“الزجاجات المغلقة”.. من غارسيا ماركيز في كولومبيا.. الى لولو في نواكشوط
- “المحيط” من الربيع ولد ادوم – نواكشوط:
منذ أيام تحدثت مع “الناجي ولد لحبيب” انه صديق قديم، تحول من سمسار لشركة سونمكس، في بداية التسعينات الى تاجر قنينات غاز متخذا التجارة غطاء لغسيل اموال سياسية، وأمتلك له منزلا في حي كرفور، وأنجب فتاتين.
ان زوجته (البدوية المتحضرة) تسعى لتدليلهما لأنها انجبتهما في سباق مع الوقت قبل ان تبلغ سن اليأس، وهي التي ما كانت لتيأس بعد ان انتظرت الرجل 10 سنوات دون ان يتمكن من الزواج بها، في مجتمع يمجد المال ويعبد الله..!!
فتحت الحياة له ذراعيها عام 1992 بعد ان فهم باكرا ماهي نوعية الرجال التي يريدها الرئيس الاسبق معاوية ولد الطائع لبناء “مملكة العقل الواحد”.. كان مسؤولا -من رجال الدرجة الثانية- عن تحركات سياسية هائلة تتم في الخفاء لطمس الحقائق في الداخل والخارج، وتلميع صورة نظام قمعي فاسد..
ولانه كان ذكيا وسريع التكيف –على الطريقة الموريتانية- فقد طور أسلوبه البدوي في اللغة الفرنسية بسرعة، وسافر الى عواصم أوروبية في مهمات ليست شريفة، وعاش حياة رفاه أقل ما يقال عنها انها شكلت نقلة في حياته..
إلتقيت بولد لحبيب عام 2007 عندما كنت اجري تقريرا صحفيا عن تجار الغاز في نواكشوط، حيث شرح لي ماذا يعني ان تكون “ملك المطابخ” تزودها بعصب الحياة المدنية حيث يتمكن الناس من طبخ طعامهم وتحضير زجاجات الحليب للأطفال..
انه رجل يجعلك تستمع اليه عندما يتكلم، كان يجلد ذاته ويجلد ابناء شعبه.. ويردد عند البراد الأخير من الشاي: “لقد اخطأنا.. لاننا كنا نحب المال كثيرا..”..
لا أفوت عادة الاحتفاظ باصدقاء من نوع الناجي، لانهم يبقون جزءا نموذجيا من الحياة في موريتانيا، ارض النساء والرجال الغريبين.
“فايزة” و”النانه” مراهقتين خرج بهما الرجل من الدنيا كما يقال، وكان ابا حنونا، ابلغني عندما التقيته –منذ ايام- انهما مدللتان الى حد لا يوصف، وقال لي وهو يبتسم: “بنات آخر زمن، يتابعن المسلسلات المدبلجة وأولها “ماري تشوي”.. ولكل منهما “دبدوب” وغرفة نوم وجهاز لابتوب.. وصفحة على الفيسبوك”..
قال لي وهو يضحك: “ان بناته لم يتمكن في العام الماضي من البقاء في بوادي الشرق لأكثر من أسبوع “عضت احداهن نملة سوداء كبيرة.. ورأت الثانية “خبخابة” وظنتها عقرب.. وارتعبت احداهن من جمل حتى كاد يغمى عليها” ولم يعد هنالك مجال للبقاء بعد اكتشاف جلد ثعبان في نواحي المخيم، فقد ارتعبت الأم التي خافت من ان تنتزع منها مخالب البادية بنتيها الوحيدتين بعد ان انقطعت علاقتها بالريف منذ زمن بعيد.
انها واحدة من كوارث الثقافة غير المتزنة لسكان نواكشوط، حيث القطيعة الكاملة مع الأصل، و”الترقي السطحي”الذي راج في السبعينات والثمانينات، حيث ساد وصف غير المتمدنين بـ “المصوفجين-sauvages” وهي كلمة تعني “المتوحشين”..
كان للمفهوم معنى تأديبي واشعار بالدونية، لكن كان له معنى سيكولوجي ايضا، حيث ان سكان نواكشوط من الأطر والمسؤولين والمتمدنين شعروا ان سكان البادية والريف تكالبوا على العاصمة بعد جفاف السبعينات وفتح طريق الامل امام الهاربين من لفح الصحراء القاسية، يبحثون عن الارزاق والمهن والمسكن بقتالية غريبة، فاصبحوا يضايقونهم ويخلقون لهم المشاكل، فاطلقوا عليهم “المتوحشين”.. ومنذ ذلك الوقت لم يعد هنالك من يقبل ان يكون “متوحشا” فاصبح الكل يدعي التمدن والرقي.. حتى ضاعت الهويات.
لكن حالة “فايزة” و”النانه” هي حالة جيل بأكمله، جيل لا يعرف شيئا عن جذور آبائه يعيش اليوم في نواكشوط ونواذيبو تحديدا.. جيل الفيسبوك والدباديب، و”حفلات لم الشمل” وأعياد الميلاد، والشوكولا والكوكاكولا..
جيل له قطيعة كاملة مع المنبع، ربما لم ير في حياته سحلية أو أرنبا او جرادة حية او فراشة.. لم يسمعوا “صهيل” حمار في فضاء رحب.. ولم يستيقظوا على صياح الديكة في الصباح.. !! انه جيل من ابناء الاثرياء –وادعياء الثراء- يدرس في مدارس اجنبية ويقضي عطله في باريس ومدريد والعواصم العربية.. انهم كائنات غريبة على واقعها، تلقي التحية ببونجور وبونسوار.. وتلبس البنطلونات الضيقة..أولاد وفتيات من غير عالمنا، نحيفات وبيضاوات ولا يأكلن الطعام بشهية اعمارهن.
كان المختار ولد داداه، وهو من “أوائل المتمدنين” في هذه الأرض حريصا على ان يرتدي ملابسه الموريتانية وان يكون فخورا بها، وان يرتديها في باريس اثناء دراسة بكلية الحقوق خلال ايام العطلة فيتلك الايام القديمة التي كان الموريتانيون يحترمون فيها الاشياء..
ولا يزال سيساغو “آخر المتمدنين” في هذه الارض حريصا على ان يرتدي الدراعة في مهرجان كان السينمائي، محفل الموضة العالمية، وهو عندما يزور بلاده لا يفوت لحظات يستمع فيها الى “موريتانيا الأعمالق” ان لم تسمح الفرصة بجولة فيها.
ان جيلا جديدا يولد من الموريتانيين.. جيل لا علاقة له بواقعنا واشيائنا الجميلات.. جيل معزول في زجاجات، ويحلم ان لا يكون حقيقيا.
اتذكر هنا “مريم” وهي واحدة من بنات عمنا التي كنا -ونحن على اعتاب المراهقة- نادرا ما نراها في فصل الخريف، هي ابنة مسؤول حكومي مرموق في العاصمة نواكشوط، ولها هوايات من نوع “السباحة وركوب الخيل”.. السباحة في البيسين، وليس في برك المياه.. وركوب الخيل في المضامير الاصطناعية وليس في البراري..
كانت عندما تاتي الى مخيمات البادية في الشرق، على اطراف مدينة كيفه تبدوا لنا وكأنها كائن فضائي.. كنا حينها نقرأ قصص رجل المستحيل وقصص الخيال العلمي.
مريم لا تشرب لبن البقر كما نشربه، فهي تجلب معها علب “روز.. وميلاك” ولاتشرب مياه الغدير كما نشربها فهي تصطحب معها المياه المعدنية، مريم لا تنام كما ننام، فلها ناموسية على شكل هرم وغطاء ناعم.. ولديها مظلة تقيها من الشمس، مريم كائن يعيش بيننا لكنه معزول.. وكلنا “متوحشين” بالنسبة لها..الى ان تمر ايام، فيرتفع حجم انتقاداتها لحياتنا، فتأتيها سيارة رباعية الدفع.. وترحل..!!
انه عالم وقح عندما تكون في معزل عن جزء من الحياة في بلادك، ومن الغباء ان تتنكر لواقع هو جزء منك.. ومن المهم التأكيد على ان الحداثة لا تعني ان تعيش كـ “كائن فضائي” أمامك لابتوب وفي اذنك سماعة موسيقى، وتعيش في ارجاء عالم غير عالمك..
ان الحداثة السليمة في ايامنا هي تلك التي تجعلك تضع قدما في باريس ولاس فيغاس ومدريد وتبقي قدما في الأدغال والبادية.. انك في هذه الحالة تقف بثبات على طريق الحياة.
ان المتمدنين –عند التحية- يعانقونك ويبعثون قبلتهم في الريح، والقروييون البسطان يقبلونك في الخد ويمتصون كل احزانك من وجهك على طريقة أحلام كيجيجي..
لهذا خذ عناق المتمنين وقبلة القرويين.. تحصل على حضن دافئ وسلام دائم.. تحصل على تحية انترناسيونال..
لا زالت تعليقات روبيرتو تذهلني.. روبيرتو باولو ايطالي حضر الى موريتانيا، منذ أيام، قال ان مياه نواكشوط غير صالحة للشرب لمن تعود ان يشرب مياه أروبا، بمعنى آخر هو يؤكد ان امتلاكنا لمناعة ضد كل الاشياء السيئة في هذا الماء مع مرور الوقت جعلته غير مضر بالنسبة لنا، وان كأس ماء من مياه الحنفية في نواكشوط كفيل بان يجعله طريح الفراش، وظل يحمل علبة مياه معدنية حتى ودعته في المطار..
لا يشرب المياه ولا الخضار الذي غسل بالمياه.. لانه قطعا مضر بصحته.. نحن لا نحصل على أزمة مشابهة عندما نزور اروبا، حيث يتسنى لنا ان نشرب ماء نواكشوط.. وماء باريس بنفس الشجاعة الجسدية..
لو تعود احدنا ان يشرب الماء المعدني لأنعزل عن واقعه وبات غريبا مثل روبيرتو.. لا أحد يعيش على علبة وينسى واقعه..
ان هذا العالم الذي يسأل فيه الاطفال –مثل “فايزة” و”النانه”- آباءهم عن ما اذا كانت الابقار تضع بيضا، وما اذا كانت المعكرونة تنموا على الاشجاء، هو عالم لا يحبذه غابرييل غارسيا ماركيز، الذي تحدث في احدى مقالاته عن “الريف.. ذلك المكان الرهيب حيث الدجاجات تمشي نيئة” وتحدث عن أطفال اوروبا الذين يعيشون في عالم مغلق، هو اقرب الى زجاجة لا تعطي حقيقة ما خلفها.
اتذكر حين كنا مراهقين في مدينة كيفة التي عمرها اليوم أكثر من 100 عام، كنا نمر كل صباح على ملاك البساتين في “لمسيله” في طريقنا الى اعدادية وثانوية العراق، نحمل قطعا نقدية نشتري بها الطماطم من المزارعين الصغار.. كانوا يمنحون لنا ابتساماتهم ويقابلوننا بوجوههم الطيبة، وأياديهم التي تتمنى ان تبسطها وتنام فيها كأنك ملاك صغير..
كنا نحب الحياة وحولنا شخصيات تتحول مع الوقت الى اجزاء من حياتنا.. وعائلات صغيرة هي عائلاتنا الثانية عندما نغادر اهلنا..
فصل الدراسة الساخن والمليئ بروتين التعليم كنا نقطعه بالارتماء قليلا في أحضان الطبيعة، كانت الطبيعة جزءا من حياتنا، نسير على اقدامنا 3 كيلومترات في الصباح، من “التميشه” حيث الحجارة الصفراء الذهبية في الشتاء، وصولا ال “صغطار” حيث الرمال الذهبية في الصيف.. على طريقة نزار كانت “الشمس تشرق دائما من ظهر مايا”..
كانت الايام من ذهب.. نمر بالمدينة العامرة بالحياة والسيارات والعربات.. عربات الحمير.. حيث تتجاور احدث الموديلات مع وسائل النقل العتيقة.. وعرق العمال..
كانت الحياة المدنية تتجاور مع الطبيعة.. ننحدر من الطريق الذي تطل عليه محلات ومؤسسات من نوع “ماريمار” و”ويستر نيون” و”bmci” لنرتمي في حضن الطبيعة مباشرة ودون صدمة، حيث النخيل والبساتين، وحيث أسر القرويين الذين يستيقظون وينحدرون الى المساحات الخضراء قبل غسل وجوههم، قبل ان نمر أمام مستشفى الصين لنرتقي سلالم الى مقاعد الدرس..
وقبل ذلك في المدرسة الابتدائية كنا نتحدث بجرأة أمام الكاميرا ونتعامل مع احدث المكرفونات في الايام التربوية دون خجل او عقدة.. وعندما تغلق المدارس على وقع الاحتفالات نعود الى تلك الفضاءات الطلقة الرحبة، حيث يمتد نظرك وانت تشاهد ارضا خضراء بلا نهاية.
كانت حياتنا بين عالمين، نعرف كيف نسير بهدوء وانتظام، وكيف نأكل بالملعقة، وكيف نتخاطب مع الاساتذة والمدراء، وكنا ايضا نعرف كيف نتصرف في البادية وكيف نركب الحمير والخيل ونسبح بمهارة.. كان هنالك فصل الكيطنة وفصل الخريف، نأكل البلح في الواحات حتى يتورم ملتقى الفكين، وفي الخريف نؤدب “الحمير الخضراء” ونسبح في المياه الزرقاء على الحجارة.
بحسب غارسيا “تجبر المدارس الفرنسية تلاميذها على اتباع دورة خاصة الغرض منها حمل الأطفال على العيش في الريف مدة شهر، في الهواء الطلق وبعيون مفتوحة، بحيث يتعرفون على النصف الاخر من العالم الذي لا يتيح لهم النصف الاخر رؤيته” مضيفا “يخيل الي انه سيخطر لهم ما خطر لنا نحن الاطفال الريفيون عندما اخذونا للمدينة لاول مرة”.
ماركيز ككل المبدعين يحترم الحقيقة، رغم انه قبل وضع الحجر الاساس لمدينة نواكشوط، باربع سنوات “معقل المتمدنين الجدد” كان يعمل في صحيفة إلإسبكتادور الكولومبية اليومية (El Espectador)وكتب فيها قصصة الرائعة عن “بحار السفينة المحطمة” وانتقل بعدها من بلاده كولومبيا وعاش متنقلا بين روما وباريس وبرشلونة وكراكاس ونيويورك ونال جائزة نوبل للأدب عام 1982 م وذلك تقديرا لقصصه القصيرة وروياته.
“لولو” هي صديقتي الصغيرة وابنة الجيران، هي من سكان نواكشوط، عمرها 12 عاما وتدرس في 5 ابتدائي وهي ذكية ومحاورة جيدة..
عندما تكلمت معها عن بادية “دار ولد الطالب” كانت قد ذهبت اليها مرة واحدة في حياتها، ولمدة ثلاثة ايام فقط، كانت تأكل الاطاجين، وتذهب الى الجبل، ويأكلون الخبز الناضج يوميا ولديهم هاتف ومع ذلك تقول ان هذه بادية.. انها اقصى ما تشكل لديها من صور.. الباقي قضته في بادية اخرى اسمها “مدينة كيفه”.. ربما لم يعلمها احد ان عمر مدينة كيفه هو ضعف عمر العاصمة نواكشوط.. (نواكشوط تأسست عام 1959.. ومدينة كيفه عمرها اليوم اكثر من 100 عام..!!).
ان الاجيال الجديدة تعرف ان للوطن ثروات مثل الحديد والذهب والسمك والنفط.. لكنهم لا يعرفون ثروته الحقيقية وهي عمقه وصحاريه الجميلة وبواديه الرائعة.. انهم يعرفون ما انتجته ثقافة رجل مثل صديقي الناجي والد المراهقتين.. يعرفون الثروات التي تدر المال.. لكنهم لا يعرفون الثروات التي تفتح عيوننا على معاني أروع للدنيا..
احتراما للحقيقة.. واحتراما لماركيز.. واحتراما لجبران خليل جبران.. وعشرات الادباء الرومانسيين.. عودوا بأبناءكم الى الريف حتى لا تجعلوهم يعيشون في زجاجات مغلقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة للمحيط: الربيع ولد ادوم- صورة من وسط نواكشوط – يناير 2012