الشيخ أعل الشيخ ولد أمم.. هيهات أن حدث الأولياء

رأيته أول مرة في الثمانينات، صليت خلفه في “دائرته”، لم أخاطبه ولم أتبين ملامحه، كنت صغيرا، كان يوم عيد فلبست كسوته، كانت المرة الوحيدة التي زرت فيها مدينة أطار، ثم تمر الأيام وأسافر في أرض الله الواسعة بعيدا عن الوطن، وذات مساء وبعد 15 سنة من تلك الصلاة وفي مدينة بالولايات المتحدة الأمريكية، أتاني خاطر قوي شديد الحرارة، لهفة وشوق عارمين للقائه، حتى راودتني نفسي بأنني لن أدركه حيا، تأسفت وطفقت ألوم نفسي على ما ضيعت من العمر بعيدا عنه، كان همي الكبير هو كيف سأعبر المحيط الأطلسي لو ظهر المهدي المنتظر في ذلك المساء.

في الصباح هدأت حرارة الخاطر ولكنه ظل يراودني لأكثر من سنتين، وفجأة قررت العودة إلى الوطن، كنت أسابق أشواقي لرؤيته والاستماع لحديثه، تمنيت لو وفقت لمجلس معه ولو لمرة واحدة، أطلعت ابن خالتي السيد إسحاق ولد حمين الذي يعرف “الدائرة” جيدا وتعرفه على أملي وشوقي ولهفتي، فأخذني – جزاه الله خيرا- على نفقته إلى أطار مباشرة وأدخلني للمثول في حضرة الشيخ أعل الشيخ ولد أمم.

كنا في طريقنا داخل الدائرة نتجاوز البقر، وكان يعتريني بعض الرهب من أن يسحقنا البقر، ودون سابق إنذار همس إسحاق “هذا أعل الشيخ”، كان أمامي رجل أسمر البشرة شديد بياض الشعر أقرب إلى النحافة يرتدي ثوبا أبيض وعمامة بيضاء، وقد فرغ لتوه من الوضوء، وربما كانت قدماه متشققتان قليلا، ، كان لوحده منفردا، لم يكن من الممكن ولا من المعقول أن أتعرف عليه مطلقا أو حتى أصدق أنه هو، اقتربنا منه واقترب معنا رجل ثالث فرأيت المهابة والجلال عليه، واستشعرت الجمال من منطقه ولمست الكمال في يديه.

منطقه الحلو العذب، فصاحته، بساطته، بلغ كل ذلك مني مبلغا عظيما، سلم ورحب وأثنى بل وأطرى على الجدود الصالحين وعلى الأهل والعشيرة، صليت معه وكان الوقت ظهرا، أكلت عنده، وشد انتباهي ذلك الأرز الذي قدم إلينا، بعد أطباق اللحم الكثيرة والكبيرة، الأرز الذي قيل لي أن فيه تربية وشفاء وتحقيق المآرب وصفاء وعلاجا. ” لو كانت الملائكة تأكل…”.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

تكررت بعد ذلك الدعوة من ابن خالتي وأخيه يعقوب، وذهبت معهم مرارا وعلى نفقتهم – جزاهم الله خيرا – وفي كل مرة كان الشيخ أعل الشيخ يستقبلنا بنفس الحفاوة والحرارة والكرم، وكنت في كل مرة أتعلم أكثر عن الشيخ وعن “دائرته”، كنت أستعد لكل لقاء معه بحيث أحافظ على الصلوات و أن لا آتي إثما – قد يزعجني إن زجر عنه – ولا أتوقف في الطريق ولا .. ولا .. قبل أن ألقاه وأودعه، كان الشوق والرهبة متساويين في الحرارة والقوة في كل مرة ألتقيه، لم أعد قط من زيارته إلا وقد كسيت بأبهى “دراعة” من عنده، وغالبا ما تتحسن ظروفي عموما بعد زيارته.

جئته مرة وقلت له إن في نفسي حاجة أريدها أن تقضى بإذن الله وإنها مركبة من مسألتين ولم أقل له أي شيء عن الحاجتين غير ذلك، فقال وهو ممسك بيدي “إنها ستتحقق وسآتيه وأقول له إنها تحققت”، كان قد حصل عندي من العلم بناء على مشاهداتي من إنفاقه وصلاحه وعبادته وتعلق العباد به والقصص الكثيرة عن استجابة دعوته وتواضعه ورحمته، ما جعلني أعتقد نيل مرادي مستحضرا الحديث القدسي “لو أقسم على الله لأبره”، ولم يكن دافعي أبدا الإنكار عليه أو إحراجه، كنت قد نويت في نفسي أن ييسر الله لي عملا طيبا عاجلا قبل نهاية العام، وأن ييسر لي في نفس العام أن أحج أنا وأمي، لم يكن تحديدي للمدة الزمنية نابعا من سوء ظن كما قد يعتقد القارئ لهذه السطور بل كان بكل بساطة إلحاحا في الطلب.

انقضى العام ولم تتحقق أي من المسألتين، وعزمت على أن أذهب إليه وأخبره بالأمر، التماسا لدعواته الصالحة وتجديدا للمسألة والعناية بها – عسى فرج يأتي به الله عاجلا – حال كوني ملهوفا وهو غوث الملهوفين بما عهد عنده ربه، وفعلا ذهبت إليه في المرة الأولى وعندما كنت وجها لوجه معه ختم الله على قلبي فلم أذكر له أي شيء وأخذ بقصتي وهزها ثم تركها، فعل ذلك ثلاثا، ولما غادرت ولاية آدرار ودخلت ولاية انشيري تذكرت أنني لم أذكر له أي شيء عن حاجتي فضحكت وعزمت أنني في المرة القادمة لن أنسى حاجتي و سأهيئ لذلك.

بعد عدة أشهر عدت إليه وعندما التقيته تذكرت حاجتي ولكن الله ختم على لساني فلم أنطق ببنت شفة، وبعد خروجي عنه قررت أن أمكث يوما آخر في أطار لأذكره بحاجتي، وفي ذلك المساء استدرجت إلى حفل قريب من أطار فيه موسيقى واختلاط فاستحيت أن أعود إليه في اليوم التالي، فذهبت إلى نواكشوط.

بعد فترة ذهبت مع جماعة إلى مدينة أطار في مهمة لهم، لم أرد حقيقة الذهاب إليه لأنني كنت أفضل دائما أن أخرج من بيتي متوجها إليه وليس لأمر آخر، ولا أريد أن يكون لقائي به هامشيا نظرا لقناعة أخرى مصدرها هدي النبي صل الله عليه وسلم “من كانت هجرته…”، وإنني أحسب الشيخ أعل الشيخ من ورثته ولا أزكي على الله أحدا، المهم أن الجماعة قررت زيارته فذهبت معهم وكان وفدا من 10 رجال على الأقل، وبعد الضيافة الكريمة، استقبلنا، وعند وداعه حاولت أن أكون آخر المودعين لأبث له ما في ضميري ولكن ثلاثة منهم فطنوا لغايتي فرفضوا إلا أن أتقدم عليهم، ربما لم يكن دافعهم حب الإطلاع على ما سأقول له، ولما وقفت أمامه ذكرته بحاجتي قائلا “إنني قد أتيتك وقلت لك إن لي حاجة، وقلت لي إنها ستقضى بإذن الله وأنني سآتي هنا وأخبرك بأنها قضيت، وها انا أتيتك لأخبرك بأنها لم تقض”، فرد علي قائلا “قبلت ورضيت، قبلت ورضيت، قبلت ورضيت”، كررها مرارا.

لم أقل ما قلته نكران عليه ولا تعجيزا له ولا عن نية سيئة، فقد طويت قلبي على خالص مودته ومحبته، ولكن تدللا عليه وتعرضا لمعروفه وكرمه، في نفس اليوم التقيت سيدا أعرف استقامته وعلمه وهو من أدرى الناس بالشيخ، فحدثته عن جهلي وتجاسري، فأسف كثيرا وشرح لي قول الشيخ “قبلت ورضيت” بأنه كان بيني وبينه عهد وأنني حللته منه، وأنه قبل ذلك ورضي به، فراجعت السيد في الأمر وشرحت له فهمي لكلمات الشيخ “قبلت ورضيت” بأنه عبد لا حول له ولا قوة وأنه ضمن لي غايتي على الله وأنه قبل قضاء الله ورضي به، وأنني ازددت حبا له واعتقادا فيه لأن التسليم بالقضاء والرضا به درجة لا يبلغها إلا أولياء الله الكمل.

الرجل الذي التقيته هو العالم العامل والعارف الرباني أحمد ولد محمد ولد حمين صاحب كتاب “الوصول والترسيخ بمناقب الشيخ اعل الشيخ..حادي الرجال إلى حضرة ذي الجلال”، وهو كتاب نفيس تحدث فيه عن هذا الشيخ الذي عرفه ولزمه لأكثر من عشرين عاما، وقد فصل في الكتاب مناقب الشيخ أعل الشيخ، ومناقب والده الشيخ محمد المامون (أمم)، ومناقب جده الشيخ محمد تقي الله، رحم الله الجميع ونفعنا ببركتهم، موضحا اجتماع الخصال الثلاثة فيهم المشروطة لتحقيق أستذة الشيخ وهي : دين الأنبياء وتدبير الأطباء وسياسة الملوك، لأنها أركان جميع المقامات والخلافة الحقيقية في الأرض وكل من جمعها وتحقق بها فهو الشيخ والأستاذ حقيقة.

وأقتبس من مقدمة كتاب “الوصول والترسيخ بمناقب الشيخ اعل الشيخ..حادي الرجال إلى حضرة ذي الجلال”:

(اعلم أن منصب الولاية لا يستحقه إلا من شرفت أحواله، وزكت أعماله وخلصت صفاته وصدقت أحواله، وقصرت آماله وقام بما عليه وترك ما له، ولا يتشوف إلى الكشوفات ولا يدعيها ولا يتعاطاها ولا يستدعيها، ولا يظهر من الخير ما ليس فيه، ولا يكتم من حاله ما الله مبديه، فإن المعاني لا تثبت بالدعاوى والآمال لا تنال بالتواني وإنما تحصل المعاني بالتقوى والصبر على البلوى، والتوكل على الله في السر والنجوى، فمن عز وارتقى فإنما ارتقى بالتقى وإلا هبط في مهاوى الشقا.

وأما من جهل الطريق وبرز بالعدول عن التحقيق وتقشف تقشف أهل التجديد بالحيل والتزويق، من غير صدق ولا تحقيق، فهو دجال عنيد وشيطان مريد مراده أن يوقع عقول العامة وضعاف الهمة في الحرج والضيق حتى يلقيهم من الضلالة في مكان سحيق، فهو الأسوء حالا والأخسر أعمالا وهو يحسب انه يحسن صنعا وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه وما يحمد عاجله وعقباه. آمين..آمين).

اللهم اغفر وارحم واسكن فسيح جناتك الشيخ اعل الشيخ ولد أمم، واخلف على عقبه في الصالحين، وجازيه عنا كل خير هو أهله، ولا تفتنا بعده وارحمنا إذا صرنا مثله، إنك ولي ذلك والقادر عليه. آمين .. آمين.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى