معا… لإنقاذ سفينة الوطن
معا… لإنقاذ سفينة الوطن
على الرغم من مضي أكثر من عقدين على إرهاصات الانتقال من ليل الأحكام الاستثنائية إلى فجر التعددية الحزبية في موريتانيا… فإننا لم نشهد حتى الآن تحولا ديمقراطيا حقيقيا، حيث أفضت كل محاولات الانتقال إلى مجرد هامش من الحريات يتسع أحيانا ويضيق أحيانا أخرى طبقا لإرادة السلطة الحاكمة. وبالتالي، فإن نظام الحكم عندنا لايستند حتى اليوم إلى مقومات تجسّد بحق معنى “الديمقراطية”. كما لايستند إلى تعددية سياسية فعلية تشكل ركيزة لتحويل مبدإ التداول السلمي للسلطة إلى واقع ملموس، وذلك لأسباب مركّبة بنيوية ومجتمعية وسياسية عديدة من بينها فشل النخبة وعجزها عن صياغة مشروع وطني جامع مُلْهمٍ للنهضة والتحرر والتقدم بحيث يحشد كل الطاقات والإمكانيات المتاحة لبناء نظام ديمقراطي حقيقي.
وهكذا، يمكن تصنيف النظام السياسي الموريتاني اليوم ضمن النظم المعروفة بـ”الديمقراطية الشكلية” أو “النظم الرمادية” التي تقع بين الدكتاتورية والديمقراطية، فلاهي أنظمة ديكتاتورية محضة ولا هي أنظمة ديمقراطية حقة. والأمثلة كثيرة على هذا النموذج من الأحكام الذي تنجح فيه النخب الحاكمة في تفريغ عملية التحول الديمقراطي من محتواها المطلوب، وتقوم برسم المسار على نحو يعزّز من قدرتها على الاستمرار في السلطة. ومن السمات الرئيسية لهذا النوع من الأنظمة التفرد بالحكم وغياب مبدإ التوازن بين السلطات وتراجع هيبة الدولة وتآكل سيادة القانون والتزاوج غير الشرعي بين السلطة والثروة، وضعف المساءلة والمحاسبة…
وفي ظل هذا الاختلال البنيوي القديم – الجديد والمسار المتعثر.. من مرحلة انتقالية إلى أخرى ومن انقلابات عسكرية الي انتخابات عنوانها “الديمقراطية” وشعارها “الإصلاح”… في ظل هذا وذاك تبدو اليوم حقيقة ماثلة للعيان مفادها أن البلد يطفو بصعوبة على بحر من الأزمات ويمر بمرحلة دقيقة،،، وهي أزمات تثير أسئلة كثيرة حول حاضر ومستقبل المجتمع والدولة من قبيل: “إلى أين تتجه موريتانيا؟” و “ماذا بعد؟” و “ماذا يجب القيام به؟” و “ما العمل؟”… إلى غير ذلك من الأسئلة المصيرية التي أصبحت مطروحة على نطاق واسع تعبيرا عن قلق شديد وشك وحيرة وارتباك ينتاب الموريتانيين من جراء ضبابية الأفق والانسداد السياسي وتعطيل المؤسسات وغلاء المعيشة والجفاف والتوترالاجتماعي المتصاعد وارتفاع حدة التراشق بين الفرقاء السياسيين وتصاعد موجة الاحتجاجات وكثرة التوترات والمشاحنات وتفشي ظاهرة التشظي والانقسام والرجوع إلى الولاءات الدونية الضيقة بشكل مخيف. هذا بالإضافة إلى الأوضاع الإقليمية المضطربة على نحو غير مسبوق وما تحمله من تحديات أمنية ومخاطر خصوصا على حدودنا الشرقية المتاخمة لشمال مالي الذي بات حصنا حصينا وقاعدة انطلاق لجماعات الإرهاب والجريمة المنظمة بكل أشكالها.
وباختصار، فإن الأزمة الراهنة إنما تعكس فجوات كبرى بلغت حد التأثير السلبي على الوحدة الوطنية والاستقرار. وهي فجوات هيكليّة تطال مختلف المجالات وتظهر بين المجتمع والدولة و بين الأطر الدستورية والقانونية والممارسات العملية،من جهة و بين التحولات الاقتصادية والاجتماعية وحالة الجمود والتخلف في العقليات والعادات، من جهة اخري ، كما تتجلي هذه الفجوات بوضوح بين الخطاب السياسي الرسمي والمؤسسات الحكومية والعمل الإداري، وبين الموالاة وقوى المعارضة، و بين قوى وأحزاب المعارضة، ناهيك عن الفجوة العامة بين طموحات الجميع والواقع على الأرض، والفجوات الكثيرة داخل المجتمع نفسه وبين الشرائح والفئات والأعراق.
ينضاف إلى هذا المشهد الداخلي المأزوم ما يدور حولنا، بل في محيطنا القريب وخاصة في شمال مالي من هزات عنيفة ومتغيرات مجهولة العواقب والمآلات والتي تبقى دائما مصدر قلق واضطراب في النفوس رغم ما تحقق من تقدم ملحوظ في مراقبة وحماية الحدود. و لا أحد يجادل في أن الأوضاع الإقليمية الراهنة تحمل ما يكفي للدفع بالموريتانيين إلى رص الصفوف وتوطيد الجبهة الداخلية والعمل الدؤوب على تطوير القدرات الدفاعية والأمنية للبلد على جميع المستويات: المهنية والعقائدية والتنظيمية وعلى مستوى الجهوزية.
وفي وضع محلي وإقليمي كهذا، تنهض حاجة البلد إلى كل أبنائه لمجابهة التحديات والمخاطر لنزع فتيل الأزمة وردّ الاعتبار للمصلحة العليا للشعب والوطن. ولقد شكل هذا المعطي الدافع الفعلي وراء اجتماع شخصيات وطنية مستقلة وإعلانها عن تأسيس “النداء من أجل الوطن” كمبادرة مدنية جامعة ومفتوحة للوطنيين المخلصين من كل الأجيال والشرائح والفئات. وذلك بهدف الاتصال بمختلف الفرقاء لتقريب وجهات النظر وتهدئة الوضع العام وتجاوز الانسداد القائم ورسم خارطة طريق متفق عليها تعيد للمشهد صفوه وسلامته.
وعلى الفور، باشر “النداء” اتصالاته بمعظم الفاعلين في الساحة السياسية من كل الأطراف. وكان لوفده كامل الشرف بلقاء عدد كبير من قادة المنسقيّات والأحزاب، وإليهم نتقدم هنا بخالص الشكر والتقدير والامتنان. وسيتواصل المسار إن شاء الله بمقابلة مختلف الفاعلين . وفي هذا الصدد، ، نستطيع التأكيد بأن اللقاءات والمناقشات التي أُجريت حتى الآن، سواء مع المعارضة أو الموالاة كانت كلها صريحة وجدية وبناءة.
وبالنظر إلى ما تم تداوله من تحاليل وملاحظات وتوصيات، واستنادا إلى ما يمكن استنباطه من آراء لهذا الطرف أو ذاك، فإن “النداء من أجل الوطن” يتوصّل إلى الاستنتاجات الأولية في هذه المرحلة من النقاش ويتقدم ببعض المقترحات العملية :
أولا: المهمة صعبة ولكنها ليست مستحلية إن خلصت النيّات وتوحدت الآراء على هدف واحد هو الوطن. وذلك واجب الجميع –موالاة ومعارضة –، لأنهم يتقاسمون مصلحة التعايش بسلام على مركب هذا الوطن الطافي بصعوبة على محيط مضطرب من المشاكل. والحكمة والعقل يقتضيان العمل معا للحفاظ على سلامته وعدم المس بتوازنه أو باستقراره. وإن أي قرار أو تصرف انفرادي أو أحادي لن يضر في وضعية العيش المشترك والاعتماد المتبادل بمصالح الخصم فحسب، ولكن بمصالح الجميع. لذا فإن البلد ينتظر من كل الأطراف إحياء روح التفكير والخلق والإبداع والانفتاح لمجابهة تحدي الانقسام، والتوافق على كيفية الخروج من الانسداد الحالي.
ثانيا: الفشل أو الغرق ليس قدرا محتوما، بل غالبا ما تكون ثمة فرصة أخيرة تستحق المحاولة والمجازفة حين تضطرب السفينة وتبدأ الجنوح، ساعتها يكون الوقت للحكمة والعقل والتصرف الجاد والعمل برؤية جديدة وبشجاعة وتقدير للمصالح وترتيب للأولويات مختلف تماما عن الرؤية والسلوك في الأحوال العادية. فأيام الأزمات الكبرى هي أيام القرارات الكبرى! حين لايكفي التمسك بالمِقْوَدِ ولا صحة الموقف ولا التحالفات والخصومات السابقة، حيث يكون الخلاص في تجاوز القديم وتخطيه إلى ما هو أعلى وأهم، لأن جنوح السفينة لايسمح بالإرجاء والتأجيل والنظر إلى الخلف، بل يُلزِم الرُّكاب بالنظر إلى الأمام وبذْل ما في وسعهم كي لا تبتلع الأمواج سفينة الوطن.
لذا نؤكد أن الوضع الراهن يدعو بإلحاح إلى التفكير والتشاور وتبادل الآراء والمناقشة بشتى الطرق والسبل الممكنة والمتاحة لبلورة حلّ مقبول يخرج البلاد من المأزق الحالي بتشكيل حكومة توافقية و تنظيم انتخابات حرة ونزيهة بمشاركة الجميع و في أقرب وقت ممكن اعتمادا على نتائج حوار سبتمبر-أكتوبر 2011 كخطوة أولى لاغنى عنها لتخفيف الانسداد. ويمكن إثراء تلك النتائج وتحسينها عند الاقتضاء بما يلزم من نصوص تنظيمية ومقررات إجرائية.
وفي السياق ذاته وتعزيزا لمسار الإصلاحات وفق رؤية تشاورية تتم إحالة النظر والبحث في موضوع الإصلاحات الهيكلية والجوهرية في نظام الحكم والتي يعتبر استحداثها مهما لتوازن السلطات، وفصلها عن بعضها البعض، واستقلالية القضاء، والحدّ من الصلاحيات الضخمة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية، وتوفير سلطات أوسع للبرلمان، تتم احالة تلك القضايا الهيكلية إلى ما بعد الانتخابات لتكون ضمن اولويات البرلمان القادم إن شاء الله.
ثالثا: وفي هذا المعنى، ندعو رئيس الجمهورية إلي أن يبادر بتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة تشاركية أو حكومة خبراء “تكنقراط” تحظى بقبول وثقة الجميع… وتتمتع بصلاحيات واسعة. والمهم في الأمر أن تكون حكومة توافقية تنال رضا كل الفرقاء وتعطي ما يكفي من تطمينات وضمانات لنزاهة وشفافية العملية الانتخابية،،، إن تشكيل مثل هذه الحكومة وإشرافها على الفترة القادمة إجراء وارد ومطلوب. ويبدأ هذا الجهد طبعا باختيار وزير أول مقبول لدى الجميع وقادر على تنسيق الاتصالات والمشاورات والمداولات اللازمة على أن تتلخص المهام الرئيسية لهذه الحكومة في العمل على توطيد اللحمة الوطنية ومحاربة غلاء المعيشة وتحضير الانتخابات تحضيرا محكما بالتنسيق مع اللجنة المستقلة للانتخابات، وتعزيز الانفتاح والتهدئة على كل الأصعدة وخاصة على الصعيدين السياسي والأمني باحترام حق المواطنين في التعبير والتظاهر والإضراب والاحتجاج بالطرق السلمية والقانونية، وعلى الصعيد الإعلامي بفتح وسائل الإعلام العمومية بإنصاف أمام مختلف القوى الوطنية .
رابعا: انتقاء لجنة مستقلة للانتخابات يقبل بها الجميع طبقا لمعايير المصداقية والنزاهة والخبرة والاستقلالية على غرار ما حصل من توافق في المناسبات السابقة، عبر التشاور على أن تكون اللجنة كاملة الصلاحيات ولها أن تستعين بما تشاء من مستشارين ومراقبين وخبراء وطنيين وأجانب، أو منظمات وجمعيات،، إلخ. كي تضمن رقابة فعلية وصارمة على كل مرافق العملية الانتخابية.
وفي الختام، فإن “النداء من أجل الوطن” وقد علمته التجارب أن الأزمات لا تُدار بطريقة الانفعال والعاطفة واللاعقلانية التي تقود دوما إلى مزيد من الخسائر، مستمر في جهده وسعيه لتقريب وجهات النظر وحلحلة الأوضاع
و في هذا السياق يدعو النداء من أجل الوطن الجميع وخاصة السيد رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز إلى الاستماع لصوت الأغلبية الصامتة من الشعب التي لا تمجد ولا تهدد والداعية إلي تغليب العقل والحوار ،. والدعوة موصولة إلى قادة وزعماء المعارضة بكل أطيافها للتعامل بإيجابية مع هذا التصور في عنوانه العريض، واعتماده كحل وسط بديل عن القطيعة والمجابهة والاصطدام.
والله ولي التوفيق