ضياع جزء كبير من تاريخنا بعد حريق مركز أحمد بابا
لا فرق بين أن يكون الطيرانُ الفرنسيُّ هو المتسببَ في إشعال ألسنة اللهيب في مكتبة مركز أحمد بابا بتنبكتو أو أن تكون الحركات الجهادية هي من أشعل تلك النار قبل تركها المكانَ، فالكارثة قد وقعت والتخريب قد تم. والخزائن والرفوف والصناديق المليئة بالوثائق والمخطوطات صارت خبرا بعد عين، وفقدت بذلك منطقة الساحل كلُّها والدول المغاربية جميعُا في يوم واحدٍ ما لا يعوض من تاريخها وثقافتها وتراثها؛ كان فقهاءُ وعلماءُ وخطاطون قد جمعوه ونسخوه في قرون متطاولة بجد واجتهاد وضبط.
تراث أزواد نهب ممنهج ومستمر
كتب على تراث صحراء أزواد والساحل العربي الإسلامي والغني والمتنوع أن يظل عرضة للتخريب والسلب والنهب. جاء الفرنسيون إلى المنطقة مستعمرين مع بداية القرن العشرين، ومن أول ما قاموا به مهمة دو جيرونكور (De Gironcourt) الشهيرة عند المهتمين بتاريخ المنطقة. حل هذا الباحث بمنطقة أزواد سنتي 1911 و1912، فلم يترك مكتبة إلا زارها ولا محظرة إلى ومر بها، ولا خطاطا مشهورا إلا والتقى به، فملأ أوعيته من الكتب والمخطوطات وتوجه بها إلى باريس. وكانت حصيلة صيده 221 مخطوط من أثمن وأهم المراجع التاريخ الاجتماعي والثقافي والمراسلات والوثائق المتعلقة بمنطقة أزواد والساحل.
وقد اطلعت على صور من بعض النصوص التي أخذها جيرونكور من أزواد في مكتبة الباحث البريطاني الكبير جون هانويك (John Hunwick) بجامعة نورث ويسترن في ربيع 2010. وكان للباحث هانويك، الذي يصارع الشلل في هذه الأيام بقوة وصبر في شيكاغو، الفضلُ في التعريف بمحتويات ومضامين المخطوطات التي حصل عليها جيرونكور. فقد كتب عنه مقالته الشهيرة: “نظرة أخرى على أوراق دو جيرونكور” (Another Look at the De Gironcourt papers). كما جمع الكثير من المعلومات والتوثيق عن تراث أزواد والساحل عموما في دراسته المميز جدا عن الآداب العربية في إفريقيا:
http://www.northwestern.edu/african-studies/docs/working-papers/wp13hunwick.pdf
وقبل جيرونكور بعقدين من الزمن جاء الرائد الفرنسي لويس أرشينار (Louis Archinard) الذي هزمت حملته العسكرية في 6 أبريل 1890 جيوش القائد الشجاع أحمدُو بن الحاج عمر الفوتي التجاني الذي كان خليفة أبيه في سيغو وسلطانا في تلك المناطق من الساحل الإفريقي.
نهب الرائد أرشينار مكتبة الحاج عمر الفوتي كلها وفيها ما يناهز السبعة آلاف نص ما بين مخطوط ووثيقة، ونقلها إلى باريس فعرفت هنالك باسم “خزنة ارشينار” (le Fonds Archinard) وكأنها له. وتضم مكتبة الحاج عمر الكثيرَ من التاريخ الموريتاني مثل النسخة الوحيدة من تاريخ منح الرب الغفور لابن انبوجة لمؤلفه سيدي عبد الله بن سيدي محمد بن انبوجه العلوي وهو أحد أعيان وعلماء ومؤلفي مدينة تيشيت. كما توجد بمكتبة الحاج عمر نسخة فريدة من كتاب الطرائف والتلائد للشيخ سيدي محمد الخليفة الكنتي. وتوجد كذلك بهذه المكتبة مراسلات الشيخ سيدي أحمد البكاي الكنتي مع الحاج عمر الفوتي ومع أحمد بن أحمد لبو أمير ماسنة، وهي وثائق مفيدة في فهم تطورات تاريخ أزواد في منتصف القرن التاسع عشر. كما توجد بها خطوط بعض الأعلام الموريتانيين النادرة والجميلة كسيدي محمد بن انبوجه وأحمد بن العباس العلويين. وامحمد بن أحمد يورة محمد اليدالي وغيرهم
ومنذ 28 نوفمير 1892 إلى الآن أصبحت مكتبة الحاج عمر الوافرة جناحا من المكتبة الوطنية بباريس.
ومؤخرا لم تعد تسمى “خزنة أرشينار” بل أطلق عليها اسم المكتبة العمرية نسبة لصاحبها الحاج عمر الفوتي.
مركز أحمد بابا… آثار لا تقدر بقيمة
تعرفت أول مرة على محتويات مخطوطات تنبكتو، التي تضم أكثر من 20 ألف مخطوط، وأنا في ولاية إلينويز بأمريكا خلال زيارتين سابقتين قادتاني إلى هذه الولاية وإلى جامعاتها في “إربانا-شامبان” وسط الولاية، وفي “نورث ويسترن” بشيكاغو بشمالها.
لا أعرف هل تنوع محتويات هذا المركز هي التي تشد الانتباه: ففيها كتب الطب والحساب والتاريخ والجغرافيا فضلا عن علوم اللغة العربية والشريعة الإسلامية. أم أن الألوان الزاهية والخط الجميل من مشرقي ومغربي وأندلسي وصحراوي وسوداني هو ما يثير الناظر، أم أن الوثائق النادرة والمخطوطات الفريدة هي ما يشغل المتصفح؟
تفاجأت حين رأيت كثرة النصوص التاريخية الموريتانية والمغاربية بمكتبات تنبكتو وقد صورها الأمريكيون ورتبوها على أفلام الميكروفيم، وهم مستعدون -كما ذكروا لي- أن يحولوا محتواها من ميكروفيلمات يحتاج استغلالها لآلات خاصة إلى محتوى رقمي يسهل تصفحه وتصويره واستغلاله عن طريق الكومبيوتر، تماما كما فعلت جامعة توبنغين بألمانيا مع 2603 نصوص ما بين مخطوط ووثيقة موريتانية كان الألمان قد صوروها من مائة مكتبة موريتانية فحولوها منذ سنوات من ميكروفيلمات إلى محتوى رقمي متاح بشكل سلس على موقع إلكتروني، وبذلك سهل على الباحثين والطلاب تصفحه وتنزيل ما يريدون تنزيله منه، وكأنهم وهم أمام أجهزتهم قد زاروا مائة مكتبة موريتانية مترامية هنا وهناك على جميع ترابنا الوطني.
تضم مكتبات تنبكتو وخصوصا مخطوطات مركز أحمد بابا كانت قبل حرقها المؤلم الكثير من تاريخ موريتانيا: من ذلك كتاب النسب في تاريخ الزوايا والعرب لسيدي بن الزين بن أحمد جدو العلوي وهم أحد أبرز الوجوه الاجتماعية والسياسية في تكانت مع مطلع القرن العشرين. وقد ألف هذا الكتاب بطلب من الملازم “وليش” الذي كان حاكما في تجكجة قبل ان يتم تحويله إلى منطقة أزواد، فأخذ معه من بين ما أخذ ذلك التأليف وبقيت نسخته الوحيدة بتنبكتو. وكتاب النسب لسيدي بن الزين العلوي من أهم مصادر تاريخ منطقة تكانت الاجتماعي والسياسي.
ومن ذلك جناح خاص جمع فيه الفقيه والمؤرخ والتاجر أحمد بن أبي الأعراف الكثير من نوادر الكتب المخطوطة وغرائب الوثائق التي لا تقدر بثمن. كان ذلك التاجر من قبيلة تكنة، وقد رمت به الأقدار في تنبكتو قادما من واد نون وممثلا في الساحل لشبكات تجارية صحراوية، فلم تنسه تجارته أن يهتم بالتاريخ والأدب فنسخ بيده واستنسخ مئات الكتب التي كانت تعرف في مركز أحمد بابا بجناح أحمد بن أبي الأعراف. وبحريق محتويات هذا المركز ضاع جهد ذالك التاجر التكني الصحراوي مع الأسف.
ومما استوقفني في مركز أحمد باب بتنبكتو العديد من النصوص المتعلقة بتاريخ البلد مثل:
العديد من الرسائل في تاريخ ونسب بني حسان، وتاريخ قبيلة ادوعلي وشجرة أصلهم، ومكتوب في شأن إنشاء قرية أطار ومكتوب في ذكر تاريخ آدرار وشنجيط وغيرها.
ومن بين المراجع التاريخية المتميزة في هذا المركز: كتاب الترجمان لمحمد محمود بن الشيخ الأرواني. ومؤلفه هو القاضي محمد محمود بن الشيخ الأرواني رحمه الله وهو كتاب في تاريخ الصحراء والسودان وبلاد تنبكتو وشنقيط وأروان ونبذ من تاريخ الزمان في جميع البلدان. عمل قاضيا شرعيا في أروان ثم في تنبكتو من 1932 إلى 1959. وكان له نشاط سياسي وعلاقات واسعة مع شخصيات عربية وأفريقية وإسلامية. وله صداقات ومراسلات مع بعض الموريتانيين وخاصة المؤلف المختار بن حامد. وقد عارض انضمام أزواد إلى مالي وطالب بعدم فصلها عن محيطها التاريخي والاجتماعي العربي فسجن عقدا من الزمن في عهد الرئيس المالي السابق مؤدبو كيتا. وكان لبعض الموريتانيين تعاطف مع حركة القاضي محمد محمود بن الشيخ كيعقوب بن أبي مدين والحضرامي بن خطري رحمهما الله وغيرهما.
يبدو أن للغزاة ثأرا مع العالم المؤلف والفقيه الجليل أحمد بابا التنبكتي، ففي الماضي تم اقتياده اسيرا من طرف جيوش الملك المغربي أحمد المنصور الذهبي أبرز ملوك السعديين، وأخذته عنوة كتائب الباشا جؤذر مع أسرته إلى مراكش، وسقط من على ظهر بعير وانكسرت عظامه. لكن شأنه علا ونجمه صعد عناك في المغرب.. وها هو التاريخ يعيد نفسه فتأتي جحافل الجيش الفرنسي وقبلها كتائب الحركات الجهادية لتحطم الآثار وتحرق تراث هذا الرجل.
انتهى.
للاتصال بسيدي أحمد ولد الأمير:
ahmeds@aljazeera.net