البحث العلمي سلاح ذو حدين لكنه خير من العقل الخرافي
عرف المسلمون عبر العالم ما بين أوائل القرن التاسع وأواخر القرن الرابع عشر للميلاد طفرة علمية ونهضة فكرية واقتصادية واجتماعية ملحوظة، بوأتهم مكانة الصدارة بين الأمم، وذلك نتيجة لمقاربة الاستقراء وممارسة الترجمة والعمل على توسيع دائرة المعارف وتبني العقلانية والحس النقدي ومراعاة المنطق.
تلك المقاربة التي انتهجوها وتمسكوا بها دون تردد، أفضت إلى نبوغ علماء مسلمين أفذاذ في مختلف مجالات المعرفة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
– جابر ابن حيان في الكيميا
– محمد بن موسى الخوارزمي في الرياضيات
– أبو علي الحسن بن الهيثم في البصريات
– عباس ابن فرناس في علم الجاذبية والطيران
– علاء الدين ابن النفيس وأبو علي ابن سينا و أبو بكر الرازي و غيرهم في الطب
– وابن رشد الحفيد و ابن طفيل و أبو الـعلاء المعري وسواهم في الفلسفة .
– وعبد الرحمان أبن خلدون في علم الاجتماع و التاريخ.
وقد شكل هؤلاء العلماء المتمكنون المرجعية التي اعتمدت عليها أوروبا ثم بقية العالم من بعدها، ليس فقط لتطوير وبلورة وتوسيع المعارف والعلوم الحديثة، بل و لانتهاج العقلانية ومراعاة الحس النقدي والنسبية والشك العلمي، إضافة إلى الابتعاد عن اليقينية المفرطة والتزمت الأعمى، ما مهد الأرضية الصالحة للنهضة الأوروبية، ابتداء من القرن الخامس عشر وهيأ المناخ الملائم لقيام عصر الأنوار خلال القرن الثامن عشر، ثم انطلاق الثورات الزراعية و الصناعية التي عقبته وصولا إلى ثورة المعلوماتية وما استتبعته من تفجر المعارف في كل مناحي الحياة و الرامية إلى استكناه الكون وتطويعه و تملكه.
كل هذا نتيجة لبحث علمي محموم يرمي كما أشرنا إلى استسبار واستبطان كل ظواهر الكون لتسخيرها لأغراض الأمم المتنفذة، الساعية إلى الريادة و الهيمنة.
والواقع أن البحث العلمي يشكل سلاحا ذا حدين، حيث أنه يتضمن جوانب إيجابية بناءة تفيد البشرية وتحسن من ظروفها المعيشية وتحول بينها وبين الكثير من الأوبئة الفتاكة والكوارث الطبيعية المدمرة، لكنه بالمقابل قد يقود إلى ممارسات ضارة ويفضي إلى مسلكيات سيئة ولا أخلاقية.
ولا ريب أن البحث العلمي يشكل نشاطا مفيدا وذا نفع عميم عندما ينصب على تحسين الصحة لجهة القضاء على الأمراض المزمنة ورفع مستوى إمكانيات التشخيص و تعزيز تقنيات الجراحة وخاصة الجراحة عن بعد بواسطة الروبوتات، و عندما يرمي إلى تفعيل و سائل التواصل والاتصال، وعندما يعمل على تطوير الذكاء الاصطناعي وتوظيفه للمراقبة الأمنية وتوفير الخدمات الأساسية، و عندما ينصب على استسبار الفضاء لتتبع و مراقبة حركات النيازك والمذنبات الكويكبات السابحة في الفضاء و التي يحتمل ارتطامها على نحو كارثي بالكرة الأرضية، وذلك سعيا إلى اتخاذ التدابير اللازمة لتفادي هذا النوع من الكوارث التي سبق أن تسببت في انقراض الديناصورات منذ ستين مليون سنة خلت.
و لا مراء في أن ما يكتسيه البحث العلمي من أهمية بالغة عندما يهتم بالمناخ والوسط البيئي، لتفادي الفيضانات المدمرة والجفاف والمجاعات عن طريق إنزال الأمطار الاصطناعية وتحديد إحداثيات المياه الجوفية عبر الأقمار الاصطناعية.
كما أن الثورة الجينية بما تشمله من تعديل واستنساخ للخلايا الحيوانية والنباتية لها فوائد كبيرة ما لم يسأ استخدامها وما لم تضرب عرض الحائط بالقيم والأخلاق.
أما جانب البحث العلمي الذي يعنى بالحقل العسكري، فإنه فعلا سلاح ذو حدين، إذ أنه يوفر خدمات عسكرية بالغة الدقة والفعالية، قد تنجم عنها أضرار فادحة إما مقصودة أم جانبية.
من بين هذه الخدمات: الاستطلاعات الإستخباراتية عن طريق الأقمار الاصطناعية و كذا الطائرات بدون طيار والصواريخ البالستية والقنابل الذكية ومختلف وسائل الدمار الشامل.
و الشيء المريع في هذا المضمار هو أن الاكتشافات والاختراعات في المجالات العسكرية التي يفضي إليها البحث العلمي في ظل التطورات التكنولوجية المذهلة هي في ازدياد و تنوع وتعقيد و خطورة تفوق ما يمكن تخيله.
وقد يكون من الصعوبة بمكان أن يتصور المرء ما قد يكون لها من نتائج و تداعيات على استقرار أمن وسلامة سكان المعمور.
وآية ذلك ما تضمنته وثيقة سرية حصل عليها الموقع الأميركي “موك روك” بمحض الصدفة، ضمن آلاف الوثائق التي تم الإفراج عنها في إطار قانون حرية المعلومات، والتي كان من الممكن أن لا تظهر على الإطلاق، لكنها ظهرت بالخطأ من بين الوثائق المفرج عنها كما ذكرنا، والتي قام بتسريبها مركز ” فيوجين” الأميركي المكلف بمهام الأمن الداخلي و مكافحة الإرهاب.
تتحدث هذه الوثيقة عن تطوير الولايات المتحدة لسلاح سري يمكنه التحكم في عقول البشر ويسيطر على عقول الأشخاص عن بعد.
و أعطى المركز للوثيقة عنوان ” تأثيرات سلاح جسم الإنسان”، و هذا السلاح عبارة عن سلاح (عقلي – الكتروني) يستخدم الكهرومغناطيسية لقراءة العقول أو زراعة أفكار معينة في العقول، أو التسبب في إيجاد مشاعر بعينها يحس بها الإنسان مثل الألم الشديد والشوق لحاجة معينة أو التلهف لأمر ما أو الكره والتقزز من شيء ما.
ويمكن لذلك السلاح – حسب الوثيقة – أن يؤدي إلى طمس ذاكرة معينة بصورة قسرية أو التلاعب بها بإدخال أحداث ووقائع خاطئة فيها.
و يتيح هكذا سلاح قراءة الأفكار و العبث بها و حتى السيطرة على الكلمات التي يتفوه بها الشخص المستهدف بحيث ينطق كلمات معينة بدلا من الكلمات التي كان يود أن يقولها.
وترسم الوثيقة خريطة بعمل دماغ الإنسان المستهدف من خلال استخدام موجات أطلق عليها اسم موجات التحفيز الدماغية.
وتستخدم في هذا السلاح حسب الوثيقة ، شبكات الهواتف المحمولة و الهواتف الذكية لتشغيل تلك الموجات و التي يمكنها كما أسلفنا أن تتحكم بصورة قسرية في أي شخص معين أو أية مجموعة بشرية بعينها، و يمكن تشغيل ذلك السلاح وفق ما ادعته الوثيقة من الهواء عن طريق مروحية.”
وأوضح السيد كورتيس وولتمان الذي أعد التقرير عن الوثيقة أنها لا تحمل شعارا تابعا لحكومة الولايا ت المتحدة الأمريكية، و أنها تبدو في الظاهر كوثيقة غير رسمية، لكن مجرد و جودها لدى المركز المنوه عنه يعد دليلا على عمل الحكومة الأمريكية على إنتاج مثل هذه الأسلحة المرعبة على حد قول كاتب التقرير.
هذا السلاح المخيف قد يبدو أقرب إلى الخيال العلمي منه إلى الواقع، لكن التجربة قد أثبتت و تثبت باضطراد أن المسافة الفاصلة بين الخيال العلمي والواقع في تقلص مستمر، و أن ما هو خيال علمي اليوم قد يصبح واقعا قائما غدا.
فمن كان يتصور قبل اليوم إمكانية تشغيل حاسوب من خلال النظر إليه و الإيعاز إليه ذهنيا بالبدء في العمل؟
و من كان يتصور قبل اليوم أن يكون بإمكان شخص أن يقوم بإطفاء أنوار منزله الموجود في مدينة سيدني باستراليا و هو موجود بشيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق التحكم عن بعد؟ و من كان يظن قبل الآن أنه سيكون بالإمكان إجراء عملية جراحية على بعد آلاف الكيلومترات ؟
الحقيقة أن التطور التكنولوجي و التعمق في البحث العلمي من شأنهما أن يجعلا كل شيء ممكنا و قابلا للتحقيق.
والذي يحز في النفس هو أنه في الوقت الذي قطعت فيه البشرية أشواطا شاسعة على طريق القدم و الارتقاء وفي الوقت الذي تتم فيه الاكتشافات و الابتكارات و الإبداعات المتلاحقة في كل المجالات والحقول المعرفية، ما زلنا نحن أمة “اقرأ ” نراوح مكاننا، نلوك خطابا ماضويا و نسترشد بآراء رجال متشبعين بالفكر الخرافي، يشككون في كروية الأرض و يكفرون من يدعو إلى تحرير عقل الأمة من الفكر الثييوقراطي المتحجر والمتخاصم مع التطور و الحداثة و الارتقاء.
وإنه لمن المحزن حقا أن يقوم أشخاص يوصفون بالعلماء رغم أنه ليس لجلهم إلا إلمام ضئيل بالعلوم الدقيقة والمعارف العصرية كالرياضيات والكيمياء والفيزياء والفلك و البيولوجيا والجغرافيا وعلم الاجتماع، أن يقوموا بامتطاء المنابر عبر الفضائيات لرفع عقيرتهم بالقول: بأن شر الأمور محدثاتها وأن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة و أن كل ضلالة في النار…إلخ إلخ
وإن من غريب المفارقات أنه في الوقت الذي تتنافس فيه الأمم الواعية على تثبيت أسس العقلانية وتوطين العلوم الدقيقة وتبيأة التقانة والرقمنة وتنفق بغير حساب على البحث العلمي في كل أبعاده وتجلياته، ما زال العديد من المتشبثين بالعقل الخرافي في أمتنا ينفقون وقتا طويلا وجهدا كبيرا في بث رسائل، تتضمن أذكارا و تعويذات وابتهالات على أوسع نطاق، سعيا – على حد زعمهم – إلى الحصول على قصور في الجنة، فيها حور عين بهجة للناظرين.
و ما تحتاجه أمتنا اليوم هم رجال مؤمنون متمسكون بالتعاليم الصحيحة لدينهم الحنيف ومسلحون بالعلوم والمعارف العصرية والتقنيات الحديثة، فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف والمسلم العارف الراقي خير من المسلم الجاهل المتخلف.