مقترحات غير منجزة في الكتابة والإبداع / رامي أبو شهاب

يظن معظم البشر بأنهم خاضعون أو يؤمنون بمبادئ معينة تتسم بطابعها الأخلاقي على الرغم من الاختلاف المرجعي المؤسس لهذه القيم والمبادئ، مع الادعاء طبعاً بامتلاك أكبر قدر من الإيمان بالقضايا التي يدافعون عنها.
غير أن الإنسان يبقى رهين النموذج المانوي المهيمن على أنساق التفكير حيث يتصارع الخير والشر، وبين هذين النهجين نحدد مسلكنا. ومع أن هذه التصورات ربما تواجه اتفاقاً أو اختلافاً من قبل الفلاسفة، ولا سيما من حيث الإجابة عن الأسئلة أو الإشكاليات التي تحيط بالإنسان، وتموضعه في هذا الكون المترامي الأطراف والمتغير، فالفلسفة تبقى نهجاً أو طريقاً للبحث عن الحكمة المنشودة؛ ولذلك فإنها تعدّ وسيلة نستطيع من خلالها التوصل لمعرفة ذواتنا، وإدراك حدودها بيد أن المنظور الفلسفي يبقى قاصراً من ناحية إدراك التمثيل، وتجسيد مشكلات الإنسان بواقعية، فضلاً عن افتقاده للقيم الجمالية، وتخليق الطاقة للإحساس بالحياة التي لا تمتثل حقيقة لنمط ثنائي؛ ولهذا يبرز المتخيل الأدبي الذي يأخذ على عاتقه إكمال مهمة الفلسفة، من خلال الدعوة إلى التعبير عن الحياة بكافة تعقيداتها، ولكن المشكلة تبرز حين يرتهن هذا الأدب إلى التقسيم الثنائي البنيوي القائم على الخير والشر أو الصواب والخطأ.
ذلك المنظور المانوي، الذي لا يخضع لمنطقية معينة، إنما لاجتهاد بشري، كون الإنسان يعتقد بأن ثمة فقط صوابا أو خطأ، وبأن نهجه الإنساني ينبثق من قيم أخلاقية معينة، تكفل له بناء مواقف محددة تجاه النزاعات والحروب، وكافة نماذج الصراع البشري القائمة.
هذه القضية على الرغم من عمقها في التكوين الثقافي السّائد، غير أنني أبحث عن تمظهرها في الفنون والآداب عامة، فأعظم الأعمال الإبداعية قيمة واستمرارية تلك التي لا تخضع لحديّة التوصيف بين الحق المطلق أو الشر المطلق، فثمة دوماً مساحات رمادية، ملتبسة، إذ لا يمكن أن نتوصل إلى حكم قطعي بأنها تنتمي إلى الأبيض أو الأسود، وهنا تكمن الحرفة الفنية في تشكيل العمل الأدبي، وعدم ادعاء أو تبني مقولة النهائية تجاه ما هو شائك في النماذج اليومية والحياتية، وأبرز نموذجه على سبيل المثال شخصية «راسكولنيكوف» في رواية «الجريمة والعقاب» لثيودور دويستوفسكي، أو شخصية «بوفاري» في رواية «مدام بوفاري» لفلوبير، وكما في سائر الشخصيات السردية التي نبقى على اتصال معها بعد الانتهاء من قراءة العمل، غير أن أسئلتها تبقى تتردد في الوجدان والذهن، وهذا ينتج لكونها لم تخضع لمنهج قطعي من حيث تصور العالم، ونتائجه النهائية، فهي ما زالت كامنة في الحيرة الأزلية.
تنظر بعض الثقافات إلى العالم من وجهة نظرها الخاصة، فالإيمان بحتمية الخير والشر، يخضع لمنهجية مرجعية تكمن أحياناً في الدين والتاريخ والعادات والتقاليد، كما الجغرافيا، ففي بعض الأعمال الأدبية تتبدى البيئة بوصفها عاملاً في تكريس المعنى الأدبي، كما تشير بعض الدراسات النقدية التي بدأت تتكئ مؤخراً على هذا الطرح النقدي من حيث أثر الطبيعة على توجيه تموضعنا في هذا العالم، فانتقل الصراع مع البيئة ليحل بديلاً عن الصراع الإنساني الإنساني، كما في فيلم أمريكي حيث تقوم الأشجار بالانتقام من البشر عبر فيروس تطلقه في الهواء يتسبب بقتل الإنسان نفسه. وبهذا فإن التخلص من الأحكام القطعية، والبحث عن إشكاليات فلسفية بديلة في تشكيل الإبداع، يبقى أكثر جاذبية، حيث يخرج بالعمل التشكيل الساذج القائم على أفعال التوصيف أو الكتابة في المنجز إلى عالم أرحب من القلق والحيرة، والإرجاء المستمر؛ ولهذا يلاحظ بأن الروايات أو الأعمال التي تبحث عن حقائق الأشياء تبقى معلقة، أو بلا مقولات نهائية، وهنا تتجلى القدرة على تأجيل الحكم، كما في رواية « الخيميائي» لباولو كويلو، أو رواية «سدهارتا» لهرمان هسه، ومن قبلها أعمال شكسبير السّاعية إلى توصيف فلسفة الحياة بوصفها عالما غامضاً، مقدراً لنا أن نختبره، وأي محاولة للاستسلام إلى قدر معرفي أو حقيقة مطلقة فلن يكون سوى سراب.
وفي السينما العالمية ثمة قدر هائل من مقاربة هذا الموضوع عبر العديد من الأعمال السينمائية التي تعدّ من روائع السينما الأمريكية، فإذا ما تأملنا في فيلم «سبعة» من بطولة مورغان فريمان وبراد بيت فإننا سنجد أن الاتكاء على نظرية اللايقين تجاه القيم الأخلاقية، والموقف الإنساني المتصلب من القيم غير حقيقي، فالادعاء بوجود عالم الخير المطلق ما هو إلا محض وهم زائف. هذا الفيلم الذي يتكئ على حبكة بوليسية حول سلسلة من الجرائم التي يرتكبها مجرم يعاني من مرض نفسي من وجهة نظر البعض، غير أنه من وجهة نظر أخرى يعدّ رجلاً حكيماً، يقوم بتطبيق العدالة، فكل ضحية يقوم بقتلها تعاقب على خطيئة ارتكبتها كالشهوة، والشره، والكسل… وهي الخطايا السبع في الكوميديا الإلهية لدانتي، هذا المجرم – يلعب دوره الفنان كيفين سبيسي – إذ أراد أن يكشف بالبرهان القاطع أن كافة الادعاءات حول منطق ما يحكم الأشياء في هذا العالم غير متوفر، وأن منطق الخير والشر نسبي، بل إنه يحتكم إلى التحول في أي لحظة، بل ثمة إيمان بأن هذا العالم يحتاج إلى الهدم والإصلاح حيث يجعل من الحدث الأخير في الفيلم تجسيداً فعلياً لخطيئتي الحسد والغضب، وهما الخطيئتان السادسة والسابعة حيث يقوم بقطع رأس زوجة المحقق المكلف بالبحث في هذه الجرائم المتسلسلة (الحسد) ليسارع الأخير في مشهد قوي ومؤثر للانتقام نتيجة سيطرة الغضب، على الرغم من تحذيرات زميله «مورغان فريمان»، وهكذا تجسد الخطيئة السابعة من قبل الرجل الذي سخر في مشهد سابق في الفيلم من فلسفة المجرم، ومسوغاته لارتكاب هذه الجرائم التي وصفها بأنها لاإنسانية، وبهذا فقد انتصر منطق المختل نفسيا ليثبت للمحقق بأن الإنسان، وأي إنسان يحتكم في داخله لهذه النوازع، وبأن العقل والمنطق أبعد ما يكون عن الإنسان.
وفي فيلم آخر من سلسلة أفلام الرجل الوطواط «فارس الظلام» نعثر على النهج عينه في تفسير المعنى غير الجلي أو المنجز لحقيقة الخير المطلق، والمبادئ العليا حين يتحول الرجل أو «المدعي العام» الذي راهنت عليه مدينة «غوثام» لتخليصها من عالم الجريمة إلى مجرم وقاتل، إذ تتحكم به نزعة الانتقام لمقتل عشيقته، وهكذا فقد أراد «المجرم المهرج» أن يثبت بذكاء أن عالم المثل، أو المثالية ليس لها وجود، بل إن من حارب الجريمة، أضحى مجرماً وقاتلاً.. لا يفكر سوى بالانتقام، ولو بقتل طفل بريء، وبهذا فقد اضطر الرجل الوطواط إلى تحمل مسؤولية هذه الجرائم، كي لا يفقد الناس إيمانهم بهذا الرجل، بل كي لا يفقد الناس إيمانهم بأن الخير ما زال قائماً، وبأن ثمة أشخاصا في هذا العالم ما زالوا يؤمنون بالقيم المطلقة، على الرغم من أنها حقيقة نسبية، أو متغيرة.
هذان العملان السينمائيان جسدا قدرة الفن على الولوج إلى مستويات نفتقر إلى معالجتها في الأعمال الإبداعية التي تبقى على حدود التعلق بالتاريخ والزمن، والمكان والشخصية، والقضايا الكبرى ومنها الوطن، التي تبقى حقاً مشروعاً ما لم تعالج في إطار عميق الصلة بما هو إنساني، وإلا فإنها سرعان من تتلاشى من ذاكرة الفنون والآداب، فخلود الفن ينتج من القدرة على تجاوز السياقات الضيقة، والطروحات السطحية التي تبتعد عن إدراك المستويات العميقة للكون والنفس البشرية، وتقاطعاتها مع أكثر من مستوى، فلا جرم أن معظم الأعمال العظيمة كرست نفسها للبحث في المناطق غير المنجزة في الوعي البشري، ومنها الموت، والانتقام والمغفرة والغيرة والرغبة والبيئة والحب.. فلكل نفس غرورها، كما تمركز الأنا مهما ادعت غير ذلك، فكل إنسان حين يتعرض للألم تراوده خطيئة الانتقام التي تعدّ إشكالية سيكولوجية اشتغلت عليها الثقافة الغربية كي تتخلص من ارتدادات ماضيها الاستعماري العنصري الدموي، ولهذا لجأت إلى تطوير هذا المنحى الجديد في التفكير، فالمعنى المتمركز على التسامح والمغفرة يعد تياراً من تيارات البحث الفلسفي والثقافي في الثقافة الغربية التي عانت من الاقتتال والحروب التي استطاعت القضاء على مئات الملايين من البشر. لا شك أن ملزمين بالقول بأن الثقافة الغربية استطاعت أن تصل إلى نضج داخلي في تكريس نموذج فلسفية ثقافي، ينهض على تربية قيم التسامح والمغفرة، فالتطلع للمستقبل يجب أن يحكمه هذا النهج، والحياة لا يمكن أن تستقيم مع النظرة الماضوية التي تعني التراجع إلى الخلف، وهذا ينسحب على التعاطي مع ثيمة الموت، وغضب الطبيعة والقدر والقمع والغرور وتقدير الروح الفردية والحرية وغير ذلك. وهكذا نستنتج أن الكتابة والفن والإبداع عامة لن يكون قائماً إذا كنا نعتقد بأننا استطعنا فهم منطق الإنسان الذي يبقى دائم التحول، فالحياة تتخذ كل يوم تشكيلاً آخر، وبهذا تبقى المعاني والأحكام كما المبادئ والقيم في حالة إرجاء مستمر.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى