ارتسامات من داخل قافلة شنقيط3
استيقظنا مبكرا، فوجدنا الحافلة بالباب تنتظر، لكننا كدنا نواجه معضلة، عندما لم يجد أحد الزملاء جوازه وتذكرته،انتهي المشهد بحمد الله بالعثور عليهما في غرفته بالفندق ، بعد جهد لا يخلوا من توتر نفسي واضح ، فلم ننطلق إلا حوالي الخامسة صباحا، حيث كانت شوارع القاهرة خالية من الزحام- وهي نعمة يدركها جيدا كل من سلك طرقها نهارا- الشيء الذي سمح للقافلة بأن تسير بالسرعة المطلوبة، لذا كنا نمني النفس بالوصول إلي غزة قبل صلاة الجمعة، حيث كان أهلها ينتظرون الشيخ الددو ليؤمهم في أحد مساجدها ، لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، فلازالت الطريق إلي غزة غير خالية من المنغصات والعراقيل و(الحكمات)، الشيء الذي انتزعنا من الجو الشاعري، الذي عشناه أثناء تنقلنا بين شوارع القاهرة وأحيائها المتمددة.
ورغم ذلك فقد تذوقنا متعة بوح القاهرة ببعض أسرارها التي لا تشي بها عادة إلا وقت السحر: مآذن تناديك بأضوائها الساحرة وكنائس تبوح لك بطمأنينتها ورسوخها في المكان من خلال عناقها مع المآذن، إنها اللغة الوحيدة التي تتحدثها القاهرة في مثل هذا الوقت ولا يستطيع فك طلاسمها إلا من ينتشي بلغة الإضاءة الليلية وبإيحاآت المعمار.
كانت الطريق إلي غزة العزة غير سالكة وبعيدة عن الإنسيابية العادية، فكدنا نفقد الأمل في الوصول إليها قبل الخامسة مساء- وهو توقيت انتهاء الدوام عند معبر رفح- بعد أن كنا نمني النفس بالفطور فيها ذلك الصباح الجميل- رغم أننا اصطحبناه معنا من الفندق، حيث تعجل البعض ساعتين وأخره آخرون لغايات ودوافع مختلفة.
عند ما وصلنا لمدينة الإسماعيلية، تكفشت لنا مواهب جديدة عند زميلنا محمد غلام غير تلك التي لاحظناها أثناء جمع التبرعات لصالح غزة في نواكشوط، وذلك عندما أخذ ميكروفون الباص وبدأ يشرح جوانب مهمة من حياة مدينة الإسماعيلية وتاريخ النشاط الدعوي للشيخ حسن البنا بها .. لقد جمع بين المؤرخ والداعية والمرشد السياحي، فكان هذا الأخ بجهده المضاعف هذا- والذي أراد من خلاله لاحقا تخفيف وطأة نقاط التفتيش علينا – علي ما أعتقد- والترويح عن الجماعة من خلال ” التسخين الحماسي” لعم امحمد (سائق الباص)، كي يسرع ويتجاوز سيارات وفود انطلقت بعدنا صباحا من القاهرة، لكي لا تسبقنا للمعبر فتزداد فترة انتظارنا وهو ما لم يعد باستطاعنا تحمله نفسيا علي الأقل، بعد يوم من الإنتظار والتأخير غير المبررين بالنسبة لنا علي الأقل.
إنها مجرد لعبة أتقنها “الفلول” بالنسبة لنا وضرورات أمنية بالنسبة لمحطات التفتيش(الحكمات)، انتهت بوصولنا بحمد الله إلي غزة قبل الخامسة وبعد أن طال انتظارنا في رفح المصرية انطلق بنا الزميل محمد غلام باتجاه البوابة ممسكا بالجوازات بطريقة تشعرك وكأنه تلقي أكبر جائزة وأعلا وسام، لكن هذا الزهو الذي سبقه الركض أمام الباص لربح الوقت والذهاب جيئة وذهابا لدفع رسوم المغادرة، تحول إلي شيء آخر، يماثل حالة الراهب عند دخوله مكانا يقدسه ويجله وهو شعور أعتقد أنه شمل الجميع هذه المرة، فتحول ضجرنا إلي طمأنينة نفسية وانشراح بمجرد أن قطعنا عدة أمتار، هي المسافة ما بين البوابة المصرية وتلك الفلسطينية.
لقد وجدنا الترحاب واصطف مستقبلونا للسلام علينا، وكان علي رأسهم وزير القدس والأسري واللاجئين وبالطبع كان هناك العلماء والصفوة بانتظارنا.. احتفاء بالشيخ الددو وبمرافقيه، وكانت أولي محطاتنا بغزة هي: سيارة الشهيد الجعبري الذي فجر استشهاده بها حرب “السبع ليال وثمانية أيام حسوما”،ثم تابعنا عرضا لصور الدمار والقتل والفتك التي اقترفتها يد الصهاينة المجرمة، كما شاهدنا فلما يلخص مظاهر القصف والتدمير الذين تعرضت لهما هذه الأرض الطيبة، أعقبتها جلسة تعارف.. وكانت لحظة الخروج من البوابة جد مؤثرة، عندما سأل الشيخ الددو مرافقيه عن جهة القبلة، فوجه وجهه شطرها وسجد لله سجدة طويلة تبعناه فيها، لنكتشف بعدها أن وجه الشيخ مبلل بالدموع، فكانت لحظة جد مؤثرة ومن الصعب أن تمحي من الذاكرة.
ثم انطلقنا باتجاه مدينة غزة وكان مرافقونا الفلسطينيون يبذلون الجهد المضني ليعرفونا علي القطاع ومحافظاته وتوضيح ملابسات ما نمر عليه من آثار التدمير الصهيوني ومن مختلف مظاهر العيش داخل هذه الرقعة الصامدة.. كل هذا كان عبر طريق صلاح الدين التي سلكها من مصر باتجاه بيت المقدس.
ورغم أن الصورة المفترضة الأولي عن غزة وساكنتها، هي صورة الدمار والوجوه المفجوعة والأعين التي تذرف الدموع، إلا أنه صادف وجودنا موجات من مواكب الأعراس التي تطلق منبهاتها فرحا، تتقدمها الفرق الفنية التي كانت تعزف أشجي الألحان، كما كان أهل غزة أيضا مقبلين علي الحياة وكأنه لا فجيعة ولا حرب، سيارات “القسامين” تصادفك في الطريق، تارة تقف بجوانب الطرق وتارة أخري نراها منطلقة وهي تسير بسرعة فائقة.
استمر موكبنا في شق طريقه بصعوبة بالغة بفعل زحمة المرور وكانت الرايات الموريتانية التي نلوح بها كافية لإفساح المجال لنا لكي نمر علي حساب آخرين وازدادت الطلبات علي الأعلام التي نحملها من بين صفوف المحتفين بأعراسهم وبعض المارة، الشيء الذي زاد من حضور الأعلام الموريتانية في شوارع غزة العزة.
إنها نهاية يوم لا ينسي ومقدمة لآخر ينتظرنا صباح غد، حيث سنبدأ الجانب العملي من مهمتنا في هذه الأرض التي باركها الله… وفي انتظار ذلك الصباح ننام نحن في فندق القدس الدولي وتصبحون أنتم علي ألف خير.
بقلم/محمد المختار ولد محمدفال
غزة هاشم والشافعي
07/12/2012