فيتامينات للذاكرة

في واحدة من أولى جلسات مجلس الوزراء المصري التي عقدت بعد هزيمة يونيو 1967، قال جمال عبد الناصر للوزراء إن “الواقع الذي تعيشه مصر يقتضي المصارحة من أجل معالجة الأخطاء”، وطلب من الجميع أن يتحدثوا بمنتهى الصراحة عما يرونه من أخطاء وسلبيات، بشرط أن لا يتسرب أي كلام يدور داخل اجتماعات المجلس إلى الخارج. فوجئ الكثير من الوزراء بكلامه المختلف والمبشر، وبدأ بعضهم يحضر نفسه للحديث، ليأخذ حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة زمام المبادرة، ويبدأ في الحديث بانفعال عن الأخطاء التي تم ارتكابها قبل “النكسة”، وعلى رأسها رفع الشعارات العديدة دون تنفيذها، وهو ما أدى في رأيه إلى أن يفقد الشعب الثقة في قياداته، مضيفاً “أن الطريقة التي حكمت بها أجهزة الأمن والرقابة كالمخابرات والمباحث العسكرية أزالت البقية الباقية من ثقة الشعب في قياداته، وقد كنا جميعاً نعرف حكم هذه الأجهزة ونستنكر تلك الشعارات ولكن من دون جدوى”.

في مذكراته التي صدرت بعنوان (أوراق سياسية) يروي سيد مرعي الوزير في العهد الناصري ورئيس مجلس الشعب في العهد الساداتي والذي ارتبط اسمه بشعار “سيد مرعي يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه”، أن الوزراء فوجئوا بأسلوب حسين الشافعي في الحديث، خصوصاً أنه اختار كلمات ومفردات حادة، لكنهم شعروا أن السماح بكلام مثل هذا يعني أن هناك رغبة فعلية في المصارحة، لكنهم سرعان ما فوجئوا بأن الضيق ظهر على الفور على وجه عبد الناصر، حين تحدث الشافعي بحدة عن الأجهزة الأمنية، لدرجة “أن صوت تنفسه يوشك أن يكون مسموعاً، وبذل مجهوداً من أجل التظاهر بالهدوء وضبط أعصابه” طبقاً لتوصيف سيد مرعي.

بعد أن انتهى الشافعي من كلامه، أخذ عبد الناصر الكلمة وقال وهو يحاول ضبط انفعالاته: “الأخ حسين الشافعي يثير هذا الكلام هنا للمرة الأولى والسؤال لماذا لم يوجه هذا النقد قبل ذلك وإذا كان يعرف كل هذا قبل النكسة فلماذا لم ينبه إليه، وإذا كان لغيره عذر في صعوبة إبلاغي بوجهة نظره فما عذره هو علما بأني كنت دائما أسمح لأي منكم بالاتصال بي في كل وقت وكل منكم يستطيع دائما إبلاغي بما يريد، وكان في استطاعة الأخ حسين أن يقول لي ما يشاء وفي الوقت الذي يشاء وبالطريقة التي يشاء، وكل هذا قبل أن تحدث الكارثة فعلا، ولكن هذا لم يحدث، بدلا من ذلك فإني لا أذكر أبدا أن الأخ حسين الشافعي قد طلب مني أي شيء قبل النكسة أو تحدث معي بشأن أي قضية سوى مرتين اثنتين إحداهما كانت وساطة من جانبه لرفع الحراسة عن أحد الأشخاص والثانية كانت لحل مشكلة تتعلق بأحد أقربائه ولم يحدث في أي مرة أن أثار الأخ حسين الشافعي أي شيء مما يشكو منه الآن، وهو الأمر الذي يريد أن يلقي بمسئوليته على غيره، وإذا كانت تلك هي الصورة كما يراها حسين الشافعي، وإذا لم يكن يشارك قبل النكسة فيما يجري ويوافق عليه فلماذا استمر في الحكم”.

ساد صمت رهيب في القاعة، وتغير لون وجه حسين الشافعي تماماً، خاصة أنه لم يتوقع أن يكون لكلماته هذا التأثير على جمال عبد الناصر الذي طالب الجميع بالمصارحة، وهو طلب لم يطل عمره كثيراً، خصوصاً أن حسين الشافعي حاول على الفور التخفيف من حدة أسلوبه وقال إنه لم يكن يقصد التملص من المسئولية، مضيفاً أنه “شخصياً روحي فداء جمال عبد الناصر”، لينتهي اجتماع مجلس الوزراء، وقد حمد الكثيرون من حضوره الله لأنهم لم يتطوعوا بتلبية طلب عبد الناصر بالمصارحة.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

حكى سيد مرعي لصديقه الحميم محمد حسنين هيكل ما دار في الجلسة، وقال له إن عبد الناصر ربما يكون قد قسا أكثر من اللازم على حسين الشافعي، الذي كانت كلماته “ربما جافة في مظهرها ولكن منطقه مقبول في جوهره”، فقال له هيكل ـ الذي صدر كتاب سيد مرعي في حياته وحياة حسين الشافعي ولم ينف أحدهما ما نشره ـ إنه يختلف مع سيد مرعي في الرأي، لأنه لا يعرف أن لهذا الموضوع جذوراً، وأن حديث حسين الشافعي لم يكن تلقائياً كما بدا في مجلس الوزراء، ووضع الموضوع في سياق أوسع حين قال إن هناك اتجاهاً يمثله بعض رفاق عبد الناصر في استخدام النكسة للتشفي منه شخصياً، “وإذا كنت تتصور أن الرئيس هو الذي كان قاسياً في كلماته فإنني أؤكد لك العكس”.

كان سيد مرعي لا يزال متضايقاً مما حدث في مجلس الوزراء، ولذلك قال لهيكل إنه لو كان مكان حسين الشافعي لكان انسحب من الجلسة مباشرة، فضحك هيكل وقال له إنه من الخير أن هذا لم يحدث، ثم قال له إن ما لا يعرفه أن حسين الشافعي حاول بعد جلسة مجلس الوزراء أن يعتذر لجمال عبد الناصر عما قاله، وأنه من يومها طلب مقابلة عبد الناصر أكثر من مرة، ولم يقابله عبد الناصر، لكن هيكل أضاف أن الموضوع سينتهي على خير، وأن الجو ستتم تصفيته بين عبد الناصر وحسين الشافعي في النهاية، وهو ما استبعده سيد مرعي، لكنه فوجئ في الجلسة التالية لمجلس الوزراء بكلام هيكل وهو يتحقق، حيث دخل عبد الناصر قاعة الاجتماع ومعه حسين الشافعي يداً بيد، ليلحس الشافعي كلامه، ويضرب عبد الناصر مثلاً للجميع بأن المصالحة مثل الصبر، لها حدود وخطوط حمراء، وإن كانت تطورات الواقع وتصاعد الغضب الشعبي خصوصاً بعد صدور أحكام الطيران واندلاع مظاهرات الطلبة، قد أجبرت عبد الناصر على رفع سقف المصارحة خلال اجتماعات اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي، لكنه حرص على أن تكون تلك الاجتماعات سرية، بحيث لم تنشر محاضرها إلا بعد أربعين عاماً، وكل عام وأنتم بخير.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى