نحن و أزواد

أثارت مقالات محمد يحظيه ولد ابريد الليل حول “موريتانيا و أزواد” … ما كان طبيعيا أن تثيره ، فقد تناول فيها بكل وضوح تاريخ البلد بكامله و على وجه خاص حقبه الحساسة بما أنها الأقرب زمنيا، وتعرض لبعض المحظورات المثيرة للجدل، فاتحا مجالا واسعا للجدل والنقاش وربما التأمل. وهو بذلك يلعب دور المثقف السياسي ؛ ومهما يكن موقف القارئ من مضمون المقال فلا شك أنه سيستمتع بأناقة اللغة و رفعة المستوى الأدبي، إذا كان ممن يعرفون جماليات لغة “ابوالو”. ولا نري تناقضا بين ذلك و بين شغف الكاتب بلغته ـ لغة الضاد ـ ودفاعه المستميت عنها ضد اجتياح “لغة كبولاني”، فتعلم اللغات واستخدامها كأدوات لاكتشاف الثقافات والعلوم لا ينبغي أن يخضع للمواقف تجاه السياسات المتغيرة للحكومات والدول. ومن المعلوم أيضا أن الوطنيين المقاومين ضد الاجتياح الأجنبي كانوا يستخدمون عبر العصور إتقان لغة العدو كأحد الأسلحة الأكثر فعالية ضد طغيانه.

بالنسبة لي أود إبداء بعض الملاحظات حول بعض النقاط ‘ أولها بخصوص الشأن الأزوادي . قد يتساءل القارئ “ما له ولأزواد؟ ” فقليل جدا من الموريتانيين من يعلم أن أحد مواطنيهم قام قبل عشرين سنة بوساطة في جمهورية مالي كللت بقسط من النجاح حيث أفضت إلى “الميثاق الوطني” و “اتفاقيات باماكو” المبرمة بتاريخ 11 ابريل 1992 بين الحكومة المالية و “منسقية حركات و جبهات أزواد الموحدة”.

كنت آنذاك موظفا دوليا ‘ كمدير مكلف بالدول الأقل نموا باليونسكو باريس؛ وقد طلبت مني الحكومة المالية أن ” أسهل الاتصال ” بينها و بين الثوار الطوارق الناشطين في شمال البلد. اعتبرت أن تلك المهمة واجبا مقدسا، كما كنت أفعل دائما كلما أتيحت لي فرصة الإسهام قدر المستطاع في تسوية النزاعات في إفريقيا. ساندت خلال العقود الماضية حركات النضال التحررية في قارتنا و خارجها (فييتنام، فلسطين…) مع السعي طبعا في دعم الحلول السلمية كلما سنحت فرصة بذلك. و من غريب الصدف و… حسن الحظ ، أن اتصالا من “الطرف الآخر” بلغني في نفس الوقت تقريبا دون أن يعلم أحدهما بما يفعل خصمه، طبعا ؛ فبينما كنت أستقبل مبعوث باماكو، اتصل بي مثقف طوارقي قريب من ثوار الشمال ليبلغني رسالة منهم تطالبني بمساندة نضالهم “مثلما ساندت جميع القضايا العادلة التي كرست وقتي لها خلال عقود.” كان الجواب بكل بساطة أن الفرصة سانحة بل مثالية لخدمة قضيتهم عبر القيام بمهمة سلام.

من أجل القيام بتلك الوساطة على أكمل وجه، كان من البديهي ضرورة الاعتماد على دعم أو على الأقل الحياد الايجابي لبعض الجيران و الشركاء الهامين ؛ خاصة الجزائر و فرنسا. بعد الـتأكد من دعم الجزائر ( التي استمرت في لعب دور ريادي في الوساطة بين الثوار الطوارق و باماكو ‘ وساطة موازية ورسمية أحيانا) ‘ استطعت بعد الحصول علي موافقة الحكومة المالية إشراك شخصية فرنسية من العيار الثقيل. عر ضت الأمر على إدغار بيزاني الذي قبل بتحمس، وهو شخصية جديرة بالاحترام و الوزير السابق للجنرال دي غول و الذي أصبح مستشارا لفرانسوا متران ، و قد أعطي الرئيس متران موافقته مصحوبة بتعليماته لوزارة الخارجية الفرنسية لتزويدنا بالمساعدة اللازمة، والتي ظلت مع ذلك محدودة و متواضعة وفقا لطلبنا.

قمت بإعلام سلطات بلدي طبعا و طلبنا مساندتها نظرا لأن موريتانيا إحدى أهم جيران مالي و قد بدأت فعلا تستقبل العديد من اللاجئين الذين بدأنا تمهيد مهمتنا بزيارة بعض مخيماتهم في نواحي باسكنو.

لقد تم استقبالنا ‘ أنا و زميلي ادغار بيزاني من طرف الرئيس المالي آمادو توماني توري في قصره الرئاسي “كولوبا” ليفاجئنا بطلب بسيط و… غريب : “ابحثوا لي عن محاور” . كان مستعدا للحوار و التفاوض مع مواطنيه الثائرين و لتلبية مطالبهم إلى أقصى حد ممكن. لكن مع من يتفاوض ؟ ربما بدا الأمر غريبا لمن لم يتتبع الأحداث منذ سنة ؛ لنتذكر :

قبل سنة تقريبا، اندلع تمرد مسلح في شمال البلاد ادهش الكل بفجائيته و نجاعته و سرعة انتشاره في مختلف مناطق أزواد. استجابت الجارة الجزائر بصفة سريعة لنداء باماكو و نظمت لقاء، تم بموجبه توقيع “اتفاقية تمانراست” في يناير 1991. لكن نظام موسى تراوري سقط بعد ذلك بقليل دون أن يبدأ بجدية تطبيق التزاماته … نظرا لانعدام الوسائل؟ لفقدان الإرادة ؟ لضيق الوقت؟ أو لكل تلك الأسباب وغيرها؟ ومن جهة أخرى فقدت “الحركة من أجل أزواد” بقيادة إياد آك غاليالموقع الرئيسي لاتفاقية تمانراست، فقدت وحدتها و انقسمت إلى عدة جبهات، محدثة بذلك انطباعا بسيادة الفوضى، حيث كانت تقوم مجموعات مجهولة الهوية بأعمال لا تخضع لأي منطق واضح حسب الأطراف الأخرى.

ما العمل إذا؟

دون الدخول في التفاصيل سوف نشير فقط إلى بعض ملامح هذه المهمة الخاصة جدا التي قبلنا تأديتها. أولا أنها استمرت أكثر من مدتها المنتظرة لسبب رئيسي هو أنها بدلا من ان تقوم بتسهيل التواصل بين أطراف موجودة وواضحة الهوية ، كان عليها أن تبدأ بـ”إيجاد” أحد الأطراف. و لهذا الغرض، كانت هناك، إن صح التعبير ، وساطتان : الأولى بين مجموعات الطوارق المختلفة الآخذة في التنظيم في شكل جبهات جديدة و بينهم وبين بني عمومتهم من البيظان، إلخ … وبعد ذلك لا قبله تصبح الوساطة التي جئنا من أجلها ممكنة. أدى هذا “العمل الميداني” الذي استمر لمدة شهور إلى تأسيس “منسقية حركات و جبهات أزواد الموحدة”. عندئذ كان تحدي أمادو توماني توري ـ الذي يتلخص في عبارة : “ابحثوا لي عن محاور” و الذي لا مجال للشك في صعوبته ـ قد تم اجتيازه.

أما المفاوضات في حد ذاتها ، فقد اشتغلنا في تحضيرها منذ البداية من خلال إعداد مشروع “الميثاق الوطني” الذي يحدد طريقة للتفاوض وعددا من المبادئ التي بإمكانها أن تشكل أساسا لإرادة مشتركة من أجل “العيش معا” في إطار من الاحترام المتبادل والعدل والتضامن. و قد تمت المصادقة على هذا الميثاق الوطني بإجماع الأطراف المتنازعة وإعطاؤه حكم القانون. مما مكن الميثاق الوطني من تغيير معتبر في وضعية أهالي أزواد المحرومين في الماضي من جميع وظائف الدولة، ليسمح لهم بولوج مختلف قطاعات الإدارة وحتى الجيش و مصالح الأمن . لم يكن ذلك بالعدد الكافي بكل تأكيد، لكنه شكل ثورة حقيقية بالمقارنة مع الماضي.

ستحدث بعد ذلك انشقاقات و عصيان مسلح، لكن اتفاقيات 1992 لم يقرر التخلي عنها، إنما تمت مراجعتها و تكملتها و تحديثها. في الواقع فإن المشكل الأكثر حدة و المتكرر والمتجدد علي الدوام هو أن هذه الاتفاقيات و الأخرى التي تكملها لم يكن بالإمكان تطبيقها بصفة دقيقة و كاملة : بدون شك نظرا لضعف الوسائل ( وسائل الدولة المالية كانت متواضعة و الكل يعرف ذلك و من الصعب تعبئة إمكانيات المجموعة الدولية في الوقت المناسب) …. و أيضا بسبب التراخي في الإرادة السياسية.

عرفت اللامركزية كاستجابة للوعد المدرج في الميثاق الوطني بشأن منح “وضعية قانونية خاصة ” لشمال مالي / أزواد، تنفيذا ناقصا جدا. كما عرفت برامج دمج وإعادة دمج المحاربين السابقين بدورها تباطؤا ملحوظا، وبالرغم من وضع هيئة خاصة لذلك (وكالة تنمية شمال مالي) و الإعلان عن تمويلات معتبرة ظلت تنمية المناطق الشمالية دون التوقعات. بينما خصصت أكبر مكونة من الميثاق بالتحديد لتنمية المناطق الشمالية حيث وعد الشركاء الأجانب بتمويلها أكثر من مرة ، والذين يلقون بالمسؤولية في الفشل على عاتق “السلطات المعنية” المتهمة ليس ضرورة بسوء الإرادة بل بعدم القدرة على تسيير المساعدات الخارجية والفساد، والعجز، إلخ… كما هو الحال في الكثير من إدارات عالمنا العربي ـ الإفريقي.

كان يتوخى من الميثاق الوطني إضفاء تغيير هام علي الوضعية الحقيقية للساكنة التي لم تزل تعيش على هامش المواطنة وفتح آفاق جديدة لتحسين أوضاعها المعيشية بشكل ملحوظ. و قد شكل الإحباط الناتج عن عدم تطبيق تلك الالتزامات مهدا ملائما للتمرد المتكرر بعد ذلك، بما فيها تمرد 2012

تتعلق المسألة المحورية، و التي ربما لم يتناولها الميثاق بصفة كافية، بعلاقات الساكنة المعنية مع السلطة المركزية وإشراكها في تسيير شؤونها الخاصة. و لم تغب هذه الإشكالية عن أذهاننا حيث أدرجتها الوساطة المستقلة في “أجندتها” وناقشتها عدة مرات بصفة تمهيدية مع الأطراف. كنا بذلك نهيؤ الأمور للوصول إلى الحل الوحيد الذي يحتمل أن يتم عليه الإجماع : حكم ذاتي حقيقي لأزواد يحترم مواثيق منظمة الوحدة الإفريقية المتعلقة باحترام السيادة الوطنية داخل الحدود الموروثة عن الاستعمار، و في نفس الوقت تخفيف وضع راهن تحسبه الشعوب المتمردة (ليس فقط في مالي) وضعا لا يطاق.

كان ذلك الحل – لو أريد فعلا التوصل إليه- يتطلب القيام بـ”وساطات” أخرى ـ أو اثنتين علي الأقل : الأولي : أخذ تنوع ساكنة الشمال في الحسبان. فليس سكان أزواد كلهم طوارق أو عرب بظان بل توجد فيه أثنيات أخري أهمها السونغاي، ورثة الإمبراطورية التي تحمل نفس الاسم و التي عرفت حقبة من الازدهار، ومنها الفلان وهم أقل عددا، لكنهم لا يقلون اعتزازا بأمجاد أجدادهم. تجدر الإشارة في هذا الصدد إلي أن “تمرد الطوارق” أ ثار في تلك الآونة 1992ـ 1991 تخوفا إن لم نقل ردات فعل عدوانية لدى بعض هذه الساكنة وصلت إلى تأسيس مليشيات من بينها “كانداكوي”، المتهمة خلال حقبة زمنية بإعداد نوع من “التصفية العرقية” ضد “الرحالة” الذين بدورهم يتهمون الجيش المالي بأنه وراء ذلك الميول .

كانت “الوساطة المستقلة” على وعي بالخطر الحقيقي من أن الساحل معرض لحمى إبادة كاد يسبق فيها الإمبراطورية البلجيكية القديمة في البحيرات الكبرى كما حدث بعد ذلك في رواندا بالخصوص. كانت مالي يخشى عليها أن تصبح مركزا “لحريق” مرعب يمتد عبر النيجر المتأثرة إلى حد كبير و اتشاد المتقبلة دوما لجميع أشكال “الاحتجاج” و موريتانيا الجد قريبة و التي تتقاسم أشياء كثيرة مع جارتها في الشرق. قمنا بجولة في مناطق الشمال حيث نظمنا اجتماعات في تومبكتو و كاو و كيدال مع ممثلين عن مختلف قطاعات الساكنة و أثارت تلك الاجتماعات اهتماما كبيرا. كان من بين النتائج الايجابية لتلك الوساطة المستقلة تسهيل التهدئة التي طمأنت الساكنة و قطعت الطريق أمام ذوي النوايا السيئة. للأسف كان ذلك الوضع مؤقتا، فقد تلته فترة جد صعبة لكنها لم تمنع متابعة تطور لا يستهان به في اتجاه دمج “البدو الرحل” في أجهزة الدولة. هل كان من قبيل الصدفة أن أول من صاحبنا ـ كمرافق رسمي ـ في تلك المناطق المتوترة كان يسمي مايكا مثل الكثير من السونغاي ‘ لكن … أي مايكا ؟ هو سومايلو بوبي مايكا الذي كان وقتها مستشارا للرئيس توماني توري و بعيد ذلك مديرا لأمن الدولة و وزيرا للدفاع في نظام الرئيس كوناري و وزيرا للخارجية للرئيس توماني توري..

ثانيا كان من اللازم منح اعتبار خاص لمواقف الدول المجاورة المعنية على مختلف الأصعدة ( أمنيا و سياسيا، إلخ.) بتطور الأمور في جوارها المباشر و لكون ساكنتها لها روابط متينة مع أهل أزواد. كان من اللازم على وجه خاص القيام بتشاور أعمق مع الجارة الشمالية الكبيرة، الجزائر، الشيء الذي لم يحصل في الوقت المناسب.

و أخيرا أصبحت الوساطة الموازية و “الرسمية” في نفس الوقت رسمية فعلا وهي سيدة الموقف. أثناء حفل توقيع الإتفاقية، تلقي “الوسطاء المستقلون” الشكر و وشحوا بكل تأكيد … لكن علي المستوي الذي يليق بمقامهم ، حسب موازين القوى الحقيقية طبقا للتحديد الذي طبق على البابا قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية؛ تعامل يذكر بحكمة أبي تمام :

السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد و اللعب رأي “صححه” شاعر آخر (دون شك هو أشعرهم) : أبو الطيب المتنبي الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول و هي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان الشيء الذي يغذي إلى ما لا نهاية الصراع الأبدي و اللا مجدي بين سيوف و أقلام كل ” لعرب ” و كل “الزوايا ” في جميع البلدان و عبر كل العصور. بكل تأكيد كانت لدى “وسطائنا الموازين ” جميع مؤهلات النجاح التي يمتلكها الصنفان سالفي الذكر بل كان عدد زواياهم لا يقل عن عدد محاربيهم ، وقد يكون التصنيفان متواجدين في نفس الأشخاص (معجزة العصرنة في عهد العولمة).

لا أريد في النهاية استنتاج خلاصة دقيقة، ولا توجيه نصائح ليس هذا محلها بعد التطرق لهذا الماضي الذي هو في نفس الوقت قريب ومتجاوز ـ إلا أنه ربما يساهم في إثراء تفكير كل من عليهم تسيير الحاضر. أود فقط إضافة بعض الملاحظات.

فيما يتعلق بنوعية عملنا كوسطاء : كرسنا جهودنا في مساعدة الأطراف ـ حيث لم يكن بكل تأكيد لدى بعضهم آنذاك الأدوات المنهجية الضرورية لتوضيح مواقفهم وحججهم من أجل تفادي أي لبس، و بذل المجهود لتفهم موقف الآخر، وهو عمل ينبغي القيام به قبل الشروع في أي مفاوضة.

فيما يتعلق بهوية مختلف شعوبنا المتجاورة في هذه الصحراء المترامية الأطراف و الروابط التي تجمعهم و المناطق التي يتنقلون بينها، أأكد فقط أني لم أشعر بالاغتراب و أنا أجوب صحاري أزواد الشاسعة كما لم ألاحظ فوارق كبيرة بين من لقيت من سكان تلك المناطق وبين الأهالي الذين عشت وسطهم في طفولتي، في ترحال دائم بين تيرس وآكان (مرورا بإينشيري و آدرار). تمنيت فقط لو كانت رحلتي الطويلة في أزواد على ظهور العيس ممتطيا ” أمينك ” من النوع الذي كنا نحسد عليه جيراننا الطوارق خصوصا وأنها رحلة قمت بأكبر جزء منها وحدي بعدما تعذرت متابعتها علي زميلي لأسباب صحية. ليس المقام مناسب لعرض درس في الإثنولوجيا أو العلوم الجيوـ سياسية لكن و بكل بساطة لأشهد أني لم ألاحظ أي فرق أساسي بين أشكال تلك الساكنة، وأنماط حياتها و ممارساتها الدينية ومعاملتها للضيوف. من الصعوبة بمكان ،كما هو معلوم، فك لغز الأصول الإثنية لكل هذه الشعوب، كما أنها تشكل أرضية حساسة و مناسبة للمجادلات و النزاعات اللامتناهية. أود فقط ذكر رأي عبر عنه أمامي وفد من وجهاء قبيلة أريستوقراطية : “كان أجدادنا من المرابطين الذين هاجروا إلى الشرق إثر نزاعات اندلعت في تلك الفترة”. ما هي مصداقية هذا الرأي؟ لم يكن القوم باحثين اكاديميين ولا مؤرخين محترفين، بل وجهاء تقليديين يرجعون في معلوماتهم إلى معارف تنقل شفويا من جيل لأخر. كان ما رووه يعبر عن فرضية معروفة نسبيامفادها أن الطوارق كانوا جزءا من الساكنة الناطقة بالبربرية و التي كانت تعمر هذه المنطقة من الصحراء حيث تعرب جزء كبير منها بعد مجيء بني حسان بينما بقي الطوارق بمعزل عن عملية التعريب و كان ثمن ذلك النزوح إلى الشرق.

نتيجة كل هذه العوامل والفرضيات التي تختلف في الجزئيات وتتحد النتائج، هي التشابه و التقارب الكبير بين البيضان و الطوارق. و هو تقارب ساهم في خلق روابط متينة إلا أنها لا تنفي صعوبة التعايش ووجود مواجهات ونزاعات متنوعة كما هو الحال دائما بين الجيران وكما هو الحال بين قبائل البظان وبين هؤلاء ومواطنيهم الهال بولار مثلا ؛ صعوبات لا تمنع الجوانب الإيجابية للمساكنة من أن تظل سائدة هنا و هنالك على حد سواء.

هل يخلق ذلك التقارب واجبات تجعل من التضامن فرضا مقدسا؟ في أي حدود ؟ هل لموريتانيا تجاه جيرانها التزامات أخلاقية، سياسية أو من نوع آخر، ضمن المصالح المشتركة ؟

الأمر الذي لا شك فيه هو أن مصير أزواد كان و سيظل دائما يعني موريتانيا كثيرا. ومن الواضح أن موريتانيا لم تعره ما يستحق من الاهتمام حتى انفجر في وجهها مع دوي عملية لمغيطي و الاعتداءات التي عقبتها و التي شكلت قدرا كبيرا من الخسارة و الإهانة المؤلمة للبلد و لقواته المسلحة و الأمنية.

هل كانت السياسة الطموحة التي تلت فترة التردد خلال الأعوام 2005 ـ 6 ـ 7 ـ 8 هي المثلي؟ بغض النظر عن أية تبريرات منحازة، فقد انتاب الوطنيين المخلصين شيء من القلق تحسبا لتبعات التدخلات خارج الحدود والتي قيل أنها تشبه نوعا من الارتماء بين فكي الأسد وكأنها إعلان حرب ضد تنظيم القاعدة “الرهيب” الذي لم يجرأ أي من الجيران، ولو كان أقوى منا ، على تحديه في عرينه. من منا لم ينتبه قلق حيال جنودنا الشباب الذين تصدوا لهذا التحدي؟ ومن لم يشعر بارتياح كبير واعتزاز عميق عند الإعلان عن الانتصار؟ كانت ثمة توقعات لمحاولات انتقاميةـانتحارية … إلا أنها أجهضت و لله الحمد. أما المستقبل فكما قال الشاعر الحكيم ” وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي.” و رغم ذلك فإن الحصيلة المؤقتة تبرز بوضوح نجاحا باهرا لموريتانيا، خاصة إذا ما قورنت بالنتائج التي حصلت عليها دول المنطقة الأخرى.

الحقيقة أن هناك ظاهرة جديدة و ذات أهمية قصوى سنعود إليها فيما بعد، هي بزوغ قوة جديدة في منطقة الساحل و الصحراء، لم تلق حتى الآن ما تستحقه من ذكر لبروزها ولا من تحليل لطبيعتها أو تقييم لمداها و لكن لا أحد من الجيران و لا من الشركاء يمكنه اليوم أن يتجاهلها أو أن يقلل من شأنها.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى