المملكة المغربية : نموذج متقدم في مجال الممارسة الديمقراطية
هل يمكن أن نؤمن بالقضاء و القدر حتى بالنسبة للدول، خصوصا الدول العربية؟؟ لأننا رغم جميع التحليلات السياسية و الجيو استراتيجية التي يمكن أن نقوم بها، نخرج دائما بقناعة واحدة و هي أن هناك دول أنعم الله عليها بنظام سياسي معتدل و أخرى سقطت في يد مجنوني الحكم الذين تستهويهم السلطة و تنتابهم هستيريا عارمة عندما يطلب منهم التخلي عن بعض صلاحياتهم و إقرار إصلاحات في حكمهم. بل هناك من قرر أن يدافع عن كرسيه حتى آخر قطرة دم في عروقه و هناك من قرر الهروب و هناك من يزال يبحث عن حل لمعضلة الاستفراد بالحكم.
من بين الدول التي كان لها حظ في أن يحكمها ساسة متنورون و متفتحون على الرأي الآخر، نجد المملكة المغربية التي تحكمها العائلة العلوية الشريفة لأكثر من أربعة قرون. و هي مدة كافية للاستدلال على مدى تعايش الشعب المغربي مع نظام الحكم الملكي. أذكر أني سألت يوما أستاذا مغربيا جاء إلى الجزائر ألقى محاضرة في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين دول شمال افريقيا و الدول الأوربية، حول سر تمسك المغاربة و التفافهم حول ملكهم، فأجابني بالحرف: “هل يمكنك أن تطرح نفس السؤال حول حب البريطانيين للعائلة الملكية هناك:؟؟ إن الملكيات العتيقة التي قادت دولها إلى الاستقرار و التقدم لا يمكن أن تجني إلا الحب و الالتفاف حولها”. على مر التاريخ، فشل جميع الحكام و الساسة، رغم حدة الدهاء التي كانوا يتمتعون به و قوة القمع التي كانوا يتوفرون عليها، في البقاء في الحكم و الاستفراد بالسلطة، لأن الاستبداد في حد ذاته يحمل أسباب انهياره.
إن المتمعن في تاريخ المغرب، يجد نفسه أمام أقدم ملكية في المنطقة، استطاعت أن تحافظ على استمراريتها من خلال الانفتاح على جميع مكونات النسيج المجتمعي بالبلاد و اختيار لغة الحوار و أسلوب التشاور و منهج التناوب على السلطة. بل خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي كان الملك الراحل محمد الخامس في مقدمة المطالبين بالاستقلال ضاربا عرض الحائط جميع أساليب الترغيب و الترهيب التي استعملها معه المستعمر الفرنسي. و لقد أدى هذا الملك الثمن غاليا حينما تم نفيه هو و عائلته إلى جزيرتي كورسيكا و مدغشقر. هذا الموقف جعله يستأثر بحب شعبه و إعجاب العالم به، إلى درجة أن لقبه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ب”الملك الثائر”. الغريب في الأمر، هو أن الحركة الوطنية التي كانت تناضل من أجل نيل الاستقلال لم تكن تخطو خطوة واحدة دون الرجوع إليه و مشاورته. و هكذا كان الشعب و الملك متآزران في لحمة واحدة و متفقان على الأهداف و الرؤى.
اليوم، نرى هذا البلد الجار يسير على نفس الدرب الذي خططه لنفسه منذ بداية استقلاله و يستمر في تعزيزه بمكتسبات جديدة تستجيب لروح هذا العصر و متطلباته. و ما كان يميز و لا يزال المشهد السياسي بالمملكة المغربية إلى حدود يومنا هذا، هو الحس الاستشرافي لدى ملك البلاد. فالملك الشاب محمد السادس، عمل، منذ اعتلائه سدة الحكم، على تسريع وثيرة الاصلاحات السياسية التي كان قد دشنها والده الحسن الثاني في أواخر التسعينيات من القرن الماضي بعد تبني ما اصطلح عليها آنذاك بحكومة التناوب. و من بين الإصلاحات التي وقع عليها الملك الشاب هي تأهيل المشهد الحزبي بسن قانون جديد للأحزاب السياسية يقطع مع بعض الممارسات اللاأخلاقية مثل الترحال من حزب إلى آخر مع وجوب عقد الجمع العام كل سنة و إجراء انتخابات داخلية لتجديد النخب. أيضا، انتقد الملك عمل الأحزاب و سلبية نشاطها في البرلمان و دعاها إلى التحلي بالمسؤولية و الصرامة العملية.
لكن يبقى أبرز حدث سوف يعرفه المغرب خلال السنوات الأخيرة هو تعيين الملك لهيئة استشارية أوكل إليها مهمة إعداد تقرير حول تطبيق جهوية موسعة تمنح سلطا واسعة إلى النخب المحلية كي تسير شأنها الخاص بنفسها و بالتالي تجاوز نظام المركزية الإدارية الذي تعاني منه أغلب الدول النامية. في الواقع، كانت هذه الخطوة جريئة جدا بالنظر إلى ما كانت تستوجبه من استتباعها بخطوات إصلاحية أخرى كبيرة من حيث المضمون و الشكل. و التعديلات الدستورية الأخيرة (و هي السادسة من نوعها في تاريخ المغرب) التي صوت عليها المغاربة بالإيجاب تشكل نتيجة حتمية لمشروع الجهوية الموسعة الذي أعلن عليه الملك. و بالتالي لا يمكن أن تعتبر، مثل ما وقع عندنا في الجزائر، كردة فعل من لدن السلطة على الضغوطات التي ولدها التظاهر في الشارع. صحيح أن في المملكة حركة شبابية احتجاجية خرجت إلى النور في إطار الربيع العربي، إلا أنها تبقى حركة محدودة الأفق رغم محاولة بعض الأطراف الالتفاف عليها و إخضاعها إلى أيديولوجياتها المتطرفة، مثل الجماعة الإسلامية المحضورة “العدل و الإحسان” و اليسار الاشتراكي الرديكالي.
في الواقع، يبقى المغرب نموذجا متقدما في مجال الممارسة الديمقراطية و الانفتاح السياسي داخل الفضاء المغاربي، و أظن أن ذلك يشكل فرصة لباقي الدول بغية الاحتكاك بتجربته و استيحاء المكتسبات التي راكمها على مر تاريخه. و ما أحوجنا نحن هنا في الجزائر إلى شجاعة المغرب في إصراره على بناء دول القانون و المؤسسات، حيث من المرتقب أن تشكل الانتخابات التشريعية التي سوف تجرى يوم 25 نونبر منعطفا جديدا في تاريخ المملكة الشريفة على درب ترسيخ ديمقراطية بمقاييس عربية خالصة. و من المتوقع أيضا أن يكون المغاربة مرة أخرى في الموعد للتأكيد على حضورهم و التعبير على رأيهم و اختيار الأحزاب التي ستشكل أول حكومة في ظل الدستور الجديد، حكومة لن تقرر لونها السياسي سوى صناديق الاقتراع.
يحيى بن يخلف، باحث جامعي في التاريخ السياسي.