اسهامات الشناقطة فى المشرق
لقد عرفت بلاد شنقيط أو موريتانيا حاليا نهضة علمية وثقافية في القرون الأربعة الأخيرة من الألفية الثانية للميلاد وإن كان الأمر بدأ ينكمش ويتراجع تدريجيا وخاصة في الربع الأخير من القرن العشرين، وقد تزامنت هذه النهضة الثقافية مع فتور وانحطاط كانت تشهده معظم دول العالم الاسلامي فيما يعرف بعصر الانحطاط الذي مازال يضرب أضنابه على المخيلة الاسلامية بشكل عام ،وكانت تلك النهضة قائمة على حياة البداوة والتنقل الدائم بحثا عن الماء والكلأ ولم تكن مستندة على أي اساس حضاري خلافا لقاعدة الخلدونية التي تقول أن الثقافة سليلة العمران ،
وكان الشناقطة يمثلون منعطفا أو استثناءا آخر مفقودا من الحلقة العامة للتراجع الحضاري الذي كانت تعاني منه معظم الدول العربية في تلك الفترة مما يعني أن جزءا مغمورا من البلاد العربية لم يكن يعاني من نفس التراجع بل كان على النقيض تماما وقد بدأت تلك الحركة الثقافية مع بداية الدولة المرابطية في منصف القرن الخامس الهجري على يدي عبد الله ابن ياسين الجزولي الصنهاجي وابن اخته يوسف ابن تاشفين الذي توسعت مملكة المرابطين في عصره حيث ضمت اليها جزءا من الأندلس والمغرب الحالي اضافة الى الصحراء الموريتانية واتخذ من مدينة فاس التي بناها قبل ذلك عاصمة له.
وقد أزدهرت بلاد شنقيط أو بلاد التكرور أوبلاد المنكب أو البلاد السائبة إزدهارا على امتداد حكم المرابطين الذي استمر قرابة قرنين من الزمان .وكانت تسكن في وسط وشمال البلاد قبائل بربرية وهي : لمتونة وكدالة ومسوفة ووصنهاجة وغيرها من القبائل البربرية التي استوطنت تلك البلاد من قديم الزمان ، فيما كانت تعيش في الجنوب والجنوب الشرقي قبائل زنجية تتحدث ثلاث لهجات إفريقية وهي :الألفيية والبلارية ،والسونكية ومع بداية القرن السادس الهجري وفدت الى البلاد قبائل بني حسان التي تنحدرمن قبائل بني المعقل العربية إبان الهجرة الهلالية من صعيد مصر الى شمال إفريقيا وانتشرت في معظم ربوع البلاد وتمت لها السيطرة السياسية والعسكرية فيما بعد .وقدبلغت تلك الاشعاعة الثقافية أوجها في القرن الحادي عشر الهجري حينما كانت ترسل شنقيط كل عام ماكان يعرف بالموكب الشنقيطي الى الحج الأمر الذي نتج عنه إكتشاف المشارقة لذلك الجزء النائي من البلاد العربية ومما ساعدعلى بزوغ اسم شنقيط ولمعانه في المشرق ماكان يتميز به أهلها من علم وحفظ في معظم منوعات المدونة الاسلامية حيث لاتكاد تخلو مسألة من مسائل تلك المدونة فى القرون الأربعة الأخيرة الا ويذكر فيها علما من أعلام شنقيط الأمر الذي جعلهم يزاحمون علماء الحواضر الاسلامية مثل فاس والزيتونة والقاهرة وبغداد بل وجرت بينهم مناظرات كانت الكفة فيها في الغالب تميل لصالح الشناقطة ومن أشهر تلك المناظرات ما جرى بين العلامة محمد محمود المعروف ب (ول اتلاميد) التركزي الشنقيطي مع جهابذ ة من من علماء الحجاز ومصر في مسألة الخف الأسود و منع عمر من الصرف والتي كان محمد محمود يرى أن النحاتة أخطأو فيها من أيام سبويه ولم يتصدى له في النهاية في تلك المسألة سوى ابن وطنه العلامة أحمد ابن الأمين العلوي الشنقيطي صاحب كتاب:(الوسيط فى تراجم أدباء شنقيط) الذي ردعليه في رسالته (الدرر في منع عمر) والتي طبعت لاحقا في مصر .ومن الأعلام الشنقيطية التي أشتهرت في المشرق محمدن بن حبيب الله لمجيري الشنقيطي الذي تصدر للتدريس في كل من مصر والحجاز.
كما كان للعلامة محمد محمود التركزي (ول اتلاميد) دورابارزا حيث مكث برهة من الزمن للتدريس في الحجازبعد رحلة طويلة الى مكة كما كلفه السلاطان عبد الحميد الثاني بمهمته الشهيرة وهي احصاء الكتب الاسلامية الموجودة في المكتبات الاسبانية والتي أنجزها في رحلة طويلة مرة به على اسبانيا و لندن وباريس وقد اشتد عليه بعده عن الحجازوطول مقامه فى تلك البلاد وقد أنشأ في ذلك:
ماليل طول ولاليل التمام معا /كليل باريس أو ليلي بأندلســــــــــــــي
لم أدرى أيهما أقوى محافظة / على الظلام وحبس الصبح بالحرسي
وقد مكث فترة في مصر ودرس بالأزهر وقد قال عنه الدكتور طه حسين :”لم يكن درس اللغة العربية بالأزهر مهما قبل مجيء الشيخ الشنقيطي “وقد حقق دواوين الشعر الجاهلي والقاموس المحيط ووضع فهرت المخطوطوات العربية فى مكتبة الاسكوريا وقدربطته علاقة وثيقة بالامام محمد عبده وقد قال عنه أحمد حسن الزيات :”إن الشيخ الشنقيطي شموس الطبع ،حاد البادرة،يجادل عن نفسه بالجواب الحاضروالدليل المفحم واللسان السليط “.
ومن أعلام الشناثطة الذين تركوا أثرا في المشرق العربي محمد الخضر بن مايابى الجكني الشنقيطي الذي كان يتولى الافتاء على المذهب المالكي في الحجاز ثم اصطحبه الأمير عبدالله بن الحسين مؤسس الدولة الأردنية الى الأردن ليتولى منصب القضاء هناك وظل هناك فترة من الزمن قبل أن يعود الى الحجاز ومن أشهرمؤلفاته (كوثرالمعاني الدراري فى شرح خبايا صحيح البخاري) وكذلك محمد الأمين فال الخير الحسني الشنقيطي الذي قادته رحلته الى المشرق الى الأردن ثم الهند ثم الكويت وأخيرا استقر به المطاف في البصرة في العراق حيث لعب فيها دورا علميا وجهاديا مشهودا لدرجة أن العراق قد خلد ذكراه فى أول كتاب مطبوع عن سلسلة أعلام البصرة .
ومن هؤلاء العلامة الشيخ سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي صاحب كتاب (مراقي السعود) والذي استقر به المطاف برهة من الزمن فى
مصر حيث كانت تربطه علاقة وثيقة بالأمير محمد على قبل أن يقفل راجعا الى بله ويكمل مشواره هناك .وكذلك عبد الرشيد الشنقيطي الذي ذكر العلامة اللغوي الزبيدي (صاحب شرح القاموس المحيط )
أنه من شيوخه .
ومن هؤلاء كذلك محمد محمود التندغي الشنقيطي ومحمد يحي الولاتي الشنقيطي وغيرهم . أما من المتأخرين فنكر على سبيل المثال لاالحصرالعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (آب ول أخطور) الذي قدم الى الحجاز فى الربع الأخير من القرن الثالث عشر الهجري وقد كان هذا الشيخ متبحرا فى علوم العربية والفقه والحديث الا أنه كان متمكنا أكثر فى علوم القرآن ومن أشهر مؤلفاته فى ذلك (أضواء البيان في ايضاح القرآن بالقرآن) وقد تميزت علاقته بالعاهل السعودي الراحل عبد العزيز آل سعود ومع مشايخ المملكة من أمثال عبد العزيز بن بازوكان له حضور طاغي فى المحفل العلمي السعودي بشكل عام وقد تخرج على يده كثيرون . وكذلك كان العلامة بن المنجي الشنقيطي الذي كان الامام الدائم لمدة سبع سنوات عند الملك عبد العزيز.
وغير هؤلاء كثيرون سواءا كانو متقدمين أم متأخرين غير أن المقام لايتسع لسرد كل الاسماء أو الاسهامات التي ساهمو بيها في إثراء المدونة الاسلامية فى مختلف الفنون ،وسواءا قلت تلك الاسهامات أو كثرت
الا أن التاريخ سيظل شاهدا لألئك القوم أنهم بدع فى الزمان والمكان حيث استطاعوا مع بداوتهم وتخلفهم أن يغيرولو جزئيا من الفلاسفات المعمول بها والتي تقول: أن البداوة قرينة الجهل وأن العلم والثقافة ابنين للتحضر والعمران.
بقلم/حبيب ولد أحمد