“قصيدة الميزابية” / الشيخ محمد المام بن البخاري رحمه الله

وقد بين بنفسه سبب تسميته لها بهذا الإسم فى شرحه للفقرة الأولى من ترجمته لها، وقد لخص فيها فن الجدل من علم الأصول بطريقة لم يسبق إليها، وقسمها إلى عنصرين ترجم لهما بفقرتين، شرح أولاهما مباشرة بشرح مثل شرح الفقرة الثانية فى وسط القصيدة فقال :

(القصيدة الميزابية فى مصاب ظواهر الظنون الميزانية)

فى الفقرة الأولى من هذه الترجمة شرح وضع مثل شرح الفقرة الأخرى، واختصار الشرح الأول أن فى سبب تسميتها بالميزابية ثلاثة أوجه : الوجه الأول لفظة الميزاب فى بيت منها كالهمدية وكسورة الهدهد أي تسمى القصيدة أو السورة بلفظ غريب منها.
الوجه الثاني تفاؤلا بميزاب الرحمة وتلميحا له بواسطة الوجه الأول، وميزاب الرحمة أحد ميازيب البيت كانوا يتعرضون له فى المطر فيصب عليهم تبركا بمائه.
الوجه الثالث أنها نفحة من الله صبت كما يصب الميزاب بنزول المطر، وفى ذلك تلميح إلى نقل ابن عطية الأندلسي عن ابن عباس قوله تعالى (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) قال: ماء وهو الحكمة، فسالت أودية بقدرها وهي القلوب، وفى الحكمة اثنى عشر معنى أصحها الثاني عشر وهو الإصابة على أنه لا بد من تأويل لفظه فى بعض محتملاته : فأهل الظاهر يستعملونه فى ثلاثة أشياء كقولهم أجيرت الحكمة على ألسنة العرب وأيدي أهل الصين وقلوب اليونان، فالأولان ظاهران والثالث هو الجمل التي تتعلق بها مصالح الدنيا والأخرى كما يقال حكم القرآن، وحكم الحديث، وحكم الشعر، وحكم الحكماء التي منها الكلمات الثلاث اللائى اشترى كسرى انوشروان أبو بودان بثلاثة قناطر وهي: لا خير فى الناس، ولا بد منهم، وألبسهم على حذر.
ومن هذا النمط قول المتنبي – إن كان هو القائل: أنا وأبو تمام حكيمان، و إنما الشاعر البحتري. وأما أهل الباطن فالحكمة عندهم أنواع بسبب تنوع فنونهم : فأهل الحقيقة وهم الأولياء الحكمة عندهم نور القلب وهي التي يقولون فيها: الحكمة تهوى من السماء إلىالأرض كل يوم ولا تدخل أربعة قلوب : قلب فيه حب الدنيا، وقلب في حب الشر وقلب فيه خديعة مسلم وقلب ممتلئ بطنه طعاما.
وبقى من الحكمة الباطنية الإسلامية أنواع منها أسرار الحروف ومنها الجداول ومنها الهندسة ومنها التربيع وعلم الخواص التي لا تدخل تحت حصر، وتتفرع هذه إلى نوعين ففي حق من خرج من قلبه الكفر بالكلية تكون كرامة وفى حق من خرج الإيمان من قلبه بالكلية تكون سحرا، وكأن الوسط لا حظ له فيها والله أعلم. ومن الحكمة الظاهرية المتقدمة الحكمة المشتملة عليها أفعال الله تعالى وأحكامه أخفاها الله تعالى فى التعبديات وأظهرها فى غالب الأحكام لغير أهل الظاهر من الأصوليين وهي التي يقول فيها بعض المعتزلة أفعال الله لا تخلو من حكمة وجوبا، ويقول فيها بعضهم أحكام الله تعلل فضلا لا وجوبا وذلك لأن العلة لا بد من اشتمالها على حكم ولا يخلو حكم الله ولا فعله من الحكمة التي اقتضاها اسمه الحكيم، ولا وصف بالغرض فاحتجنا إلى الفرق بين الحكمة والغرض فالحكمة ما يرجع على غير فاعله بمصلحة ، والمصلحة جلب المنفعة ودفع المفسدة كما فى الحكم الأصولية.
وأما قوله تعالى (ولد آتينا لقمان الحكمة) فالظاهر فيها أنها من الحكمة الظاهرة كمروره بالناس وهو يعلم ابنه الحكمة وقوله كل في بيته صبي. وأما قوله تعالى (ومن يوت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) فإن كان خيرا مالا كقوله تعالى (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) ولعلها علم الكيمياء الذي منه الكبريت الأحمر الذي منه وسادة تبع فى قبره. قولي وفى ذلك تلميح إلى نقل ابن عطية وفيه أيضا إشارة إلى شيء وقع لي قبل تأليفي فى الأصول وبعد زيارتي للعالم الرباني (شكرض) نفعنا الله ببركته وبركة اسمه، وهو أني كنت مهتما بالأصول همة مهزولة كهمتي بسائر الفنون فحصل لي إذ ذاك همة به فاجتمع عندي أحد عشر من كتب الأصول وحثتني نفسي أن أؤلف كتابا فى الأصول أعزو فيه إلى جميع هؤلاء فأتاني خاطر قوي نسيت حرارته وبرودته فقال فما فائدة تأليف فى فن لا يعزو مؤلفه إلا إلى أحد عشر كتابا كل واحد منها حين ألفه صاحبه معه فى خزانة السلطان فى ذلك الفن ما بين المائتين والألفين؟ وما عسى أن يبلغ هذا التأليف وإن تطاول من أقدام هؤلاء ؟ فاشتغل بغير ذلك ليلا يضيع بعض عمرك باطلا وهو رأس المال …
فتحريت فأتاني خاطر آخر نحوه وقال: ألف فى الأصول وأعز إلى مائتين أو أكثر من كتب المدن غير هؤلاء. فقلت كيف لي بذلك؟ فقال انظر عزو هؤلاء إليها واجعلها واسطة فإنها مشحونة من اسمائهم والعزو إليهم. ففعلت ذلك بعد الإستخارة، فسخر الله لي كثيرا من التآليف فى الأصول منه الميزاببية.
انتهي المراد من الشرح الأول للفقرة الأولى من الترجمة.

جادل بحق ليس يبرح ذابها

حقا كهو وباطلا قد شابها

براعة استهلال لأن نصفها الأول فى جدل أهل المذاهب بينهم فى الفقه، ونصفها الأخير فى جدل الأئمة الأربعة والأربعين فى القرآن والحديث والإجماع والقياس.

وبباطل يبني عليه مجادل

غرفا يجيد بكفه إخرابها

ما ضر أن كان القطاة مجادل

فى جو مشكلة وكنت عقابها

إجماع الأمة فى الجدال مسلم

تبنى عليه ذهابها وإيابها

هذا الإجماع ذكره عضد الدين البكري فى شرحه لإبن الحاجب الأصلي فى باب الاجتهاد لا فى باب القوادح الذي هو باب الجدل من الأصول كلها، وعليه بنيت الميزابية الثانية التي أولها:
(وإذا أردت الطعن فاعرف وجهه * واصحب لكل ثنية جوابها)

وبه الشريعة لو مست فى إبطها

فرأى المقلد أربعا انيابها

فيكون تقليدا بسيطا فائقا

رتب المركب خيلها وركابها

أي رتب التقليد المركب، وهو المركب من تقليدين: تقليدك للإمام مالكا مثلا وتقليدك للناس فى تفضيله على غيره.

ويتيمة ابن الحاجب احتجبت به

وبه الفتى البكري فض حجابها

أي مختصره الكبير الأصلي لأنه عديم النظير ولا يختص ذلك فى كلام العرب بيتيمة العقد، أي احتجبت يتيمة ابن الحاجب بالجدل فصار ذلك سببا للجهل بها لأنها مشحونة بالجدل فصعبت على شراحها، لأنه لا يشق غباره فى الجدل ومن ألم بكتابه يقتل اليقين بذلك و يستقر أمنه على الجدل حتى يمكن وضعه وضعا ثانيا فى هذه البلاد العاطلة منه، وإنما قلنا هذا إرشادا إليه لأن علم الجدل آلة لعلم الأصول كما أن علم الأصول آلة لعلم الفقه وألفنا فبه عدة منها الميزابية وخاتمة الجذل فى علم الجدل نثرا.

إذ كان من حلي الجدال جدارها

فأباح من فتح الجدار قبابها

وإذا الظواهر عارضتك فلا تكن

غرض الأسنة تتخذك نهابها

وامنع تضافرها بصولة قلب

تحمي الحقائق واغتنم أسلابها

واصبر لها ذا نية وبصيرة

إن كنت تحسن فى الوغى تلعابها

حملات مورد كل هول مصدر

طعم المناهل ملحها وعذابها

حملات بدل من تلعابها بدل كل من بعض المشهور منعه ومنه: (كأني غداة البين يوم تحملوا * لدى سمرات الحي ناقف حنظل) فتلعاب الأسنة أبدل منه حملات

إن سد منه فى المضايق منخر

جاشت له أخرى تفيض سحابها

على أرض تحريم التبصر جنبه

ناب كما هجر الأسر ظرابها

بعير أسر: فى كركرته دبرة كما فى القاموس، وفى ظرابها ضمير استخدام لأن الأرض الأولى مستعارة والضمير للحقيقة، وفى هذا البيت تلميح لقول الشاعر:
(فإن جنبي عن الفراش لناب * كتجافى الأسر فوق الظراب).

واعرف طبائع كل لفظ وارد

كي لا تدافع فى الحريق شهابها

أي الظواهر الثمانية الآتية فى القصيدة وفيه اقتباس من التسريح والطب.

فكذلك الأدوات من لم يدرها

بان على موج الأتي ترابها

وادفع بإجمال وتأويل لها

من بعد جهلك طعنها وضرابها

“باب المجمل”

أجمل بلفظ والتصرف لاحق

شرك وتركيب وضد شابها

فالقرء مشترك بين الطهر والحيض عند الحنفية لقول النبي صلى الله عليه وسلم (دعي الصلاة أيام أقرائك) والدليل على اشتراك المعنيين فى ذلك اختلاف الصحابة فى ذلك وهم أهل اللغة فهذا هو مثال مشترك اللفظ لا الاشتراك فى الموضع.
وضده تفصيل المرطب كحديث أنه صلى الله عليه وسلم مسح على رأسه وعلى العمامة يحتمل أنه وضوء واحد ويحتمل فى وضوءين.

كالقرء مع ضر وفضل قلادة

فى البيع مهما تستبح إكسابها

أي حتى يكون للذهب فضل على ذهب القلادة او حتى يفصل ذهب القلادة عن خرزها وأول الحديث: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ابتعت قلادة فيها ذهب وخرز بذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا بل حتى يفصل) وهذا مثال اللاحق.

وكعفو ذي عقد وتمر منبذ

مسح العمامة فافتحن أكوابها
06-21.jpg07-21.jpg03-29.jpg

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى