فساد برتبة جنرال

كشف موقع “الأخبار” قبل أيام عن فضيحة مالية مدوّية في الجيش الموريتاني بطلها شاب غرّ في عقده الثالث أسرع به نسبُه وقرابته من الرئيس إلى الثراء الفاحش بالمتاجرة برواتب جنود الجيش الموريتاني.

ولقد وردت علي معلومات لافتة عن هذا الشاب تقول إنه قبل عامين أو ثلاثة كان “عائدا” في المغرب (يطلق هذا المصطلح على الصحراويين الذين يقررون العودة إلى المغرب من تيندوف ويحصلون على الجنسية المغربية وامتيازات أخرى باعتبارهم عائدين إلى بلادهم الأصلية)، وأنه ربط علاقة وطيدة بإطار موريتاني شهير سبقه إلى “العودة” بسنوات وعرفت عنه – أي الإطار – علاقته الوطيدة بالمخابرات المغربية.

ولا أشير بهذا القول إلى أن للمغرب علاقة بالفضيحة أو بكشفها وإنما نشرت معلومات وردتني عن تاريخ الشاب، وأنا لا أجزم أنها كاملة الدقة، ثم إن الفساد في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية هو الشيء الوحيد الذي تملك موريتانيا فيه اكتفاء ذاتيا ومشغلين محليين أكفاء، ونحن بالتأكيد في غنى – عند الحديث عنه – عن الاستعانة بمنطق المؤامرة الخارجية في التحليل والتفسير.

في تفاصيل الفضيحة أن الشاب المرتبط اجتماعيا برئيس الجمهورية كان يرِد على مكتب محاسب الجيش – المرتبط بسيدة مقرّبةٍ اجتماعيا من الرئيس – منذ عامين تقريبا ، وكان يدفع إليه هذا المحاسب بتوصية من “جهات عليا” لم يُقَلْ بعد ما هي – وحذف ما يعلم جائز – مبالغ هائلة من رواتب الجند يتاجر بها أول الشهر ويعيدها آخره، لكن الفتى اختفى في شهر فبراير بنصف مليار من الأوقية (نسبة 10% من ميزانية الدعم المؤسسي للجيش) وحينئذ لم يعد من الممكن بقاء الأمر طيّ الكتمان كما كان منذ ثمانية عشر شهرا.

حتى الآن لم تكشف تفاصيل الطرق التي كان يتاجر بها الثلاثة (الشاب والمحاسب والضابط الكبير) بأموال الجيش الموريتاني، إلا أن أساليب قذرة لجمع المال والإثراء والسيطرة والإسقاط تعرف باسم “شبيكو” تـرُوج في الوسط المالي والسياسي الموريتاني منذ فترة، وتقف وراءها مافيا من المخابرات والتجار الجشعين.

ويعتقد أن مال الجيش الذي كان الثلاثة يتقاسمون أرباحه كان يستثمر بهذه الأساليب.. وتقوم فكرة “شبيكو” على ما يعرف شعبيا بـ”المـثنـية”، التي هي ربا الفضل؛ إذ يدفع صاحب المال مبلغا يعود إليه بزيادة بعد أجل محدّد، والزيادة في “المثنية” غالبا هي الضعف.

أما شبيكو فإن العالق في شباكها – وغالبا ما يكون من علية القوم – يدفع عند استلام الملايين المُستدانة “شيكات” بالمبلغ الربوي موقعةً ومؤرخة بتاريخ حلول الأجل يسحبها المرابي آنذاك.

ويقال إن نائبا برلمانيا معروفا سبق أن سجن في مشكلة لها علاقات بـ”شكيات بلا رصيد” كان عالقا في شباك شبيكو، ويقولون إنها ربما استخدمت ضده لأنه كان قد بدأ ينتقد السلطات الحاكمة وحزب الاتحاد من أجل الجمهورية، لكنه في النهاية أخرس، وربما إلى الأبد.

إن انكشاف هذه الفضيحة يزيد الموريتانيين إيمانا مع إيمانهم بأن المؤسسة العسكرية وكر أصيل من أوكار الفساد المالي في هذه البلاد، ولقد كان – وما زال – لمن ألقى السمع وهو شهيد في حال الجنود وصغار الضباط ما يكفي من الأدلة على استشراء الفساد في قطاع الجيش؛ فبينما ينعم كبار الضباط بالمال الوفير والسكن الوثير ويتجولون في السيارات الفارهة ويتعالجون وأسرهم في أرقى المستشفيات العالمية لا يكاد الجندي في الجيش الموريتاني يحصل على ما يلقم به أفواه أطفاله الفاغرة بكاء ويشبع به بطونهم الضامرة جوعا.

شكا إلي جندي شاب حملته مرة في سيارتي من قارعة الطريق مُرّ الشكوى من حالهم وأذكر حينها أنه كان مرتاحا لرصاصة 13 أكتوبر التي قال إنه يراها انتقاما من الله للمظلومين من الجيش أمثاله، وقد قال لي بالحرف: هذا الرئيس لعبة في يد “النصارى” وليس هو الذي يحرك القطع العسكرية على الحدود بل إنه يفعل ذلك بتوجيهات مباشرة من “النصارى”.

ومما قال لي – وهو كثير مرير – أنهم أيام محاولة تحرير الرهائن الفرنسيين كانوا يرسَلون إلى أرض مقفرة شديدة الحر والبرد لمدد طويلة دون عتادٍ كاف ولا زادٍ واف، وتساءل حينها عن مصارف أموال الجيش الكثيرة وميزانياته الضخمة.

اليوم أجيب صديقي العسكري إجابة لا تخفى عليه بالتأكيد.. لقد ظهر بالدليل الفاضح أن مال الجيش ليس في أيدٍ أمينة وأن حراس الخزينة العسكرية هم سراقها، وظهر قبل ذلك أن مصالح الشبكة القبلية لـ”كبار” الضباط أقوى وأهم من مصالح الوطن، والأخطر والأفظع أن هذه الشبكة المافيوية قادرة على اختراق المؤسسة العسكرية والأمنية بيُسرٍ كما اخترقت الدولة ماليا وسياسيا وإداريا.. إنه فساد برتبة جنرال يا صديقي.

نقلا عن أسبوعية الأخبار إنفو

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى