11 سبتمبر .. ليس من رأى كمن سمع / الجزء الثاني
بعد ذلك اللقاء قررت الانتقال للعيش في مدينة أخرى، والابتعاد قدر الإمكان عن كل ما يربطني بشكل مباشر أو غير مباشر بتلك الاعتقالات والتحقيقات، عثرت على عمل جديد في وسط أمريكي صرف (أميرسون أباور ترانسميشن) فرع (أفلورانس – كنتاكي)، وبعد استكمال إجراءات المباشرة في العمل سألني مسؤول المصادر البشرية: كيف تحب أن نناديك (محمد) أو (باتا)، فأجبت على الفور (باتا)، وبالفعل تم تقديمي لكل العاملين في (الوير هاوز) باسم (باتا).
من الملاحظات العجيبة أنه في كل مرة يكون فيها سوء تفاهم أو نقص أو خلل في العمل أو أخبار في الإعلام عن خسائر أو انتصارات أمريكية، فإن الجميع كانوا ينادونني (محمد)، وفي المقابل إذا كانت الظروف طبيعية أو جيدة كانوا ينادونني (باتا)، حتى أنه صار لدي تمييز لحقيقة ومجرى الحديث من الودي إلى المستفز من أول كلمة يتفوه بها المقابل، مما خدمني كثيرا لسنتين قضيتهما في تلك الشركة، ولم يتأثر وضعي في الشركة مطلقا بأي من الاسمين نوديت، فزياداتي وترقياتي كانت مستمرة ومثالية.
في المدينة الجديدة وبعد عدة أيام من وصولي، الخامسة صباحا تحديدا، أيقظني زميلاي (أديب و أطول) – اللذان ارتبطت صداقتي بهما أيام كنا طلابا في العراق – فإذا بالمباحث الفدرالية وأعوانها، بالتحديد العميل الخاص السيد (جون أ. كاربر) من مباحث جرائم الدفاع في قوة مكافحة الإرهاب لمكتب المباحث الفدرالية وجها لوجه، سألني الكثير من الأسئلة حول (ألفا تريدينغ) و (أبو زكريا) وعملية السطو بالسلاح التي تعرضت لها قبل فترة في (الهول سل)، كانت تلك الأسئلة بمثابة القيض من الفيض بالنسبة لما سأله عن العراق وزميلاي، حتى ظننت أنه يظن أنه وقع على خلية إرهابية انتحارية، صدامية المشرب والهوى، لولا ابتسامته عندما أخبرته بوجود ملايين العراقيين اللاجئين في الولايات المتحدة الأمريكية والمعادين لصدام حسين والذين يعرفون عن العراق أكثر مني.
بعد تلك الابتسامة طلب مني رقم هاتفي المحمول، ومكان عملي، وسألني إن كان بإمكانه الاتصال بي هاتفيا من حين لآخر، فأجبت بالإيجاب، وارتديت ملابسي – بعد إذنهم – فقد حان وقت ذهابي للعمل، خرجت وخرجوا معي.
عدت متأخرا بعض الشيء في ذلك اليوم، ليفاجئني صديقاي الحميمان بأنهما قد أحرقا (شهادة يوم النخوة)، التي حصلت عليها من العراق – إثر الهجوم عليه في 1996 – لمشاركتي في تدريبات الجيش الشعبي والموقعة من طرف وزير الدفاع العراقي، المزدانة بصورة صدام حسين إلى اليمين وصورتي إلى اليسار وبعض صوري في التدريب العسكري، متعللين بأن تلك الشهادة كفيلة ليس فقط بإدانتي، بل القضاء علينا جميعا، استشطت غضبا، وشكرت لهما حرصهما على سلامتي وكلئ حفظي، كانت تلك الشهادة تمثل بالنسبة لي نقطة الشرف الوحيدة في حياتي.
بعد أيام قليلة زارنا العميل الخاص السيد (جون أ. كاربر)، ولكن هذه المرة لم يرافقه سوى ضابط واحد من إدارة الهجرة والاستيطان، وكان الحديث وديا فقد بدأ بمخاطبتي (باتا)، تركزت أسئلته هذه المرة حول الموريتانيين المتواجدين في الولايات المتحدة الأمريكية وأنشطتهم عموما، سألني عن المتاجرة بحليب الأطفال، عن قضايا تعويضات تأمين السيارات، عن عصابات التحايل على المصارف، عن التبضع من المتاجر الكبيرة بالشيكات، عن التحويلات والحوالات، عن طلاب الطيران الذين أرسل الجيش الموريتاني للتكوين: لماذا لم يكملوا؟ ولماذا لم يعودوا إلى وطنهم؟ سألني عن ملفات اللجوء السياسي والتوصيات، عن المستويات التعليمية وتعدد الكفاءات، سألني عن الموريتانيين الذين يحملون جوازات سعودية، عن مساجدنا، مذاهبنا، أعراقنا، طبقيتنا، لهجاتنا، جنوبنا وشمالنا…، سألني عن كل شيء.
ثم سألني إن كنت أحب العمل معهم؟ فسألت عن المطلوب مني؟ وعن المقابل؟ فقال: المطلوب أن تتردد على المساجد وتختلط بالمسلمين، وإذا سمعت أحدا يحرض على أمريكا أو يتوعد، أو شككت في أحد، أو اعتقدت أنه يمثل تهديدا، تبلغنا لنتخذ نحن ما يلزم من الاحتياطات ولن نظلم أحدا. وأما المقابل فإنه في حال استخدامك في مهمة تحصل على تعويض مجز، وعموما فأنت فرد من أفرادنا وستعرف إدارة الهجرة والاستيطان ذلك وغيرها من الدوائر الأمنية والرسمية عند الضرورة.
بدا العرض باهتا بالنسبة لي، فسألته إن كان بإمكانه التكفل بمخالفة (سبيدينغ تيكت)، حصلت عليها في طريقي إلى (أفلورنس)، فأجاب ضاحكا: هذا أمر بسيط يمكنك التعامل معه بنفسك، فرددت عليه أن كل أموري بسيطة ويصعب علي التعامل معها في أغلب الأحيان.
اتصل بي هاتفيا – بعد ذلك – عدة مرات، يسأل في العموميات، لم يجد ما يريد فقد كان لقائي الأخير به آخر عهد لي بالمسجد خلال السنتين المواليتين.
ظلت ظلال 11 سبتمبر تلاحقني حيث ما حللت، صرت أفكر قبل أن أتكلم، أتكلم عكس ما أريد، أريد ما لا أرغب، تغيرت طريقة حياتي تماما، انعكس ذلك على سلوكي، تبددت أحلامي وآمالي، فمرة كنت مع صديقين أمريكيين (كوكيجن)، ادعى أحدهم أنه أضاع مبلغا من المال، لم يكن في المنزل سوانا نحن الثلاثة، وقفت حائرا ماذا أفعل، بدا جادا في الإدعاء، إن عرضت تعويضا فسيتأكد الآخر من أنني أخذت المال الذي لا يملكه صاحبه أصلا، وإن تركته في ثورته فقد يدعي أي شيء – يتجاوز الحدود المعقولة والمقبولة – عند استدعاء الشرطة للتحقيق فأنا موضع اشتباه. أو في المرة الأخرى التي كنت أودع فيها صديقا – قدم من موريتانيا في تدريب مهني – وعرضت صديقة أخرى مرافقتنا إلى المدينة التي سأوصله إليها على مسافة ساعة ونصف، وبدون أن ندري كنا نتحدث طول الطريق (بالحسانية)، مما أثار لديها موجة عنيفة من الغضب والتوتر، لدرجة أنني اضطررت أن أنزله على الطريق وأعود بها عسى أن يهدئ ذلك من روعها، بعد أن نعتتنا بالقاعدة والإرهاب وحاولت القفز من السيارة، والحمد لله أن الطريق كانت سريعة لا أحد عليها ولا شرطة في الجوار، وإلا لواجهنا تهمة الاختطاف على أقل تقدير.
في هذه الأثناء كان التحدي الكبير للجالية الموريتانية في كون أغلب الموريتانيين لا يتحدثون اللغة الإنكليزية، مما قد يفسر بشكل مختلف، أو يجعلهم يجيبون بشكل يضرهم، نظرا لضعف التعبير وعدم فهم السؤال، والتناقضات التي قد تنجر عن ذلك، مما يضطر المحقق إلى التحفظ عليهم أو تكييف التهم لهم، التحدي الثاني: ممثلو الصرافات الذين يتم عن طريقهم تحويل النقود إلى الوطن، وتتكدس في حساباتهم عشرات ومئات آلاف الدولارات التي يتم تحويلها بعد ذلك لحسابات في ماليزيا أو أندنوسيا أو الصين أو مؤسسة أو شخص ما في العالم، والذين لا يمكنهم إثبات من أين حصلوا على هذه الأموال، ولا يعرفون أي شيء عن المحولة إليهم، وهم أيضا أعضاء استحقاق في التحدي الكبير بامتياز، النوع الثالث هم مجموعة من اليافعين بعثها الجيش الوطني الموريتاني لمدرسة للطيران في (تكساس)، لكنهم بعد عدة أشهر هناك لم يتمكنوا من مواصلة تكوينهم، ربما بسبب طريقة اختيارهم أصلا، المهم أنهم تركوا الدراسة ليلتحقوا بالصف الأول من العمالة البسيطة، وكردة فعل لأي احتكاك في العمل أو عند الحديث مع فتاة أو زميل كانوا يتباهون بانتمائهم لتلك المدرسة، مما يجعلهم عرضة للتبليغ والبحث عنهم، ويضاف إلى هذه المجموعة بعض خريجي الجامعات والذين بدورهم يتحدثون عن مؤهلاتهم وخبراتهم، مما يجده العاملون معهم متناقضا مع الأعمال التي يزاولونها، النوع الرابع هم أولئك الموريتانيون أصلا وطبعا الذين يحملون جوازات سفر سعودية، النوع الخامس هم باعة حليب الأطفال المتجولون في الولايات، والذين كانت لهم صولات وجولات مع مكتب المباحث ومكافحة المخدرات، وهم في الغالب من النوع الأول مع بعض الاختلافات.
جميع هذه الأنواع لا علاقة لها بالسفارة الموريتانية فكلهم لاجئون سياسيون ضد النظام في موريتانيا، لما يترتب عن ذلك من الإقامة الشرعية، الحق في العمل …،
جدير بالذكر أن الأعداد الكبيرة من الموريتانيين الذين تم توقيفهم على خلفية 11 سبتمبر، تمت معاملتهم معاملة جيدة، وتم تحويلهم إلى قضايا هجرة واستيطان بدل أمن وإرهاب، ولم يسفر منهم إلا خمسة بناء على رغبتهم.
بالإضافة إلى الاستعداد الذاتي لكل فرد فإن استشعار الخطر وتساوي احتمال الوقوع فيه، دفع الجميع إلى مستوى مشهود من البذل، فلم يبق موقوف واحد لم يتم توكيل محام للدفاع عنه وتأمين المال الكافي لدفع كفالته.
يتواصل
Batta122000@yahoo.fr
المهندس محمد أبات الشيخ