11 سبتمبر .. ليس من رأى كمن سمع / الجزء الثالث

في هذا الجزء – قبل الأخير – سأكتفي بسرد قصتي مع البيت الأبيض، تلك الأحداث التي جرت ثلاثة أعوام بعد هجوم 11 من سبتمبر، والتي عانيت خلالها الكثير، على الرغم من عدم استغراقها أكثر من عدة ساعات، إلا أن كل لحظة منها مرت مرور السنوات.

(ريتشمند – فرجينيا)، كنا نتناول شاي المساء بعد يوم شاق من التعاطي مع بعض (الأفركن آمركن) ثقيلي الطبع وكثيري الشغب زبائننا، تلقى صديقي خبر وفاة والده فقرر العودة بأسرع وقت ممكن إلى الديار، لم ننم في تلك الليلة التي توزعت ما بين مواساته والمساهمة في ترتيبات سفره.

ذهبت في الصباح الباكر متجها إلى (واشنطن دي سي)، لأجد رحلة لصديقي في نفس اليوم من تلك الوكالة الواقعة قرب تقاطع شارعي (أبنسلفينيا – و-17 ) والتي لم أزرها من قبل، بالإضافة لاستصدار وثيقة من السفارة الموريتانية تمكنه من السفر بدل جواز سفره المنتهية صلاحيته منذ فترة، ونظرا لاستخدامه لسيارتي فقد استخدمت في الرحلة سيارة صديق آخر، ورافقني في الرحلة صديق ثالث لا يتمتع بوضعية شرعية.

لم أستخدم الخرائط فأنا أعرف المدينة، وبعد نزولنا من الطريق السريع استدرت مع شارع (ابنسلفينيا) آملا أن أصل إلى التقاطع المطلوب، ظلت الشوارع تتوالى في الاتجاه الصحيح، فجأة وقبل أن أصل العنوان المحدد بمسافة بسيطة توسط البيت الأبيض قاطعا الشارع و طريقي.

اقتربت من أحد الحراس العاديين وسألته عن كيفية الوصول إلى العنوان المحدد، فأجاب مشيرا بيده: إنه هناك ويجب أن تسلك العديد من الطرق المزدحمة إذا أردت الوصول إليه بالسيارة، ولكن يمكنك الترجل والسير إليه من ممر حديقة البيت الأبيض، الممر المفتوح للمشاة، شكرت له نصحه ومساعدته، حاولت الحصول على مكان لركن السيارة، عبثا فالركن ممنوع هنا، أوقفت السيارة بقرب كشك صغير قريب يبيع صاحبه مواد تذكارية لزوار المنطقة، شغلت أنوار التوقف المؤقت (أفور وي)، وطلبت من مرافقي الجلوس خلف المقود والتظاهر بأنه مستعد للانطلاق.

حصلت من الوكالة على مقعد في رحلة الخطوط الفرنسية المتوجهة إلى (باريس) في ذلك المساء عند الساعة 18، طلبوا مني الانتظار لمدة نصف ساعة لاستلام التذكرة التي ستصل من مكتب الخطوط الفرنسية، كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، فكرت في استخدام تلك المهلة للانتهاء من إجراءات وثيقة السفر لدى السفارة الموريتانية.

عدت إلى السيارة عبر الممر الوحيد، لم تكن السيارة هناك ولم أجد الفتى، طفت بالبيت ذهابا وإيابا لعلني أجد الفتى الذي لا يهتدي سبيلا، أما السيارة فقد اعتقدت أنه تم قطرها كما تجري العادة هناك، لمت نفسي لتركي محفظتي – التي تحتوي كل أوراقي المدنية وبطاقاتي المصرفية – وهاتفي في السيارة، لم اصطحب معي سوى سجائري وبعض النقود وجواز سفر صديقي المنتهية صلاحيته، بعد جهد مضن استغرق الفترة المحددة لاستلام التذكرة استخدمت نفس الممر للوصول إلى الوكالة، استلمت التذكرة بالفعل واستخدمت الممر للمرة الرابعة على التوالي، أخذت أكرر نفس الخطوات في الطواف السابق فلم أجد الفتى، استخدمت هاتفا عموميا للاتصال على هاتفي الذي كان يرن دون جواب، عندها قررت المواصلة في مهمتي الأساسية أولا، وفي اللحظة التي أشرت فيها لسيارة الأجرة (تاكسي) اقترب مني شرطيان وطلبا مني التراجع عن سيارة الأجرة، ليقترب مني شخصان آخران بزي مدني ويقدما نفسيهما على أنهما (سكرت سرفيس) والتي تعني أنهما من المباحث المختصة بأمن البيت وساكنيه، طلبا مني بكل ذوق إظهار أوراقي الشخصية، أجبت بأنها ليست معي فقد تركتها في السيارة، سألوا عن السيارة، لا أعرف أين هي، سألوا عن نوعها ولوحتها ولونها، لا أعرف فهي ليست سيارتي ولم انتبه لتلك التفاصيل، أما لونها فهو نيلي أو أسود خفيف أو أخضر داكن، بدت على ملامحي علامات الإرهاق والتعب، عيوني محمرة فلم أنم من يومين تقريبا، باشروا بتفتيشي ليعثروا على تذكرة السفر للرحلة الفرنسية في ذلك المساء وجواز السفر ومبلغ بسيط من المال وسجائري، سألوا: هذه ليست صورتك، أجبت هذه لصديقي الذي سيسافر هذا المساء، قاما بتدوين كل معلوماتي التي صرحت بها من اسمي وعنواني وعملي وتسلسل ضماني الاجتماعي. تم عزلي في مقطع من الشارع بخمسة سيارات نزل منها عدد كبير من المحققين وأفراد المباحث.

في المقاطع المجاورة من الشارع وعلى الناحية المقابلة كانت حشود المارة ترمقني بالنظرات، منعوني من التدخين.

بدأ المحقق تلو الآخر يسألني وأنا واقف على الشارع عن قصتي، رويت القصة أكثر من سبعين مرة، وكل ما كنت أسمعه في نهاية كل تحقيق هي تلك التعليقات البالغة الأثر في نفسي والتي تتهمني بالكذب والتلاعب والتمويه، لاحظت من خلال الأسئلة بشكل غير مباشر أنهم يحاولون الوصول معي – بشكل سريع – إلى نتائج مفيدة يترتب عنها درء خطر كبير محدق يجب التحكم فيه والسيطرة عليه قبل فوات الأوان، المطلوب مني إذن هو كشف المخطط، والكف عن اختلاق القصص كالأطفال، فلا أمل في التنفيذ ولا طمع بالنجاة، وأي شيء أقوله أو أكشف عنه لصالح التحقيق سيحسب لمصلحتي في محكمة عادلة.

نزل مطر خفيف علينا ونحن وقوف في الشارع ، استبشرت به خيرا مستحضرا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (ما من قوم مطرو إلا وقد رحمو) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، تذكرت أيضا حضور المطر في بدر وغيرها من المشاهد وما تبعه من نصر الفئة المؤمنة، منحني ذلك المطر كذلك فرصة المناجاة والدعاء، منحتني قطراته الباردة نوعا من الانتعاش كنت في أمس الحاجة إليه لأستعيد حيويتي ويقظتي بعد تلك الأسئلة المملة والمكررة، والأجوبة التي صرت أقولها دون أبسط جهد في الترتيب أو الضبط فهي ليست سوى قصة حقيقية عشت أحداثها ومرغم على إعادة روايتها لنفس الأشخاص بعدد أنفاسها.

بعد تلك المهلة البسيطة التي وهبتني السماء، رأيت في الحشود صديقي الفتى وهو يحاول الوصول إلي لكن الشرطة لا تتجاوب معه، لفتت نظاراتي إليه أنظار المحققين فسألني أحدهم هل تعرف أحدا هناك، إنه الفتى الذي تركته في السيارة، كانت تلك المعلومة بالنسبة لهم غاية في الأهمية، أخذوه إلى ناحية أخرى من ذات الرصيف، لم يستطيعوا الوصول معه لشيء فلم تكن هناك وسيلة تعبير مشتركة، طلبوا مني توجيه سؤال واحد له وعدم الخوض معه في حديث، سألته عن السيارة، فأجاب بأن الشرطة أمرته بالتحرك، لم يملك إلا أن ينطلق حتى وصل موقف سيارات أوقفها فيه لكنه لا يدري أين هو ولا اسمه، المعلومة الوحيدة المفيدة أنه دفع لسائق سيارة الأجرة السوداني الذي أوصله إلينا سبعة دولارات وأنه لم يطفئ أنوار التوقف المؤقت.

قال لي أحد المحققين إنهم يرغبون في إكمال التحقيق في مكاتبهم – الساعة تشير إلى الواحدة والنصف – فأجبت بالموافقة فقال لي إنه نظرا للإجراءات القانونية سيتم تصفيدنا لغاية الوصول إلى داخل مكاتب التحقيق، تم نقلنا منفصلين في ظروف أمنية مشددة.

في المكاتب تم استجوابي مجددا من طرف شخصين فقط، الأول عرف نفسه في نهاية الاستجواب على أنه (هيومن لاي دتكتور) أي أن لديه القدرة على تمييز الصدق من الكذب، والثاني طلب مني التوقيع بالموافقة لعرضي على مختصين نفسيين والسماح لهم بإجراء الاختبارات الطبية التي قد يأمرون بها، سألته عن الإجراءات في حالة رفضي التوقيع على تلك الأوراق، فقال عندها يتم كل ذلك بموجب أمر من كبير المحققين، طلبت منه السماح لي بإخبار صديقي الموجود في غرفة تحقيق معزولة أخرى بضرورة توقيع تلك الأوراق والتعاون المطلق في ذلك، سمحوا لي بمخاطبته عبر الأجهزة الراديوية.

كنت معزولا تماما في غرفة صغيرة مغلقة ومضيئة، كتب عليها أنها (فديو أوديو ركوردد آند مونيتور)، أي أنها خاضعة للمراقبة والتسجيل السمعي والبصري، يتوسطها قضيب معدني يصل الأرضية بالسقف، مخصص لتثبيت الأصفاد، لا يمكن فتح بابها من الداخل ولا تحتوي على أي شيء، مقعدها جزء من الجدار وطاولتها التي تلف القضيب جزء من الأرضية، حاجبة للرؤية على الأقل من الداخل، درجة حرارتها معتدلة، الضغط داخلها مرتفع، قدر لنزيلها أن يتشبه بالملائكة الكرام، لا يسمع من خارجها شيء، مثالية للتدبر والتفكر.

بعد فترة من الوحدة المطلقة استعرضت خلالها جميع ذكرياتي، استشرفت خلالها نهاياتي المحتملة ومآلاتي، فتح الباب ذلك المحقق – وجه الخير – الذي قال لي لقد تحققنا من كل شيء، روايتك على الرغم من غرابتها وضعف احتمال صدقيتها، ملامحك العربية، حركاتك الخطأ في المكان والزمان الغير مناسبين، استهدافنا من قبل الإرهاب، هي أسباب تواجدك هنا، وجدنا السيارة بفضل محفظتك وهاتفك، لم يعد لدينا ما نتحقق منه معك، وأنت حر لتذهب، صديقك الفتى تم التحفظ عليه من قبل إدارة الهجرة والاستيطان نظرا لوضعيته غير الشرعية، وتذكر أنك أتيت معنا بمحض إرادتك.

كانت الساعة حوالي الرابعة، استلمت محفظتي وهاتفي ومفاتيح السيارة وسجائري، تذكرة وجواز سفر صديقي، اتصلت بصديقي المسافر وتقرر اللقاء عند (دالاس أيربورت) المطار في منطقة واشنطن الكبرى، توجهت مسرعا إلى السفارة، استلمت وثيقة السفر وتوجهت إلى المطار حيث كان صديقي آخر الصاعدين على متن تلك الطائرة.

عدت للبحث عن السيارة، التي عثرت عليها بمساعدة بعض الزملاء، لأبدأ في جمع الكفالة المطلوبة لإخلاء سبيل الفتى المرمي في السجن.

يتواصل

a-224.jpg11 سبتمبر .. ليس من رأى كمن سمع / الجزء الأول

11 سبتمبر .. ليس من رأى كمن سمع / الجزء الثاني

  • المهندس محمد أبات الشيخ

Batta122000@yahoo.fr

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى