عليك الانتظار…أنت في قسم المستعجلات !
تخيل أنك في منتهى القلق و التوتر بسبب الوضعية الصحية لابنك الرضيع، فهو يبكي دون انقطاع…حسب طبيبه الخاص فهو يعاني من ضربة برد شديدة مصحوبة باحتقان في الأنف، ومن المفترض أن يتحسن بعد أخذ جرعة من المضاد الحيوي. لكنك استبطأت هذا التحسن وخوفك عليه جعلك تفكر في علة باطنة لم يكتشفها الطبيب.
وأنت تفكر في الأسوأ خلد إلى النوم برهة لكنه ما لبث أن أفزعك بصراخه القوي مجددا وكأنه يوجه إليك نداء استغاثة باللغة الوحيدة التي يعرفها في عمره.
وأنت… بمن ستستنجد في هذا الوقت المتأخر من الليل ؟ من الطبيعي أن تراودك فكرة الذهاب إلى قسم المستعجلات في المستشفى. فهو القسم الطبي الوحيد المتوفر على مدى أربع وعشرين ساعة. حسنا …ماذا تنتظر؟ تذكرت أن أهلك وأصدقاءك الذين سبق أن لجئوا لهذا القسم لا يمدحونه كثيرا..حاولت أن تطمئن نفسك باعتبار أن الناس بطبيعتهم مبالغون…ثم استرجعت ما يقوله المسؤلون في قطاع الصحة والأطباء في برامج التلفزيون المحلي، ألا يتباهون بوضعية القطاع ؟ ألا يمدحون الكادر البشري المتوفر في جميع التخصصات؟ ألم يزعموا أنهم على نية قهر جميع الأمراض؟ ألم يتصدوا حسب قولهم بكل بسالة لحمى الوادي المتصدع حتى بات من يتحدث عن وجود حالات منها حقود ولا يريد الخير للبلد؟ ألم يكرروا أنهم هزموا السل و الجذام والملاريا ؟ ألا يزعمون أن ما تحقق في ظرف وجيز لم يتحقق منذ استقلال موريتانيا ؟ ألا يقولون إن وضعية قطاع الصحة أحسن مما هي عليه في الدول المجاورة؟ أليسوا بصدد الشروع في علاج أمراض السرطان في نواكشوط؟.
تذكرت إطلالاتهم المتكررة على قنوات تلفزيونية ذائعة الصيت وهم يفندون كلاما جاء على لسان المرضى ويتحدثون عن مجانية العلاج وعن استراتيجياتهم الفعالة في إيجاد دواء لكل داء فطمأنك ذلك نوعا ما. بكاء ابنك لا يمنحك فرصة للتفكير، عليك الآن التوجه إلى أقرب مستشفى في أقصى سرعة. يبدو أنك ستذهب لقسم المستعجلات في المستشفى الوطني. الساعة الرابعة والنصف صباحا. لاتوجد حركة كثيفة أمام الباب وهذا أمر مبشر قد يعني أنك ستحظى بالعناية اللازمة وبالسرعة المطلوبة.
لكن مهلا …شخص ما يناديك من أمام الصيدلية المقابلة للقسم ويهرول باتجاهك مع الإلحاح عليك بانتظاره. يبدو أنه كان يتسامر مع صديقه في جلسة شاي على الفحم لمكافحة البرد القارس الذي تسبب أيضا في وجودك في هذا المكان وفي هذا الوقت. مظهره لا يوحي لك بشيء فهو شخص كبير السن طويل القامة يلبس عمامة سوداء تكاد تخفي كل ملامح وجهه وملابسه رثة للغاية. من كلامه اتضح أنه حارس القسم مع أنه لا يحمل أي دليل يثبت هويته لكنك لست هنا للتحقيق معه وهو أيضا لن يمنحك الفرصة… لن يتمنى لك السلامة ولن يسألك عن سبب قدومك لكنه بالتأكيد سيعطيك تعليمات صارمة بدفع خمسائة أوقية كشرط للدخول إلى القسم وستفهم من كلامه أن هذا الإجراء إجباري مهما كانت وضعية المريض.
الآن وقد دخلت… لا تتفاجأ فالمكان مخيف ولا يوحي بالأمان، تنظر بشفقة إلى ابنك ثم تتبع الحارس ليوصلك إلى قسم الأطفال… مشكلة أخرى الباب مغلق…سيتبرع الحارس بمساعدتك لإيجاد أحد الأخصائيين ثم يختفي. وبخطى ثقيلة ترى شخصا نحيفا يطل من إحدى الغرف حيث يبدو من ملامحه المتبعثرة أنه كان يغط في نوم عميق . سيعاملك ببرود يفهمك من خلاله أنك شخص مزعج. لا وقت لتبادل التحايا فأنت متعطش للكشف على ابنك وهو أصلا لن يسلم عليك.
ستتمنى لو كانت الغرفة ظلت مغلقة…أسرّة متهالكة ومتسخة…قنينات ماء فارغة قطع رأسها لكي تجمع فيها رميت فيها حقن مستعملة وبعض الشاش…أوراق مقطعة ومرمية على الأرضية المتعفنة..لن يمنحك فرصة التعمق في وضعية المكان المزرية وسيشرع في وزن ابنك على ميزان يوحي شكله بأن عمره من عمر المستشفى الذي أسس في الستينات دون اتباع الشروط اللازمة لأخذ الوزن بدقة.
لن يسألك عن اسم ابنك ولا عن سنه ولا حتى عن علته ثم سيذهب ليوقظ شخصا آخر من الغرفة المجاورة. ستتأكد أنك جئت في وقت غير مناسب فالناس كلهم نيام…ثم يعود ويجلس دون أن يتفوه بكلمة واحدة. ستصبر قليلا لكنك سرعان ما ستثور على هذه الوضعية مهما كانت قدرة تحملك.
يبدو أن الشخص رفض أن يستيقظ. ستحاول أنت معه، وستتعامل معه في البداية بشكل ودي فأنت لا تريد منه إلا أن يستيقظ ويطمئنك على ابنك. لكنك أمام تعنته وإصراره على مواصلة النوم حتما ستفقد أعصابك. وستبدأ بالتذمر والصراخ والنقد اللاذع حتى توقظ الضجة التي أحدثتها طبيبا آخر كان نائما في غرفة أخرى من قسم الأطفال…ما هذه الفوضى؟ لن يجيبك أحد. لماذا لم يستيقظ الطبيب ولماذا يعامل المرضى بكل هذا الاحتقار؟ لن يجيبك أحد….
الأخصائي سيفرك عينه ولن يعقم يديه وسيوجه لك بعض الأسئلة وهو نصف نائم…لكنك تتردد فابنك عزيز عليك ولن تغامر بإعطائه دواء كتبه طبيب في آخر الليل في هذه الظروف…ستثور وتهدد بتقديم شكوى بل وستشرع بذلك بالفعل لأنك سمعت أنه في بقع أخرى من العالم الشكوى تجدي نفعا وحقوق المواطنين مضمونة. سيقال لك في ما بعد إن الشخص الذي رفض الاستيقاظ طيلة هذه المعركة متدرب في المستشفى وسيحاول آخرون إفهامك أنه يتعاطى المشروبات الكحولية..وأيا كان السبب أمام طريقته السلبية في التعامل فإنك ستخرج من هذه التجربة منهارا ومتمردا ومشفقا على بلدك وأهلك ونفسك وتحمد الله أن حالة الطفل استغنت عن تدخل هذا الطبيب وأمثاله وتبحث عن مغيث آخر…وقطعا ستقيس وضعية قسم الحالات المستعجلة على بقية أقسام البلد وإداراته حتى ولو كان في ذلك بعض الإجحاف.
ستطرح على نفسك ألف سؤال وسؤال…كيف سيستوعب قسم الحالات المستعجلة في المستشفى الوطني المتضررين من أعقاب الفيضانات إن حدثت لا سمح الله، كيف سيتصدى للأوبئة؟ كيف سيواجه المتضررين في حال حدوث حريق كبير؟ هل المسؤولون على علم بكل هذه الفوضى أم أنهم يستقون معلوماتهم من جهات أخرى توصل لهم الصورة كما يريدونها أن تكون؟ أين تلقت مجموعة أصحاب الكهف هذه تكوينها وعلى أي أسس تم اختيارها للمداومة في هذا القسم؟ كيف سيتصدى هذا القسم للأسوأ وقد فضحت حالة طفلك أبشع عيوبه؟.
(*) مراسلة قناة الجزيرة في موريتانيا
موضوع ذو صلة : العاشرة والنصف ليلة الجمعة في الحالات المستعجلة