عليك اللعنة… أنت طبيب بقسم المستعجلات
تخيل أنك تخرجت حديثا من أحسن كليات الطب في المنطقة و تريد أن تبدأ حياتك المهنية من قسم المستعجلات حيث تكثر الحالات المرضية و تتحسن خبرتك بسرعة, سيكفيك فقط أن تزور إدارة أحد مستشفياتنا الكبرى بالعاصمة, عند باب الإدارة سيلتقيك شخص كبير السن, متوسط القامة,رث اللباس, يلبس عمامة سوداء تكاد تخفي ملامح وجهه بالكامل, من كلامه يتضح أنه بواب المدير مع أنه لا يحمل من الأدلة غير كرسيه المتهالك, يبادرك –ممسكا بالباب- عن سبب قدومك و هل لك ميعاد مسبق مع جلالة المدير أو مع نائبه أو أحد من إدارته,
ستشرح له أنك حديث التخرج و تبحث عن عمل في دولة اعترف وزيرها بنقص الأطباء فيها بل انه وجه نداء حارا للمغتربين منهم للعودة, لن يفكر البواب كثيرا فعبارة المدير في اجتماع أو مسافر على طرف لسانه, ستعود غدا ثم بعد غد حتى يسعفك الحظ بمشاهدة المدير داخلا فيضطر البواب لإدخالك عليه, تتردد سكرتيرته في البداية متعللة بكونه على الهاتف مع شخصية محترمة, ستنظر مرارا لهندامك للتأكد من وجود علامات الاحترام عليك, وبعد ساعة من الانتظار تتفضل السكرتيرة بإدخالك على جلالته راجية منك عدم المكوث طويلا لأن المدير سيحضر اجتماعا لمجلس الإدارة يحضر له منذ عام و نصف, تدخل على المدير و تبادره بتحية الإسلام وقبل أن تكملها يقوم سيادته باتصال من هاتفه الثابت دون أن يرد عليك التحية بمثلها على الأقل, تجلس في انتظار المكالمة التي تطول حيث يتبين لك من ردود المدير أنه يحدث أحد الخدم في السوق و يذكره بقائمة طويلة من المشتريات و بعد انتهاء المكالمة يرد عليك المدير متجهما:
- تفضل ماذا تريد؟
تتلعثم مستغربا ثم تقول له:
- أنا خريج طب و أبحث عن عقد عمل مع مستشفاكم,
يرد عليك :
- هل تعرف كم ستتقاضاه عند نهاية كل شهر؟
تجيبه بأن بعض الأصدقاء أخبروك ب 30 ألفا مع تعويض عن المداومات الليلية, يرد مستعجلا:
- إذن اترك طلبا عند السكرتيرة لكن اصبر قليلا فهناك 12 طبيبا سبقوك لم ننهي التعاقد معهم بعد, لكن في انتظار تحرير العقد يجب عليك الذهاب لرئيس قسم الحالات المستعجلة حتى يدخلوك في قائمة الأطباء المداومين.
تشكره كثيرا و توادعه فليس هناك حل آخر فالجيب فارغ و قد مللت سؤال والديك ثلاثين سنة حيث كانوا ينتظرون على الأقل أن تساعدهم بعد تخرجك, تعطي السكرتيرة ملفك ثم تذهب مسرعا للبحث عن رئيس قسم المستعجلات فلا شك أن لقاءه أسهل بكثير من لقاء المدير, عند الوصول لبوابة القسم الفسيح يمنعك حارسه-نسخة طبق الأصل من بواب المدير- من الدخول حتى تثبت له هويتك بإبراز بطاقتك الجامعية لآخر سنة في الطب, ينظر إليها مقلوبة لأنه-على ما يبدو لا يقرأ- ثم يسمح لك بالدخول, عند المدخل يلوح لك أحد أعوان النظافة فيصرخ في وجهك أن تتوقف حتى يكمل التنظيف, تقف في مكانك منتظرا عشر دقائق حتى ينتهي, عندها يمر عليك شخص يبدو أنه طبيب أو ممرض فتسأله عن مكتب رئيس القسم, يجيبك بأن لا مكتب له و لكن ابحث عنه في غرفة العمليات حيث يعمل هناك, و عند بوابة الغرفة تجد حارسا آخر يمنعك من الدخول لعدم ارتدائك زي الأطباء فترابط عند الباب حتى يخرج رئيس القسم, و أثناء رباطك الذي يطول يدخل الكثيرون ممن يرتدون الزي التقليدي الفضفاض و عندما تحتج يقول لك البواب بأنهم أطباء أو ممرضون , تحاول أن تصبر على هذا الاعتكاف القسري فمجرد التفكير في طلب أجرة التاكسي من الوالد صباح الغد يقض مضجعك و يعينك على مزيد الصبر على هذه الحقارات المتواصلة, فجأة يخبرك البواب بأن رئيس القسم سيخرج, تقف في مكانك فتراه حاملا كأس شاي يرتشفه و معه قطعة خبز صغيرة يبدو من أسود شفاهه أنها مطعمة بالشوكولاتة , عند خروجه تسلم عليه ثم تقدم له موجزا سريعا عن لقائك بالمدير فيرحب بك لكنه يقول لك:
عليك القيام بشهرين من التدريب حتى تتمكن من المداومة بمفردك، تجيبه على عجل بأنك قمت بمداومات لوحدك خلال السنتين الأخيرتين من دراستك و ليست لديك مشكلة, يجيبك بأن قسمه يسير بهذه الطريقة و إذا كنت تريد البقاء معهم فيجب أن تتدرب هذه المدة و بدون حوافز أيضا.
يغادر رئيس القسم و تفعل مثله لعلك تجد كأس شاي ترتشفه فينسينك الثلاثين سنة التي مضت من حياتك.
في الصباح الباكر تطلب من والدك ثمن التاكسي لتوصلك لقسم الحالات المستعجلة, هناك تجد طبيبين عامين مداومين و مجموعة كبيرة من الممرضين يبدو أنهم أغلب متدربون و مجموعة أخرى ممن كانوا منظفين فتحولوا بقدرة قادر إلى ممرضين, لا شيء يفرق بينهم فالزي هو نفسه و حتى المهام تتشابك أحيانا, تسلم على زميليك و تعلمهم بقدومك فيرحبوا بك قائلين بأن الاكتظاظ هنا كبير لكن يجب عدم أخذ وقت كثير مع المريض حتى لا يزداد الزحام, فجأة يدخل عليكم كبير ممرضي القسم و يقول بصوت جهور يجب ألا تفحصوا أي مريض قبل أن يأتي بتذكرة الدخول , يدخل عليك مريض متوسط العمر بادي على وجهه التعب و حرارته مرتفعة فتطلب منه أن يصعد على الطاولة و تطلب مقياسا لدرجة حرارته فيخبرنك زميلك أنه لم يشاهد أبدا مقياسا هنا منذ مجيئه قبل 6 أشهر إلا عندما وزع عليهم مروج أدوية بعض المقاييس و قد تلفت و ينصحك بأن تضع يديك على جبهة المريض لتعرف إن كانت حرارته مرتفعة أم لا, فتنصاع مكرها لأوامره و تسأل عن مقياس للضغط فيخبرونك أن القابلة المداومة في الحالات المستعجلة للنساء أخذته كعادتها و سترده بعد دقائق, تسأل عن خافض للسان لتتبين حنجرته و هل هناك التهاب بلوزتيه, فيرد عليك زميلك أن لا تتعب نفسك فالمريض مصاب بحمى الملاريا و لا داعي لكل هذه الكماليات و بأن تصف له حقنا يشتريها من صيدليات في الخارج و تنتقل للمريض الآخر حتى لا يتكدسوا عليك و تعم الفوضى فتنصاع له ثانية,تقول في نفسك إن رئيس القسم محق في منحك شهرين كاملين من التدريب,بعد الظهر يحضر مريض و كان أهله يصيحون بأن حالته مستعجلة و يجب إدخاله قبل الآخرين فيخرج عليهم زميلك طالبا منهم احترام الطابور لأن كل الحالات مستعجلة, يجيبه أحدهم بأنه ليس طبيبا و إن لم يدخل مريضهم فسيضربونه, ينادى الطبيب على الشرطة لإخراج المحتج و بعد ربع ساعة يحضر شرطي كهل كثيف اللحية يبدو أنه جاء ملبيا نداء الأذان لا نداء الإنقاذ و يطلب من الشخص المذكور الخروج فتسمعه يقول بأعلى صوته: هؤلاء مجموعة من المرتشين لو أعطيناهم مائتين لأدخلونا بسرعة, إنهم مرتشون…يهمس زميلي لعله يقصد الشرطة….
يدخل عليكم المريض و كان عليه إسهال كبير حيث تلطخت ملابسه فتطلب ارتداء قفازات حتى تحمي نفسك من العدوى فيقول لك زميلك أن تكتب وصفة لأهل المريض لإحضار القفازات لكون القسم لا يملكها فتفعل.
تتابع عملك بنفس الطريقة حتى يتملكك التعب فيقول لك زميلك الذي بقي مستيقظا أن تذهب للنوم مع الطبيب المداوم في جناح الأطفال إلا أنك تلاحظ اختفاء الممرضين و مساعديهم فتسأل زميلك فيجيبك هنا ينام الممرض قبل الطبيب , فتسأله أليس في العادة يجب أن يبقى الممرض صاحيا و يخبر الطبيب في حال وجود مرضى فيردك عليك أن الجميع ينام هنا بعد الثانية فجرا و عندما يأتي مريض سيوقظ بنفسه الطبيب , أما المرضى المقيمون فيجب تفقد حقنهم و جعلها بطيئة حتى لا يزعجك أهله عند انتهائها, أما إذا أتاك مريض في وقت متأخر لأسباب تافهة فيجب أن تكتب له وصفة غالية الثمن عقابا له, و تنام بجانب غرفة طبيب الأطفال حتى يوقظك صراخ هائل فتخرج لتجد امرأة تصيح و معها امرأة أخرى تحمل لها ابنها الذي يبدو أنه يعاني من نزلة برد حادة مع ضيق في التنفس تتمكن من سماعه بصعوبة وسط الضوضاء و كانت المرأة التي عرفت أنها مراسلة لقناة الجزيرة بنواكشوط تقول بأن هذا ليس مستشفى بل مقبرة و من غير المعقول أن يكون الطبيب نائما, تقول في نفسك أنها لا تعرف أن هذا الطبيب المغلوب على أمره قد فحص حوالي مائتي مريض منذ الثامنة صباحا ولو لم ينم و يأخذ قسطا من الراحة فليس بإمكانه استعمال مادته الرمادية للكشف على مرضاه, يخرج زميلك و هو نصف نائم من شدة التعب حيث لم يستطع الاستيقاظ بسرعة لعمق نومه, كان يفرك عينيه و يتثاءب متسائلا عن سبب كل هذه الضجة فالمريض لن يموت في دقائق و ان كان فعلا سيموت فليست لديه عصا سحرية لإنقاذه, ترجع لسريرك لإكمال نومك متمنيا أن تنام للأبد.
ومنها بدأت زينب بنت أربيه تكتب