غمرتني سعادة عارمة، عندما علمت أن والدي رحمه الله تعالى، قد اعتذر للمعلم “المشكلة”، ولم يسمح له بتحويلي معه إلى مدرسته الجديدة. ولم أكن أنا الوحيد الذي غمرته السعادة، في منتصف ذلك العام الدراسي، بل إن كل تلاميذ مدرستنا غمرتهم تلك السعادة العارمة. ولم تكن المشاكل الصغيرة، التي كانت تواجهنا كتلاميذ من حين لآخر، قادرة على أن تسلبنا، ولو شيئا قليلا، من تلك السعادة العارمة، التي غمرت مدرستنا، بعد أن تأكد لنا خبر تحويل المعلم “المشكلة” إلى مدرسة أخرى.
وفي ذلك العام الدراسي، حافظت ـ كالعادة ـ على الرقم الأول في امتحانات الفصول الثلاثة. ولقد استطعت أن احتكر ذلك الرقم، في كل امتحانات المرحلة الابتدائية، إلا في حالات نادرة جدا، كنت أهبط فيها إلى الرقم الثاني. وفي تلك الحالات النادرة جدا، كنت أدعي دائما بأن المعلم أخذ مني نقاطا، وأعطاها للتلميذ الذي تمكن من التفوق في الامتحان الذي فشلت أنا في أن أسجل فيه الرتبة الأولى.
وفي بداية الصف الثالث، عرفت أنماطا جديدة من التعذيب، على يد معلم جديد، توترت العلاقة بيني وبينه، منذ الأيام الأولى التي تعارفنا فيها، بعد افتتاح السنة الدراسية 1975ـ 1976.
كان من عادة المعلم الذي تم اختياره لتدريسنا في الصف الثالث، أن ينتقل بنا من واجب في تحسين الخط، إلى واجب آخر في تحسين الخط. وهذا الاهتمام الزائد من طرف معلمنا الجديد بتحسين الخط، هو الذي دفعني ذات مرة، لأن أقول له : ـ سيدي، إننا نريد أن نتعلم شيئا آخر، غير تحسين الخط.
لم تكن لديَّ مشكلة شخصية مع تحسين الخط، بل على العكس، فقد كنت من أحسن تلاميذ مدرستنا خطا، ومن أروعهم رسوما. ولكن في تلك الفترة من أعمارنا، كنا نعتقد بأن التلميذ الفاشل هو الذي يكون خطه حسنا، وتكون رسومه رائعة، ولا أدري من أين جئنا بتلك الخرافة. المهم أن تلك الخرافة، كانت من بين أمور أخرى، أدت إلى ندرة امتهان الخط والرسم لدى جيلنا. والمؤكد أني لم أكن أنا الموهوب الوحيد في الخط والرسم، الذي أضاع موهبته تلك، مخافة أن يعد من التلاميذ الفاشلين.
بعد تلك الملاحظة، بدأت أشعر بأن “معلم تحسين الخط”، أصبح يوليني عناية خاصة، كلما كانت هناك عقوبة جماعية للفصل. وأنه كان يخصني بتمييز إيجابي عند توزيع تلك العقوبة على تلاميذ الفصل. كما لاحظت أنه كان يختارني دائما كمشتبه وكمذنب دائم، عندما تسجل في فصلنا عملية تشويش ضد مجهول. كان يتم اختياري بشكل تلقائي، كلما تعذر ـ لسبب أو لآخر ـ تحديد مصدر أي عملية تشويش، تحدث في الفصل. والحقيقة أن “معلم تحسين الخط” لم يكن الوحيد الذي يعتبرني مجرما دائما، أستحق العقوبة على أي جريمة تحدث في الفصل، ويتعذر تحديد مرتكبها. فهناك معلمون آخرون كانوا يعتبرونني كذلك، رغم أني كنت أنتمي إلى قلة مشاغبة لم تكن تبذل جهدا كبيرا لإخفاء شغبها، أو للتستر على حماقاتها.
وكان من أفظع عقوبات “معلم تحسين الخط” أنه كان لديه سطل من حديد، يملأه بالتراب المبلل، ويضعه على رأس التلميذ المعاقب، والذي يجب عليه ـ حسب نص العقوبة ـ أن يستمر في الانتقال السريع، من الجثو على الركبتين، إلى الوقوف على القدمين.
وكانت عملية الانتقال تلك تسبب عناءً ومشقة لا يمكن وصفهما. وكان أقوى التلاميذ بنية جسدية، وأقدرهم على التحمل، لا يستطيع أن يواصل عملية الوقوف والجثو عشر مرات متواصلة. وفي العادة، فقد كان العرق يسيل من جسد التلميذ المعاقب، ابتداءً من الوقفة الرابعة، أو الخامسة. في حين أن الانهيار والسقوط الكامل يبدأ مع الوقفة الثامنة أو التاسعة، حسب البنية الجسدية للتلميذ المعاقب، وحسب قدرته على التحمل.
لقد حملت السطل في ذلك العام، عدة مرات. وكنت من أكثر تلاميذ الفصل حملا له، لدرجة أن ركبتيَّ بدأت تنتشر فيهما القروح من كثرة الجثو عليهما. فلم تكن أرضية الفصل مبلطة، بل كانت عبارة عن خليط من التراب والحجارة الصغيرة، لذلك فقد كان الجثو عليها عملية مؤلمة جدا، خاصة إذا ما كان الرأس يحمل سطلا مملوءا بالتراب المبلل.
ولم يكن من عادتي، أن أتحدث في المنزل عما أتعرض له في الفصل من عقوبات، لأن ذلك لم يكن من شيم “الرجولة”. كما أني أيضا كنت أخاف من أن يتسبب الحديث عن تلك العقوبات، في عقوبة إضافية في المنزل، انتصارا للمعلم في المدرسة. لم أحدث الأهل عن السطل، ولاعن معاناتي معه، إلا بعد أن اكتشفوا هم القروح على رُكَبي. وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة، التي ينتصر لي فيها والدي رحمه الله، ويذهب معي إلى المدرسة ليطلب من المعلم أن يتوقف عن عقابي بهذا الشكل البشع والفظيع.
وتوقفت عقوبة حمل السطل عني في ذلك العام، وفرحت لذلك فرحا شديدا، لا يقل عن فرحتي بتحويل المعلم “المشكلة”. وفي ذلك العام كان يدرسنا معلم للفرنسية، كان رحيما بي، وكان يدللني كثيرا، ولم يحدث أن ضربني إلا مرة واحدة، وكان ذلك خلال آخر مرة أحمل فيها سطلا،من قبل تدخل والدي رحمه الله تعالى.
فقد حدث أن زارنا في الفصل، معلم الفرنسية، أثناء حصة معلم العربية، بحثا عن طباشير فيما أعتقد، فوجدني في حالة يرثى لها. كنت أقف وأجثو بصعوبة كبيرة، وكان العرق قد بدأ يسيل من كل جسدي، موذنا بأن لحظة حدوث الانهيار الجسدي والنفسي قد أصبحت وشيكة جدا.
في تلك اللحظة العصيبة، والتي تمثل ذروة الألم والمعاناة، بالنسبة لحاملي السطل، فوجئت بمعلم الفرنسية يركلني ركلة قوية على الظهر.
وقد شكلت ركلة معلم الفرنسية، والذي كان يلقبه التلاميذ ـ باستثنائي ـ بالمعلم “المسحور”، مفاجأة كبيرة لي، ولكل تلاميذ الفصل. فهو كان يُعرف بأنه كان يدللني كثيرا، وكان يلقبني ب: “Le petit Mohamed”. وكان يخصني بما يفضل عنه من أي شراب، يأتيه أثناء الحصة، من إحدى الأسر المجاورة للمدرسة. بل إنه كان يزورنا في المنزل، وكان يُحدث الأهل عن ذكائي، وعن خلقي، وعن احترامي المميز للمعلمين!!!
بعد تلك الركلة المفاجئة، التفت معلم الفرنسية إلى “معلم تحسين الخط”، وطلب منه أن يسمح له بأن يأخذني معه، لكي يعاقبني عقابا شديدا، حتى لا أشوش مرة أخرى، أثناء حصة العربية في الفصل.
وسمح لي “معلم تحسين الخط” بمرافقة معلم الفرنسية.
خارج الفصل، طلب مني معلم الفرنسية، أن أعود إلى الفصل وأنا أبكي، وأن أهرب إلى مقعدي عند العودة إلى الفصل، وأن أتظاهر بأني أهرب لأتجنب المزيد من ركلاته ولكماته التمثيلية. وقال لي بأن تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن له استخدامها لإنقاذي من حمل السطل، في ذلك اليوم الذي حملت فيه لآخر مرة، سطل “معلم تحسين الخط”.
ونجحت الخطة، وتمنيت بعد ذلك أن أقابل السيد “لامين جوب” معلمنا للفرنسية، الذي اختفى عنا منذ ذلك العام الدراسي، ولا زلت حتى يومنا هذا أتمنى لقاءه، إن كان لا يزال حيا، حتى أشكره على ذلك الموقف الإنساني العظيم، وعلى غيره من المواقف الكثيرة التي وقفها معي، في “عام حمل السطل”.
وفي الصف الرابع، تعرفت على معلم جديد، لقبناه بالمعلم “الملاكم”. وكان ذلك المعلم يتصرف مع التلاميذ وكأنه ملاكم، فكان يوجه لكمات قوية إلى الوجه خاصة، في كل عقوبة نفذها، وما أكثر العقوبات التي نفذها في “عام اللكمات”.
وفي ذلك العام، كثرت عمليات التشويش والفوضى التي كان يقوم بها تلاميذ مجهولون. وبفضل وجودي في الفصل، فلم يكن ليغلق ملف أي عملية تشويش، ويسجل ضد مجهول. الشيء الذي جعلني أتعرض في ذلك العام، لعدد هائل من العقوبات، بسبب جرائم لم أرتكبها، ولا أعرف لحد اليوم من الذي ارتكبها.
ومن بين تلك العقوبات، أتذكر أني أتيت يوما إلى الفصل متأخرا بدقائق، بعد بدء الحصة المسائية. فاستقبلني “المعلم الملاكم”بلكمات قوية على الوجه، تسببت في إراقة دم كثير، سال من فمي وأنفي. وقد قال “المعلم الملاكم” في ذلك اليوم، بأنه لن يقبل أن أخدعه بتأخري، والذي أحاول من خلاله أن أغطي على جريمتي النكراء، والتي تتمثل في رسم مشين وغير لائق، رسمته على السبورة، حسب “المعلم الملاكم”، بعد انتهاء الحصة الصباحية، ومغادرة التلاميذ للفصل، وكتبت تحت الرسم، هذه صورة معلمنا.
والحقيقة أني لم أرسم تلك الصورة، بل إني حتى الآن لا أعرف أي التلاميذ رسمها. ولقد حدث أن قابلت أحد زملائي في الفصل، بعد فراق دام عقودا طويلة، وهذا الزميل كنت أعتقد آنذاك بأنه هو الذي رسم تلك الصورة، فالخط المستخدم في الكتابة كان يشبه خطه. سألت زميلي في ذلك اللقاء، إن كان هو الذي رسم تلك الصورة المشؤومة؟ فإذا به يفاجئني بالقول بأنه قد نسي تماما تلك الحادثة العظيمة، ولم يعد يذكرها، ولا يذكر الآن إن كان هو الذي رسم تلك الصورة أم لا!؟
وفي ذلك اليوم، قررت أن أشكو للإدارة الجهوية للتعليم من “المعلم الملاكم”،الذي عاقبني عقابا شديدا، على صورة لم أرسمها. ورفضت في ذلك اليوم ـ الذي سيكون له ما بعده ـ أن أزيل عن وجهي الدماء التي كانت تغطيه، من قبل أن يراها المدير الجهوي. وكنا في ذلك الوقت قد بدأنا نسمع، من مصادر غير موثوق فيها، بأن الضرب المبرح للتلاميذ، يعد جريمة تستحق العقاب.
وفي طريقي إلى الإدارة الجهوية، والتي كانت تبعد عن مدرستنا، أربعة كيلومترات تنقص أو تزيد قليلا، صادفت بعض نساء الحي، اللاتي أجبرنني على العودة معهن إلى المنزل، من قبل أن أوصل مظلمتي إلى الإدارة الجهوية.
وبعد ذلك بمدة، شعرت ذات مساء بحمى شديدة، أثناء حصة دراسية مع “معلمنا الملاكم”، فما كان مني إلا أن تقدمت بأدب جم إلى “المعلم الملاكم”، وطلبت منه أن يأذن لي بالذهاب إلى المنزل، لأني بحاجة عاجلة للعلاج من الحمى الشديدة، التي كنت أعاني منها، في ذلك المساء.
لم يكلف “المعلم الملاكم” نفسه أن يتحقق من صحة مرضي، وبخل عليَّ بلمس وجهي، ولو لمرة واحدة، بيد غير مقبوضة، وغير مصحوبة بلكمة قوية. واكتفى بأن قال لي:
ـ عد إلى مكانك..فأنا أعرف حيلك.
عدت إلى مكاني، وبدأت أشعر برغبة شديدة في الغثيان. ولم تكد تمر دقائق على عودتي إلى مكاني، حتى بدأت أشعر بأني سأتقيأ في الفصل، إن لم أخرج وبشكل سريع إلى ساحة المدرسة.
في تلك اللحظات الحرجة، خطرت ببالي فكرة عظيمة، هكذا دائما تأتي الأفكار العظيمة، تأتي في أوقات غير مألوفة، وغير طبيعية.
لقد عزمت بعد حادثة الصورة المشؤومة، وبعد فشلي في إيصال شكوايَ إلى الإدارة الجهوية، على أن أنتقم من “المعلم الملاكم”، انتقام “رجل” من رجل، حيث تتم عملية الانتقام، وجها لوجه، وأمام تلاميذ الفصل، وفي وضح النهار.
ولقد انتظرت كثيرا أن تأتي الفرصة المناسبة للانتقام، وها هي قد أتت.
إن أعظم لحظات الانتصار، هي تلك التي نسجلها ضد خصمنا، عندما نشعر بأننا نمر بلحظة ضعف قوية، ويكون خصمنا يشعر بأنه يمر بلحظة قوة.
ففي ذلك المساء، كنت أشعر بضعف شديد، فقد كنت أعاني من حمى فظيعة، وقد رفض المعلم “الملاكم” أن يسمح لي بالذهاب إلى أهلي للعلاج. بينما كان “المعلم الملاكم” يشعر بالقوة، فالفصل كله كان تحت السيطرة، ولم يكن هناك أي تلميذ يتجرأ على أن يقطع ذلك الصمت الرهيب، الذي خيم على فصلنا، في تلك اللحظات، التي كان فيها معلمنا “الملاكم” يتصفح دفاتر الواجبات، دفترا تلو دفتر.
كنت أشعر بأن الفرصة المتاحة أمامي الآن، قد لا تتكرر أبدا. وأنه عليَّ أن أستغل هذه اللحظة الحرجة، وأوجه للمعلم “الملاكم” الضربة القاضية، انتقاما من عقوبته الظالمة التي عاقبني بها على صورة لم أرسمها، ولا أعرف من رسمها.
كان عليَّ في تلك اللحظات أن أكون “رجلا”، حتى ولو كانت حقيقتي تقول بأني مجرد تلميذ بائس، يعاني من حمى شديدة، ويكاد يتقيأ في الفصل، مما يعني بأني سأتعرض للسخرية من تلاميذ الفصل في الأيام القادمة.
في تلك اللحظات الحرجة، كان بإمكاني أن أتحول إلى “رجل” يحترمه التلاميذ، وكان بإمكاني أيضا أن أتحول إلى مصدر سخرية للتلاميذ. وكان عليَّ أن اختار وبسرعة، أي الحالتين أريد أن أكون. فكان عليَّ أن أحدد أين سأتقيأ، لأن تحديد ذلك المكان، هو الذي سيرفعني إلى رتبة الرجال، أو يهبط بي إلى زمرة التلاميذ المنبوذين، الذين يسخر منهم زملاؤهم، في كل حين.
أقنعت نفسي بأنه بإمكاني أن أكون “رجلا”، وبإمكاني أن أجعل من ضعفي قوة عاتية، وأن أحوله إلى سلاح فتاك. وأقنعتها بأني لو استخدمت ضعفي بشكل ذكي، فإني لا محالة سأكسب المعركة، التي كنت أخطط لها في ذلك المساء المثير.
وما أروع أن ينتصر تلميذ بائس، يعاني من حمى شديدة، يكاد يتقيأ في الفصل،على “المعلم الملاكم”، وبالضربة القاضية.
صحيح أن السلاح الذي سأستخدمه لتوجيه الضربة القاضية، لن يكون سلاحا نظيفا. ولكن لا مشكلة، فالأسلحة المستخدمة في الحروب كلها، ليس فيها أي سلاح نظيف، حتى ولو كانت في ظاهرها أسلحة نظيفة. ثم إنه ليس من العدل أن يُطلب من تلميذ يعاني من حمى شديدة، أن لا يستخدم إلا الأسلحة النظيفة، في مواجهة “معلم ملاكم”، يملك من العتاد والأسلحة الشيء الكثير.
تركت طاولتي، واتجهت إلى “المعلم الملاكم” لتوجيه الضربة القاضية. ولقد حاولت أن أتحرك بهدوء، حتى لا اقطع الصمت الرهيب الذي كان يخيم على الفصل. كنت أريد أن أباغت “المعلم الملاكم” حتى تكون الضربة قاضية فعلا.
وعندما أصبحت بجوار طاولة “المعلم الملاكم”، أخذت أتقيأ، ولم أتمكن ـ بفعل الحمى ـ من الاحتفاظ بما في بطني، حتى أكون فوق رأس “المعلم الملاكم”، لأفرغ على رأسه كل ما في بطني، كما كان مرسوما في الخطة الانتقامية. ولكن مع ذلك تمكنت من أن أتقيأ على بعض دفاتر الواجبات، وعلى كم دراعة معلمنا “الملاكم”، وعلى جزء كبير من سطح طاولته، التي يجلس خلفها.
أخذ “المعلم الملاكم” يسب ويشتم ويصرخ، ولكنه في النهاية لم يستطع أن يوجه لي،هذه المرة، لكمات على الوجه، عقابا على جريمة ارتكبتها مع سبق الإصرار والترصد، رغم أنه كان كثيرا ما يوجه لي لكمات على جرائم لم أقترفها. لم يكن “معلمنا الملاكم” قاسيا لدرجة أن يوجه لكمات لتلميذ مريض، أصبح واضحا للجميع أنه يعاني من حمى فظيعة. ولم يكن رحيما لدرجة يسكت فيها عن جريمة ارتكبها تلميذ يعاني من حمى شديدة، ويكاد ـ لولا العناد ـ أن يسقط مغشيا عليه من شدة الحمى.
وكان ذلك الارتباك الذي بدا على “المعلم الملاكم”، في تلك اللحظات الرائعة، هو أكبر دليل على أن عملية الانتقام لم تفشل تماما.
كانت الحمى قد وصلت إلى درجة لا تطاق، وكنت في تلك اللحظات أكاد أسقط مغشيا عليَّ من شدتها. ولكن كان عليَّ أن أقاوم، وأن أظل واقفا. كان عليَّ أن أكون “رجلا” في تلك اللحظات، والرجال لا يغشى عليهم عندما يكونون وجها لوجه مع خصومهم. ولم يكن من المناسب أن أضيع تلك اللحظة، ولا أن لا أتلذذ بلحظة انتصار انتظرتها طويلا. وكان عليَّ أن لا أسمح للحمى ـ مهما كانت قسوتها ـ بأن تحرمني من أن أتمتع برؤية “المعلم الملاكم” وهو مرتبك، حائر، لا يعرف كيف يتصرف داخل الفصل.
إنه حقا لمشهد رائع، يستحق مني أن أقاوم الحمى بقوة، وأن لا استسلم لها، حتى أسجل كل تفاصيله الصغيرة، قبل الكبيرة.
بعد تلك العملية الانتقامية، شعرت بأني لم أعد طفلا، فالأطفال لا يمكنهم أن يجمعوا بين نشوة الانتصار وآلام الحمى في وقت واحد. وفي ذلك المساء استطعت أن أجمع بين النشوة والألم، ولم أسمح للحمى أن تسلبني مثقال ذرة من نشوة الانتصار على “المعلم الملاكم”.
ـ سيدي هل أعود إلى مكاني أم أذهب إلى المنزل للعلاج؟
نطقت بتلك الكلمات، ليست استجداءً، ولا طلبا للإذن من “المعلم الملاكم”، الذي كان واضحا أنه فقد زمام المبادرة في تلك اللحظات الرائعة. وإنما نطقت بها لأزيد من ارتباكه، ولأظهر ذلك الارتباك لتلاميذ الفصل.
ولم يجبني “المعلم الملاكم”، حتى اليوم، فهو لم يطلب مني أن أعود إلى مكاني في الفصل، ولم يأذن لي بالذهاب إلى المنزل.