في الذكرى السادسة لاستشهاده ..
قراءة في مفهوم “المرونة” عند الشهيد صدام حسين
الشهيد صدام حسين ليس شخصا عاديا أو زعيما عابرا .. إنه رمز البطولة والفداء.. والتضحية والعطاء.. والإنسانية والوفاء. لذلك، فإن اللغة مع الرفيق صدام حسين مترعة بمعاني إنسانية شتى: معاني المآسي.. معاني المعاناة.. معاني القسوة.. معاني الصبر.. معاني المقاومة ..المعاني المواجهة.. معاني المروءة.. معاني الفضيلة.. معاني الإيمان.. معاني الأمل.. معاني الألم.. معاني الحرية .. معاني الالتزام.. معاني الضمير .. معاني العدالة.. معاني الخيال.. معاني العقل.. معاني المنطق، ومعاني الفروسية العربية.
وبعبارة واحدة .. صدام حسين هو الحياة في أروع توازن لأبعادها، وفي ألذ طعم لها، وفي أرقى صورة من صورها، وفي أعمق مغزى لها، وفي أخصب موسم لها.. ولذلك تأتي كلماته موزعا من الألم وحزما من الأمل، ومفرداته شظايا معاناة الأمة على مساحة الوطن العربي. إنه صدام حسين الذي يقتل الموت كل يوم ويبدد اليأس بمعاني الحياة، التي خلفها في تجربته الإنسانية إلى الإنسانية.. كان كل شيء إلا ما يعيب إنسانية الإنسان.. وما يشين قيم الأرض والسماء. إنه صدام حسين ،أيضا، وكفى.
وليعذرني محبو صدام حسين، وهم أهل الحب والأحق به، في جفاف اللغة التي أستخدمها في معالجتي لهذا المفهوم؛ لأن الكتابة ههنا تنحو نحوا فكريا وليس عاطفيا، برغم ما للعاطفة ودفق مشاعر القلوب من دور في مناسبة إحياء ذكرى استشهاد بطل، هو صدام حسين.. وكفى!
على أية حال، لفظ المرونة كغيره من الألفاظ نشأ في البداية دالا لغويا صرفا؛ ولكن دلالته ظلت، بفعل حيوية اللغة، تتنقل في مجازاتها، مبتعدة، رويدا، عن المعنى اللغوي الأصلي إلى أن استقرت في صياغة شاملة لدلالات متعددة، ولكنها مشتركة في لفظ واحد، أصبح بموجب ذلك، مرجعية موحدة لهذه المعاني الصادرة عنه. أي أصبح مفهوما (concept).
ويعني لفظ المرونة – على نوح لا نزعم له الدقة الكافية ـ تلك القابلية التي تتمتع بها بعض الأجسام فتمنحنها قدرة خاصة على التمدد بين قوتين تشدانها في اتجاهين متعاكسين، وتمكنها من الانثناء بسهولة أمام قوة ضاغطة دون أن تتكسر أو تتمزق أوصالها. والمرونة في الاصطلاح السياسي تعني قابلية التكيف في وجه الظروف الضاغطة أو الطارئة أو المفاجئة، ابتغاء استيعابها وتتجاوزها بأقل الخسائر. والمرونة بهذا المعنى تصلح أن تكون عنصرا في التكتيك، بوصفه أسلوبا مرحليا لتحقيق أهداف نهائية، تستهدفها إستراتيجية معينة.
ونحن إذ نعالج هذا المفهوم عند الرفيق الشهيد صدام حسين، من المفيد أن نؤكد أن هذه المعالجة تدخل في إطار إثارة واحدة، فحسب، من مواصفات القيادة الفذة لدى الشهيد صدام حسين في تطوير حزب البعث العربي الاشتراكي على صعيد الخطين التنظيمي والإديولوجي، وفي إيصال ثورة 17-30 تموز إلى أهدافها الإستراتيجية، قطريا، أي – في العراق – وقوميا، على مستوى الوطن العربي. والمرونة عند الرفيق الشهيد صدام حسين تعني المرونة الثورية، وليس بالمنطق الليبرالي، ونكاد نلخصها في أربع مفردات نضالية:
1- ثورية الهدف.. وهذه المفردة تكمن في الاستعداد لتقديم التضحيات على مستوى الجهدين النظري والتنفيذي، النابعين من وضوح كاف للهدف؛ الأمر الذي يحمل معنى المعاناة النضالية المرتبطة بالحياة الاجتماعية المتحولة باستمرار .. كما أن من سمات الهدف الثوري الانغماس داخل الواقع المعيش للناس لتشخيص تناقضاته واستخلاص قوانينه، و”الميكانيزمات” التي تتحكم في علائقه وروابطه، بغية تطوير الأساليب المتنوعة والمناسبة لإخضاعها للمنطلقات النظرية للهدف، والوصول إلى غاياتها ضمن خطة، يقول صدام حسين، “تزيد من توعية الجماهير لحثها على التشبث بأهداف الثورة الأساسية ورفع قدرات أجهزتها على مواصلة المسيرة، وإبعاد الاجتهادات المتأرجحة بين المرونة الثورية والارتداد اليميني، وبما يؤمن أهداف الإستراتيجية العامة ويمنع التراجعات على مستوى الفهم العلمي والثوري”.
2- صيغ التدرج الثوري .. وهي ترادف الخيال الثوري عند صدام حسين، مع أنهما يبدوان متناقضان على صعيد التجريد، لكنهما يعطيان ذات المعنى عند تحليلهما إلى مفردات عمل نضالية. فالخيال الثوري معناه – في القاموس النضالي البعثي – تطبيق الأسلوب الملائم لكل مرحلة من مراحل البناء الثوري أي الصيغة المناسبة التي توازن بين ممكنات الواقع وطموح الفعل الثوري الذي يرنو بعيدا إلى أقصى مدى في أهداف الثورة التاريخية؛ ولكنه يأخذ في عين الاعتبار تعقيدات الواقع.
وإذا كانت صيغ التدرج الثوري أو الخيال الثوري هي تقسيم المبادئ على الزمن – بتعبير لذيذ آخر لصدام حسين – فإن الأهداف التي يتم تحقيقها وفق هذه الصيغ تظل ملزمة بتجنب التناقض مع الأهداف الإستراتيجية ومصالح الجماهير يقول الشهيد صدام حسين “إن صيغ التدرج الثوري وأهدافه المرحلية، وصولا إلى أهداف الإستراتيجية العامة – وإن كانت لا تفترض تطابقا في أهدافها ومسالكها مع أهداف ومسالك الطموح النهائي – إلا أنها يجب أن لا تقع في تناقض وتضاد مع أهداف هذا الطموح وأن تلتزم باستمرار مصالح الجماهير الكادحة”.
3- مرحلية الأهداف.. ومرحلية الحلفاء..
كان من ضمن السمات القيادية المميزة للشهيد صدام حسين هي دقته اللا محدودة في فرز الألوان بعضها عن بعض، وقدرته على النفاذ عميقا بين فواصل الخطوط، وفصل الخنادق. وهذه الموهبة – التي صقلتها تجربة الحياة وأخصبتها معاناة النضال، مكنته من معرفة حقيقة اجتماعية، مفادها أن المجتمع ليس كتلة واحدة منسجمة، بل هو كتل اجتماعية تتصل وتنفصل في مصالحا، وتتداخل أزمنتها. وإدراكا لهذا الأمر بالغ الأهمية، دعا الشهيد صدام حسين (الثوري) إلى استيعاب هذه الحقيقة الاجتماعية، وتأسيس الفعل الثوري على حسبان ذلك.
إن الثورة، مثلا، عندما تغير جذريا ضوابط ومؤسسات المجتمع الذي كان قائما، فهي تقيم على أنقاضه ضوابط ومؤسسات لمجتمع جديد نقيض لسابقه؛ ولا بد أن هذه الثورة ستخلق أعداء دائمين وأصدقاء دائمين، وخصوما مؤقتين وحلفاء مرحليين.. والثورة التي تضم في صفوفها قوى اجتماعية متباينة في الأهداف والمصالح إزاء الثورة ذاتها، لا يمكن أن تكون غير دقيقة في تقدير إمكاناتها الموضوعية، أو غير مستوعبة لظروفها الداخلية والإقليمية والدولية ، أو أنها تكون غير متحسبة لكافة الاحتمالات ذات الصلة بهذه الأبعاد، معا.
إن التحسب الثوري عند الشهيد صدام حسين هو “تخزين” احتياطي من “المدخرات” التكتيكية، وتنويع الأساليب النضالية المتصفة بالمرونة الثورية، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تفرط بالطموح النهائي للثورة. ذلك أن الثورة ليست “مركبة” تنقل عددا محسوبا من الأفراد على طريق معبد مستقيم وبسرعة ثابتة؛ بل الثورة حركة اجتماعية جذرية تشق طريقها بنفسها أثناء مسيرتها بين العراقيل والمتاريس والمواجهة مع قوى المجتمع، التي كانت مستفيدة من الوضع السابق. فكيف تواجه الثورة هذا الواقع، وكيف تحسب خطواتها دون نكوص؟..
إن رموز الأوساط الاجتماعية التي كانت مسؤولة عن قيم المجتمع المحطم بالثورة، هم الأعداء الدائمون، وسيظلون كذلك، حتى إن خنسوا لبعض الوقت، أو تظاهروا بثوب المغلوب.. كما أن مجتمع الثورة الجديد يضم في صفوفه أنصارا وحلفاء، فيهم من يرى مصلحته في الأهداف النهائية للثروة، ومن ضمنهم من تتحدد طموحاتهم عند حد معين، وعندما تتجاوز الثورة ذلك الحد ينقلب عليها؛ لأنها اصطدمت بمصالحه وتصوراته. وهناك من يسيء فهم الثورة في البداية، ثم يلحق بها بعدما يطمئن إلى سلامة خطها. والأخطر هم أولئك الذين يتظاهرون بمؤازرة الثورة، فيتوزعون في مختلف مفاصل المجتمع، ويكمنون هناك لاستغلال فرص سوء تقدير، أو خطأ تطبيقي غير محسوب، أو تدبير متسرع، أو صيغة اقتحامية جاءت قبل إنضاج ظروفها.
ويرى صدام حسين أن هذا الطابور كثيرا ما يتوزع بين الثورة ومعارضتها الوطنية، التي تتفق مع الثورة في ضرورة تغيير الأوضاع، ولكنها تعارضها في أسلوبها. ودور هذا الطابور يتمثل في تهويل أخطاء الثورة من جهة، وأخطاء معارضتها من جهة أخرى، بقصد خلق جو المواجهة وتشتيت جهود الثورة ومعارضتها الوطنية في معارك خاطئة في الزمان والمكان والهدف.
ويعتبر الشهيد صدام حسين أن المرونة الثورية تقتضي إدراك هذه الحقائق الاجتماعية وفهمها فهما واقعيا ثوريا، ليس مجنحا، مما يستدعي تحديد موقع كل وسط في كل مرحلة من مراحل النضال، بشكل يؤمن الاستفادة منه، دون أن يفتح أمام التيارات الخطرة فيه فرصة الارتداد على الثورة وطموحها. وهذا هو ما يسميه الرفيق الشهيد صدام حسين مرحلية الأهداف ومرحلية الحلفاء.
4- تأشير حدود المرونة الثورية..
يرى الشهيد صدام حسين أنه لا شيء أخطر على الثوري والثورة من تداخل الحدود في المراحل الثورية؛ فذلك هو المقتل الذي يترصده الأعداء للانقضاض على الثورة أو الحزب الثوري.. فأي تدابير أو شعارات يرفعها الثوري قبل أن تنضج لها الجماهير، صاحبة المصلحة الحقيقية في هذه التدابير، والشعارات، هي بالنتيجة النهائية عوامل تحطيم للفعل الثوري؛ لأنها تجعل أوساطا عريضة من المجتمع في مواجهة هذه الشعارات والتدابير، مع أنها صيغت لخدمتها الإستراتيجية، وعندئذ يصبح هذا الفعل الثوري فاقدا لخاصية المرونة الثورية.
يقول الشهيد صدام حسين: << إن تأشير الحدود بين الثورة وجماهيرها وحلفائها من ناحية، وبين قوى الثورة المضادة واحتياطيها من ناحية أخرى أمر في غاية الأهمية، وإن تأشير الحدود لا يستكمل أبعاده الحقيقية إلا من خلال الحرص أن تأتي مسيرتنا وتدابيرنا استجابة حية للمبادئ التي ناضلنا من أجلها وعبأنا على أساسها جماهير الشعب وقواه المناضلة، وإن من أبرز الأخطار التي تتعرض لها الثورة هي أن ترفع شعاراتها المرحلية قبل أوانها وأن تستعجل الخصومة مع حلفاء المرحلة... وأن تتردد حيث يجب الإقدام والحزم >>.
وفي هذا يظهر جليا مدى هضم الشهيد صدام حسين لدروس القيادة العبقرية للرسول محمد صلى الله عليه وسلم في معاهداته ومواثيقه، وتوقفاته، وإحجامه وإقباله، واستيعاب الشهيد لعبر تنزيل القرآن منجما، حيث لم تنزل آية قرآنية إلا بعد أن تفهم التي قبلها على وجه اليقين، وأن يستوعب المؤمنون مضمونها على نحو صحيح.
صفوة القول ههنا، إننا أردنا بهذه الإطلالة السريعة أن يطلع القارئ الكريم، المغيب أو المضلل بالإعلام العادي، على طرف من طريقة تفكير هذا البطل، الذي سعى أعداؤه، أعداء العروبة والإسلام، أن يقدموه تارة في صورة المعتوه.. وطورا في صورة الشيطان يوم عرفة.. ومرة أخرى في هيئة الوحش الكاسر. وبرغم الجهد الإعلامي العالمي الهائل الذي وظف في انجاز هذا الهدف القذر، كان الشهيد صدام حسين يخرج ملكا أبيض في كل مرة من حملات التشويه؛ لأنه كان مخلصا في دينه و في حبه لأمته وللإنسانية المعذبة في هذا العالم.. وكان صدِّيقا صادق الوعد، فنال بذلك أقصى غاية الخلودْ، وصيته في الآفاق منشودْ.. ونال أعداؤه في الدنيا خزي مشهودْ.. وحاضر منكودْ.. ومستقبل من عذاب الخلد ممدودْ .. وهزيمة منكرة في موعد معدودْ. وقيل الحمد لله قطَع دابر الظالمين..