يوميات شخص عادي جدا (4)
- بسم الله الرحمن الرحيم
- مع اختتام عام “اللكمات”، اختارتني إدارة المدرسة لأمثلها في المخيم الصيفي الذي تم تنظيمه في نهاية ذلك العام الدراسي. وكانت تلك هي أول مرة يتم فيها اختيار أحد تلاميذ مدرستنا ليشارك في مخيم صيفي، وربما كانت ـ كذلك ـ هي آخر مرة. فلم يحدث أن بلغني بعد ذلك، أن أي تلميذ آخر من مدرستنا شارك في أي مخيم صيفي، تم تنظيمه بعد المخيم الذي كان لي الشرف في أن أمثل فيه مدرستنا.
- ولقد خيرتني إدارة المدرسة، بين الذهاب إلى العاصمة “نواكشوط”، أو الذهاب إلى المملكة المغربية. ولقد اخترت العاصمة “نواكشوط”، لأن والدي رحمه الله، طلب مني ذلك، واشترط عليَّ مقابل السماح لي بالمشاركة في المخيم الصيفي، أن أكتفي بالسفر إلى “نواكشوط”.
- كنت في تلك المرحلة من عمري، ونظرا لما أسمع من قصص، أتخيل العاصمة “نواكشوط” مجرد دار للسينما، يقف عند بابها شاب شرس، ليس في قلبه مثقال ذرة من شفقة، يسمونه: ” Sans pitiè “. وهذا الشاب الشرس، يهدد كل طفل يقترب من دار السينما، ويجبره على أن يعطيه عشرين أوقية، ولم يكن بإمكان أي طفل أن يرفض إعطاء تلك الغرامة الإجبارية.
- ولي زميل في الشلة، كان يتخيلها ـ أي العاصمة “نواكشوط” ـ مجرد مستشفى كبير، تحيط به بيوت مخصصة لمرافقي المرضى. ولقد تكونت لديه هذه الصورة، لأنه ـ وحسب ما قال لي لاحقا ـ كان لا يسمع عن “نواكشوط”، إلا إذا كان سيسافر إليها مريض اشتد به المرض، وأصبح في حالة شبه ميؤوس منها.
- ولي زميل ثالث كان يتخيلها بحرا يغلي غليانا شديدا في كل مساء، ويرتفع منه، بخار كثيف، يملأ ما بين السماء والأرض، لحظة سقوط الشمس من السماء، في بحر “نواكشوط”. وهذه الصورة كانت شائعة كثيرا عند أطفال ذلك الزمن الجميل. وبالنسبة لزميلي فالصورة قد رسمتها في ذهنه جارة لهم، ذهبت إلى “نواكشوط”، وعادت لتؤكد له، ولأطفال الحي، بأن الشمس تسقط في كل مساء في بحر “نواكشوط”. وكانت تقول لهم بأنها رأت الشمس بعينيها الاثنتين ـ اللتين لابد أن يأكلهما الدود ـ وهي تسقط من السماء، في بحر “نواكشوط”. ورأت بعد سقوطها غيوما كثيفة من البخار تتصاعد من البحر، بفعل حرارة الشمس التي سقطت فيه.
- لم تكن العاصمة “نواكشوط” بالنسبة لي، ولا لزملائي في ذلك الوقت، مجرد مدينة عادية بملامح عادية، وبمواصفات ثابتة لا تتغير. بل كانت مدينة شبح، بعشرات الصور والملامح. وكان لكل طفل منا شبحه، أو صورته التي يختزل فيها عاصمة البلاد.
- لذلك فقد كان من اللازم أن أعود إلى زملائي في المدرسة، بحقيقة “نواكشوط”، وكانت تلك هي مهمتي الأساسية في المخيم الصيفي، حتى وإن كانت مهمة غير معلنة. ولقد أديت تلك المهمة غير المعلنة على أحسن وجه. والدليل على ذلك، أني كنت عندما أتحدث عن “نواكشوط”، خاصة في الأيام الأولى بعد العودة، يصغي لي الجميع بانبهار، وبتركيز شديد.
- لقد عدت إلى زملائي بحقيقة “نواكشوط”. فقلت لهم بأن فيها مصنعا عجيبا للأشربة، وأني تجولت ـ مع زملائي في المخيم ـ داخل ذلك المصنع العجيب. وأني رأيت القوارير تتحرك لوحدها بانتظام عجيب، نحو آلة تملأ تلك القوارير من شراب “الكوكا كولا”، ثم تتحرك إلى آلة ثانية تغلقها، ثم ثالثة تضعها في الأكياس، وهكذا.
- وقلت لهم بأن أهل “نواكشوط” لا يجوعون أبدا، فهم يأكلون ست وجبات في اليوم الواحد. وذلك قياسا لما كنا نأكل نحن في المخيم، وباعتبار أن قطعة الخبز مع الزبدة، أو مع الجبن يمكن عدها وجبة متكاملة. وكانت قطعة الخبز بالزبدة تقدم لنا في المخيم ثلاث مرات في اليوم ، مما رفع الوجبات المقدمة لنا يوميا إلى ست وجبات.
- ولم أقل لزملائي بأني شاهدت الشمس تسقط في البحر، كما كانت تقسم على ذلك جارة زميلي، ولكني في المقابل، قلت لهم ما لا يقل غرابة عن ذلك، في زمننا ذاك. فحدثتهم عن المرأة الموريتانية التي رأيتها، بعيني الاثنتين على شاطئ البحر، وهي تدخن سيجارة! ولم اقل لهم بأني ذهبت إلى السينما، وأني دفعت غرامة عشرين أوقية للشاب الشرس، بل قلت لهم بأن أهل “نواكشوط” لا يذهبون إلا السينما، وإنما تأتيهم السينما في ديارهم. ولقد حدثتهم عن كل الأفلام التي شاهدتها في ثانوية البنات، حيث كان مقر مخيمنا الصيفي.
- وقلت لهم ـ ولم أصدقهم في ذلك ـ بأني مللت من ركوب الحافلات والسيارات في العاصمة “نواكشوط”، وأني أصبحت أنزعج عندما يدعونا المشرفون على المخيم إلى جولة في “نواكشوط” نضطر خلالها لركوب حافلة أو سيارة.
- والحقيقة أنه لم يكن من الممكن لطفل مثلي، قادم من مدينة “لعيون”، في تلك الفترة من الزمن، أن يمل من التنقل في السيارات. لقد كانت أمنيتي في المراحل الأولى من طفولتي ، وهي أمنية كل زملائي تقريبا، أن أكبر بسرعة، وأن أصبح سائقا لأحدى سيارات “لا ندروفر” التي كنا نشاهدها، من حين لآخر، تجوب شوارع المدينة، في السبعينات.
- ولقد كان سائقو السيارات، بالنسبة لنا نحن أطفال السبعينات، هم نجوم المدينة الذين لا يمكن لأي كان أن ينافسهم على تلك النجومية. ولقد كان من أشهر أولئك النجوم، سائقان نُسِج حولهما الكثير من القصص المثيرة. أحدهما كان يلاحقه الأطفال بنظراتهم، كلما مر بسيارته من أحد الشوارع. فمن يدري، فربما يتصادف معه أحد الأطفال، وهو يطير بسيارته؟ ولقد كان من المؤكد لدينا نحن الأطفال، بأن ذلك السائق الشهير، قد طار بسيارته مرة على الأقل. وكان ذلك على الحدود المالية الموريتانية، والسبب أنه في أحدى رحلات عودته من مالي، وجد واديا في طريقه قد امتلأ بالماء، بفعل الأمطار التي تهاطلت أثناء رحلة العودة. فما كان من السائق الشهير، إلا أن قرر أن يطير بسيارته، حتى يتجاوز الوادي، ثم يعود بها إلى الأرض ليواصل طريقه، وكأن شيئا لم يكن. أما النجم الثاني، فقد كان يقال بأن سيارته تعطلت به مرة، في أرض قاحلة، فانزعج الركاب كثيرا، وخافوا أن يهلكهم العطش في تلك الأرض القاحلة. ولكن السائق الشهير لم ينزعج كالركاب، وإنما ذهب إلى شجرة، وقطع جزءا من جذعها، وصمم منه قطعة على شكل القطعة المتعطلة في ماكينة السيارة، ثم وضع القطعة الخشبية مكان القطعة المتعطلة، قبل أن يواصل طريقه إلى المدينة الرائعة.
- ولقد كان شائعا عندنا بأن ذلك السائق، هو الذي ساعد في إصلاح جناح طائرة”DC-4″، الذي سقط ذات مرة في أحد المطارات. وكان يقال بأنه هو الذي ثَبَّت ذلك الجناح من جديد بالطائرة، وأنه ربطه بالحبال. ولقد عادت الطائرة إلى الطيران، وظلت تطير وأحد أجنحتها مربوط بالحبال.
- ولقد بحثت كثيرا عن ذلك الحبل، عندما شاهدت، ولأول مرة، طائرة”DC-4″ عن قرب، وهي جاثمة في مطار “لعيون”. وكان ذلك عند ذهابي إلى العاصمة، في رحلة المخيم. وبحثت عنه مرة ثانية أثناء عودتي من المخيم، في نفس الطائرة، ولكني لم أشاهد الحبل المذكور. ومع ذلك فإني لم أحدث زملائي بذلك، مخافة أن أقلل من شأن أحد أشهر سائقين، أو على الأصح أشهر نجمين، في المدينة الرائعة.
- وفي ذلك العام كان كل شيء في المدينة الرائعة، رائعا بحق. وكان الصف الخامس، بالنسبة لي، من أروع ما في المدينة الرائعة في عامها الرائع ذاك. فقد كنت أنا التلميذ الوحيد في المدرسة الذي كان بإمكانه أن يقول لزملائه في ذلك العام الرائع، بأنه قد مر به شهر من عمره، كان يأكل فيه ست وجبات في اليوم الواحد، ويشاهد فيه الأفلام قبل النوم، ويتنقل يوميا في السيارات والحافلات، حتى أصبح منزعجا من ذلك.
- وفي ذلك العام الرائع ، وهذا من أسرار روعته، لم أتعرض للضرب إلا قليلا، فقد كان معلمنا في الصف الخامس،هو مدير المدرسة المعروف بتسامحه وبحلمه. ولقد قابلت تسامح المدير وحلمه بأدب جم، ولم أشوش إلا قليلا.
- ورغم ذلك فلم يخل العام الرائع من بعض المنغصات التي حدثت خارج المدرسة، وكان بعضها مروعا. فقد انفجرت قنينة غاز داخل منزلنا، وشوهدت ألسنة نيرانها من أماكن متفرقة في المدينة، وسُمِع صوت انفجارها في أمكنة بعيدة. ولقد اعتقد الكثيرون من سكان المدينة، بأن صحراويين تسللوا ونفذوا عملية أحدثت ذلك الانفجار القوي. فلم يكن استخدام الغاز شائعا في ذلك الوقت، بل كان من النادر جدا استخدامه. ولقد أصيب كل أفراد عائلتنا المتواجدين ذلك الوقت في المنزل، بحروق متفاوتة في الخطورة، وكانت حروقي متوسطة، حسب مقياسي الشخصي.
- وقبل انفجار قنينة الغاز، كنت قد فوجئت في يوم من الأيام بسيارات عسكرية، مدججة بالسلاح، تتوقف وبشكل عنيف أمام باب منزلنا، ويهبط منها عدد من العسكريين. اعتقدت في البداية بأن تلك السيارات يقودها ابن خال والدتي، والذي تخرج في تلك الفترة ضابطا، والذي ربما يكون قد زار المدينة في مهمة عسكرية، وقرر بالتالي أن يمر بنا للسلام، وللرفع من مكانتي بين الأطفال. فتوقف سيارات عسكرية أمام باب منزلنا، وفي ضحى النهار، كان حدثا عظيما. وهو حدث سيكون بإمكاني أن أستغله إعلاميا، داخل الشلة، لكي أرفع من مكانتي، والتي بلغت في ذلك العام الرائع مستوى قياسيا، بفعل أكل الوجبات الست، ومشاهدة الأفلام قبل النوم، و التظاهر بالانزعاج من التنقل بالسيارات.
- خرجت إلى باب المنزل مسرعا، لاستقبال “الضابط الخال”، ولكنني صُدِمت عندما لم أشاهده بين العسكريين الذين كانوا يتصرفون بغطرسة وبخشونة فاجأتني كثيرا. لقد نزلوا من سياراتهم بخشونة، ومروا من حولي بخشونة، ودخلوا المنزل بخشونة، وأخذوا يهددون النساء والأطفال داخل المنزل بخشونة. إنها لحظة خشنة ومتوحشة، من عام لم يكن متوحشا ولا خشنا، بل كان عاما رائعا ووديعا.
- صوب قائد الجند، وبوحشية القادة، سلاحه نحونا، وهدد بنسف المنزل وبمن فيه، من نساء وأطفال، إن لم نُخرج لهم، وعلى الفور، الصحراوييْن الاثنين اللذين نخبئهما في المنزل.
- كان في تلك الفترة يسكن عندنا صديق لوالدي رحمه الله، وكان برفقته عامل. وكان صديق الوالد يقيم معنا مدة من الزمن، يشتري فيها عددا من الإبل، يسوقه في وقت لاحق، إلى مدينة “أطار” لبيعه هناك. وكان صديق الوالد رجلا من أهل “الساحل”، وكان شكله وبشرته يختلفان كثيرا عن الأشكال المعهودة في المدينة، خصوصا في فصل الصيف، حينما تصبغنا حرارة المدينة بصبغتها المميزة.
- ولقد حدث أن شاهد حطاب يسوق حمارا محملا بالحطب، صديق والدي مع عامله، في كهف من كهوف الجبال المحيطة بالمدينة، من الناحية الجنوبية، وكانا وقتها ينتظران إبلا قادمة إلى المدينة. وعندما رآهما الحطاب هناك، اتجه فورا إلى السلطات في المدينة، وأخبرهم بأنه شاهد صحراويين اثنين مسلحين في كهف جنوب المدينة، وأنهما يستعدان للإغارة على المدينة.
- ـ دعك من تهديد وترويع النساء والأطفال، أنت جئت إلى هنا من أجلي، وها أنذا بين يديك فأفعل بي ما تشاء، ودع عنك النساء والأطفال.
- هكذا خاطب صديق والدي رحمه الله، القائد المتوحش. لم يكن صديق الوالد رحمه الله في تلك اللحظات بعيدا عن المنزل، وعندما شاهد السيارات العسكرية، وسمع بالخبر عاد مسرعا تسبقه كلماته تلك، والتي لم تترك للقائد المتوحش أي حجة للاستمرار في ترويعنا وتهديدنا بتلك الطريقة المتوحشة، ولا بتنفيذ تهديداته، والتي يبدو أنه كان يفكر في تنفيذها.
- لم تستمر التحقيقات طويلا مع صديق والدي رحمه الله. فقد كانت لديه أدلة كثيرة تثبت بأنه لم يفكر يوما في الإغارة على مدينة “لعيون”. ومع ذلك فلم يُطلق سراحه إلا بعد أن تدخل بعض وجهاء المدينة، وتعهدوا بتحمل المسؤولية الكاملة، عن أي جريمة يرتكبها، طيلة إقامته بالمدينة.
- وعندما أُطْلِق سراح صديق والدي رحمه الله، هجم عليه بعض سكان المدينة، ورشقوه بالحجارة، ونددوا بإطلاق سراحه. فما كان منه إلا أن أعاد إلى مكان الاعتقال، وطلب من السلطات تأمينه، حتى يعود إلى منزلنا الذي يقع في الحي الجنوبي من مدينة “لعيون” الرائعة، والمتميزة في كل شيء، حتى في إشاعاتها، وفي قدرة أهلها على التخيل، وعلى مزج ما تخيلوا بتفاصيل حياتهم اليومية.
- وكعادتهن، أبدعت بائعات الخضروات في سوق المدينة، هن وزبوناتهن، في ذلك اليوم المتوحش. فألفن في دقائق معدودة قصصا مثيرة وعجيبة، ونسجن في تلك الدقائق روايات عديدة للمعركة الشرسة، التي حدثت في ذلك اليوم، داخل منزلنا بين أهلي، ومن معهم من الصحراويين، ومن ناصرهم من الأقارب، وعساكر المدينة.
- وتحدثت بائعات الخضروات في ذلك اليوم، عن العديد من الجرحى والقتلى الذين سقطوا من الجانبين، في ساحة المعركة الشرسة التي دارت داخل حدود منزلنا.
- ولقد ذُهِلت كثيرا عندما قابلت زملائي في مساء ذلك اليوم المتوحش، ووجدت أن لديهم روايات وتفاصيل لما حدث في صبيحة ذلك اليوم داخل منزلنا، قللت كثيرا من أهمية روايتي للحدث، رغم أني أضفت لروايتي كشاهد عيان، إضافات عديدة لمزيد من الإثارة. واكتشفت في ذلك المساء، أن روايتي للحدث الذي كنت شاهدا عليه، هي أسخف شيء يمكن أن أحدث به الأطفال في مساء ذلك اليوم، والذي كان بحق، يوما من أيام بائعات الخضروات بسوق المدينة.
- وفي الصف السادس، لا أذكر أني ضُربت ولو لمرة واحدة. فقد درسنا في ذلك العام معلم للفرنسية، أحبني كثيرا، وتوطدت علاقتي به منذ الأيام الأولى التي أعقبت الافتتاح. ولم تتوتر علاقتي به، إلا عند البدء في إيداع ملفات الترشح لمسابقة دخول السنة الأولى من الإعدادية.
- كان معلم الفرنسية يثق بي ثقة عالية، وكان يكلفني بمهام كثيرة داخل الفصل، في إطار ما سأعرف مستقبلا، بأنه يسمى بالتحفيز من خلال التكليف بالمزيد من المهام والصلاحيات.
- ومن شدة ثقته بي، أتذكر أنه زارنا، خلال إحدى حصصه، تلميذان من خارج الفصل، وكانا يريدان من معلمنا أن يحل لهما أصعب مشكل على الإطلاق، في كتاب الحساب الشهير، والمعروف باسم أحد مؤلفيه:J.Auriol”” . وكان من عادة التلاميذ أن يختبروا مستوى المعلمين في الحساب من خلال مطالبتهم بحل المشكل المذكور.
- ولقد فاجأ معلمنا التلميذين بأن أجابهما بشكل مباشر، وقال لهما بأن وزن خنشة الأرز المطلوب تحديد وزنه في المشكل المذكور هو 63.5 كلغ، إن لم تخني الذاكرة. وبالمناسبة فأنا أعتمد في سرد هذه المذكرات، على ما أتذكره الآن. وهناك بعض الأحداث التي كان يمكن لي أن أقدم عنها تفاصيل أكثر، لو أني استعنت بآخرين ممن عايشوها، ولكني لم ولن أستعين بهم. فهذه اليوميات ستقتصر فقط على ما ستجود به ذاكرتي البخيلة من ذكريات، لحظة سردها على الكاتب الذي تعاقدت معه على كتابتها ونشرها.
- وفاجأ المعلم التلميذين مرة أخرى، عندما قال لهم بأن أصغر تلميذ في الفصل، يمكنه أن يحل لهما المشكل المذكور.
- وطلب مني معلم “التحفيز بالمهام الصعبة” أن أتقدم لحل المشكل المذكور.
- وكانت تلك واحدة من أصعب المهام التي كُلفت بها في حياتي. وكانت تلك هي المهمة الوحيدة التي يستحيل أن أفشل فيها.
- تقدمت إلى السبورة، وبدأت في حل المشكل، وكنت أثناء الحل أحس بنظرات المعلم الواثقة تخترق جسمي، وتزودني بطاقة هائلة. لم أكن بحاجة لأن أسترق النظر إلى وجهه. فقد كنت واثقا بأنه ينظر إليَّ في تلك اللحظات بنظرات واثقة، نظرات تخيفني وتطمئنني في آن واحد. لقد كنت خائفا من أن يهلكني معلم “التحفيز بالمهام الصعبة” بثقته المفرطة، وبمهامه الصعبة، وبتحفيزه الذي كان في بعض الأحيان، يزعجني ويخيفني أكثر من إبر “المعلم المشكلة”، ومن سطل معلم “تحسين الخط”، ومن لكمات “المعلم الملاكم”.
- وقد لا تصدقون بأني تمنيت وأنا أحاول حل المشكل المعقد، أن يكون “المعلم المشكلة”، أو “معلم تحسين الخط”، أو “المعلم الملاكم”، أن يكون أحدهم هو الذي يقف خلفي، بدلا من “معلم التحفيز بالمهام الصعبة”.
- وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني “المعلم المشكلة” بحل ذلك المشكل، لما أتعبت نفسي، ولبحثت عن أغرب إجابة. وربما كتبت له على السبورة بأن وزن الخنشة هو صفر كلغ، حتى وإن كنت أعلم بأن تلك الإجابة ستترتب عليها مائة وخزة بالإبر على اللسان.
- وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني “المعلم الملاكم” بحل ذلك المشكل، لربما فكرت في أن أكتب له بأن وزن الخنشة يزيد على ثلاثين ألف طن، حتى وإن كنت أعلم بأن تلك الإجابة ستتسبب في مائة لكمة على الوجه.
- وقد لا تصدقون بأنه لو كلفني “معلم تحسين الخط” بحل ذلك المشكل، لربما امتنعت عن حله، مدعيا بأن لا أفهم إلا في تحسين الخط، حتى وإن كنت أعلم بأن ذلك قد يترتب عليه أن أقف وأجثو مائة مرة، وأنا أحمل سطلا مملوءا بالتراب المبلل.
- مشكلتي في ذلك اليوم، أن المعلم الواقف خلفي، هو معلم “التحفيز بالمهام الصعبة”، الذي لم يغضب عليَّ يوما، ولم يعاقبني يوما، والذي ـ وهذا هو أصعب ما في الأمر كله ـ يثق بي ثقة عالية.
- ومشكلتي في ذلك اليوم أني كنت على يقين بأني لو فشلت في حل ذلك المشكل، فلن يغضب لذلك معلم “التحفيز بالمهام الصعبة”، ولن ينقص حبه لي، ولن تتأثر ثقته بي بسبب ذلك.
- ومشكلتي في ذلك اليوم أن المعلم الذي طلب مني حل ذلك المشكل، والواقف خلفي في تلك اللحظات، والذي كانت نظراته الواثقة تخترق جسمي، يحبني كثيرا، ويحترمني كثيرا، ويثق بي كثيرا.
- ومشكلتي في ذلك اليوم، أنه إذا كان يجوز لي أن أفشل في أي شيء، كُلفت به في حياتي، حتى ولو كان أمرا بسيطا، فإنه لا يجوز لي ـ بأي حال من الأحوال ـ أن أفشل في أصعب مهمة كُلفت بها في حياتي، لأن من كلفني بها، هو معلم “التحفيز بالمهام الصعبة”. ولأنه بعد أن كلفني بها، وقف خلفي في انتظار أن أنجزها، وعلى أحسن وجه.
- ومشكلتي أيضا، هي أن الكاتب الذي تعاقدت معه على كتابة هذه السيرة، لن يتمكن من نقل مشاعري في تلك اللحظة، حتى ولو تفرغ لهذه الحلقة أسبوعا كاملا. لن يستطيع أن يفهمكم بأن التحفيز قد يهلك تلميذا في الصف السادس، أكثر مما تهلكه اللكمات في الصف الرابع، أو حمل السطل في الصف الثالث، أو الوخز بالإبر الحادة في الصف الثاني ابتدائي. لن يستطيع كاتب هذه اليوميات أن ينقل لكم بلغته العادية جدا، مشاعر غير عادية، في لحظة غير عادية، من حياة شخص عادي جدا. كلما يمكن للكاتب أن يفعله، وأنا أستفزه الآن لأن يفعل أي شيء آخر، هو أنه سيهرب من تلك اللحظة غير العادية. وسيقول لكم، وبسذاجة سخيفة، متجاوزا كل تفاصيل تلك اللحظة غير العادية، بأني تنفست الصعداء عندما توصلت خلال حلي للمشكل، لرقم يتطابق مع الرقم الذي ذكره معلم “التحفيز بالمهام الصعبة” منذ دقائق، على أنه وزن الخنشة المطلوب تحديده.
- ومن الغريب حقا، أني بعد ذلك بسنوات عدة، وبعد أن تطورت كثيرا معلوماتي في الرياضيات، حاولت أن أحل نفس المشكل، بنفس الطريقة التي استخدمتها لحله سابقا، ولكني فشلت في ذلك. ولم أتمكن من حله إلا بعد أن استخدمت نظاما من معادلتين ذات مجهولين، والذي يجعل من حل المشكل مسألة في غاية البساطة. وتمنيت في هذه اللحظات التي كنت أسرد فيها ما حدث في ذلك اليوم، لكتاب يومياتي، أن أذهب إلى وراقات سوق العاصمة، واشتري كتاب الحساب المذكور، فقد رأيته مرة هناك. وذلك لكي أجرب حل المشكل للمرة الثانية، بالطرق الحسابية التي كنا نستخدمها في الابتدائية. ولم يمنعني من المحاولة في هذا الوقت، إلا أن ذلك قد يعين الذاكرة، ويساعدها في تدقيق الرقم الذي ذكرته سابقا، على أنه وزن خنشة الأرز. وأنا لا يحق لي حسب الشروط التي اشترطتها على نفسي، عند البدء في سرد هذه اليوميات، أن أعين ذاكرتي بأي عنصر خارجي، من قبل الانتهاء الكامل، من سردها.
- وفي نهاية الصف السادس، وجدت نفسي في موقف حرج جدا. فقد أصر معلم “التحفيز بالمهام الصعبة”على أن أترشح لمسابقة دخول السنة الأولى إعدادية بالفرنسية. وكان يتوقع لي مستقبلا زاهرا في الأدب الفرنسي. أما مدير المدرسة، والذي كنت أحترمه أيضا، فقد أصر على ترشحي بالعربية، بحجة أن فصلنا لابد من أن يتبرع بتلميذ للأقسام العربية. وكنت أنا بالنسبة للمدير هو التلميذ الوحيد في الصف الذي يمكنه الترشح باللغة العربية، والتي كانت في ذلك الوقت لغة ثانوية، لم ندرس بها الحساب الذي يعتبر مادة أساسية في تلك المسابقة.
- ولقد نجح المدير في فرض رأيه، وذلك بعد أن اتصل بوالدي رحمه الله، وأقنعه بضرورة ترشحي للمسابقة العربية. كما أن التنظيم الناصري الذي بدأت أدعي الانتساب له، في تلك الآونة، كان في صف المدير أيضا.
- ولقد اتخذت بعد نجاحي في المسابقة قرارا سخيفا، نتجت عنه قطيعة كاملة مع اللغة الفرنسية. وكنت أبخل على تلك اللغة، بتسجيلها في جدول الزمن، لسنوات أربع في ثانوية “لعيون”. ولم أتوقف عن القطيعة الكاملة مع اللغة الفرنسية، إلا عندما حُوِّل إلينا في القسم الخامس رياضي، أستاذ مبدع، كان يكتب على السبورة بطريقة عجيبة، وكان طريقته في الكتابة هي أول ما شدني إلى حصصه، والتي لم أتخلف عنها في ذلك العام الدراسي، ولو لمرة واحدة. ولم يكن ذلك الأستاذ المبدع، إلا الكاتب والصحفي الشهير” حبيب محفوظ”، أو “بداح” كما كنا نسميه في الثانوية، والذي تمر بنا في نهاية هذا الشهر الذكرى العاشرة لرحيله.
- تصبحون على الحلقة الخامسة من الرواية…
- محمد الأمين ولد الفاظل
- رئيس مركز ” الخطوة الأولى” للتنمية الذاتية
- هاتف 46821727
- elvadel@gmail.com
- www.elvadel.blogspot.com