهم لمناقشة المشاريع والقرارات المعروضة على البرلمان .
أو لايريدون توريط أنفسهم في ملفات ومشاريع تحجز كثيرا من الجهد والوقت …فبالنسبة لهم ليس الأمر سوى “وظيفة” ذات دخل معتبر صدحت ملء حنجرتك أو صمت صمت القبور..فأرح نفسك فقد كفيت المؤونة. (ال جبر شواي ما ينحرك ايديه)
واعتقد أن مثل هؤلاء لم يؤدوا الأمانة التي حملوها أو حُملوها .بل فرطوا في أصوات الذين ائتمنوهم على مستقبل بلادهم ..وجانبوا العهود التي قطعوها على أنفسهم فلم يراعوا للمواطنين والأمة إلا ولا ذمة وكأنما عناهم القائل ذات يوم غاضب:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ** ولا يستأمرون وهم شهود
فحري بهؤلاء أن يترجلوا بعد انقضاء هذه المأمورية ..وأن يتركوا الأمور لمن “يرحل لبغيتها”
2- النائب المعارض..تفوق ملحوظ
لقد أبانت هذه الجلسات البرلمانية- كسابقاتها- عن جهود جلية وجبارة قام بها نواب المعارضة بمختلف أطيافها أثناء المناقشات تمثلت- من بين أمور أخرى- في تقديم حقائق تعمد الأرقام والوثائق و “شاهد ذي البردين ليس يجرح” وأظهرت مختلف الجلسات الاستجوابية إعدادا تطلب بحثا دؤوبا ومقاربات منطقية ومقارنات دقيقة والحصول على وثائق وملفات وصفقات في غاية “الفساد” في بلد شعار نظامه محاربة الفساد.
والتواءات في تنفيذ القوانين في بلد يرفع نظامه شعار دولة القانون..وشبهات في توزيع الثروة وإخفاق في سد جوعة المواطن وتلبية أبسط حاجاته في بلد يرفع شعار “رئيس الفقراء”.ومن محاور برنامجه “تبني سياسات اقتصادية ..تحارب الفقر وتعبئ الموارد الضرورية لذلك”.
وقد تحول الوزراء في مسلسل الاستجوابات إلى أدوار ثناوية بعد أن سحب النواب المستجوبون-بالكسر- بساط البطولة من تحت أرجل المستجوبين –بالفتح- بل قد قد ينزل لدرجة “الكومبارس” ” معنى ومبنى لا تسعفه كثيرا تدخلات “أغلبية”التي لاتقدم أكثر من الثناء الجارف والتسبيح بحمد النظام واعتباره عهدا جديدا دون أدنى تقديم وثائق أو أرقام موضوعية ..في استخفاف سافر تارة بالمتلقي يقلب الحقائق ويجعل من الحبة “ظهر آدرار” ويحول عجز حكومته إلى انتصارات جبارة بفضل الجهود النيرة والمباركة المستمرة والمتابعة الجادة ل”فخامته”.
حتى ولو كان حملة الشهادات يسرون مظاهرات بحثا عن عمل ..حتى ولو كان ارتفاع الأسعار أثقل كاهل المواطن الذي تشبع أذنه حتى البشم – بالأرقام الخيالية التي يسمعها ترصد لخدمته ثم لا يزيد يومه أن يكون نسخة مطابقة لأمسه دون تحوير أو تغيير ولو أنصف هؤلاء ونظروا إلى الحياة اليومية للمواطنين 2010 م نظرة المنصف لاستهجنوا حياة البؤس التي يعيشها الناس وضعف الخدمات الصحية رغم التباهي بالتمويلات السخية المبشرة بجنات تجري من تحتها الأنهار.
سارت مشرقة وسرت مغربا **شتان بين مشرق ومغرب
غير أن رضى فخامته أهم بكثير من الأدوار المنوطة بهم في خدمة الشعب حتى ولو اقتضى الأمر زيادة الضرائب على المواد الأساسية ورفض زيادة الضرائب على المواد الثانوية ..أو رفض زيادة تمويل جهة ذات بعد ديني يخدم المجتمع .أورفض زيادة ميزانية مرضى القلب …فالحكومة أدرى بمصالح الشعب –كما قال أحدهم- ونحن جئنا هنا دفاعا عن حكومتنا –يقول آخر وعليه.
إذا قالت حذام فصدقوها * فإن القول ما قات حذام
ولعل هذا ما يفسر تغريد بعض نواب الأغلبية خارج السرب وإحراج حكومتهم بأسلئة وملاحظات أقل ما يقال عنها إنها (غير أغلبية) مهما كانت الخلفيات الحقيقة لذلك التغريد المثير فالأمر لايدل على أن أمور حكومة الأعلبية بخير حتى عند بعض نواب الأغلبية .
والمفارقة أن يكون النواب المنتخبون بأصوات معارضة ولافتات معارضة هم المتصدرون لمشهد “التزلف” والارتماء في أحضان النظام ..ولعل ذلك راجع لكونهم “فيهم لعظام” وحري بهم أن يقنعوا “المضيف الجديد” أنهم يدينون له بالولاء المطلق وأنهم يندمون على ماضيهم “المعارض” ندامة الكسعي ..وكم أتمنى أن لايحرجهم بعض الأصابع ..
3- الوزراء واستراتجية التجاهل
من الأمور المثيرة المتكررة الدالة على عدم جدية التعاطي مع المؤسسات البرلمانية تجاهل الوزراء لتساؤلات النواب فليس من القانوني ولا من المنطقي ولا من الأخلاقي أن يجهد النائب نفسه في دراسة ملف معقد أو البحث في قضية تخدم المصلحة العامة ثم تعرض له أسئلة حيرى على الشفاه تبحث عن إجابات رسمية مقنعة ..فلا يجد الوزير غضاضة في تجاهل السؤال “المحرج” بشكل كامل والتركيز على بعض الأمور البسيطة التي ليست محل نقاش فضلا عن “المقدمات” والخواتيم الغزلية بجناب نظامه والتقليل من قيمة الأصوات المعارضة
لقد تابع الموريتانيون عبر الشاشة تجاهل وزراء أسئلة محرجة حول بعض القضايا المهمة من ملفات فساد..وحول بعض المسائل المتعلقة بحياة المواطن اليومية الذي ينبغي أن يكون محط اهتمام الحكومة.
ورغم إ لحاح النواب على ضرورة معرفة الإجابات المناسبة يكتفي السادة الوزراء بتدبيج “ديوان جديد” في مدح النظام ..
والمثير ان يتكرر ذلك أكثر من مرة ومع أكثر من وزير في أكثر من ملف دون أن يكون لذلك صدى في هرم السلطة الحريصة على الشفافية في تغيير إستراتجية “التجاهل” مما يوهن من وهج تلك الشعارات البراقة.
وأقل ما يقال في هذا السلوك أنه ينافي الحياة الدستورية، ويعطي انطباعا عاما مغزاه ومبناه أن الحكومة ما ضية في ما تراه وما تشتهيه رغم أنف “المشرعين”، وأن تطبيق استراتيجية التجاهل كفيلة بجعل النائب يضيع وقته وجهده في غير ما طائل ..
ولكن رغم هذا التصور فإن النائب المعارض قد أدى الأمانة، وأسمع الرأي العام حقائق قد تكون مدعاة لطرب ونشوة السادة الوزراء.
ويخيل إلي أنه على النواب، رص الصفوف لإيجاد مخرج قانوني وسياسي مقنع لهذه الأزمة، حتى لا تظل الأسئلة عالقة، وحتى لايتحول دور النواب إلى “عبث بلحية”.
ما تعنيه هذه السطور هو مجلس النواب .. أما صنوه مجلس الشيوخ فقد لايختلف كثيرا .. ولكن كما أبديت تجاهه سابقا ليس سوى عالة مجحفة وميزانية ضائعة شأنه شأن محكمة العدل السامية.
وقبل أن يرى ذلك التصور .. يظل برلماننا مصداقا لكلمة أحد علماء البلد، وصف فيها هذا المنكب البرزخي بأنه بلاد سائبة .. فبرلمانه بهذه المواصفات أقل ما يقال فيه إنه برلمان سائب
أحمد أبو المعالي
كاتب وشاعر موريتاني مقيم بالإمارات
Ahmad_aboualmaaly@hotmail.com