حول مشروع القانون التوجيهي الجديد.. / المصطف ولد حمادي

لعل أول ما يلاحظه المتتبع لمختلف الإصلاحات التربوية/اللغوية التي عرفتها منظومتنا التعلمية منذ إصلاح 1959، مرورا بإصلاحات 1964/1966/1967، وكذا أيضا إصلاح1973 ومحاولة الاستقلال الثقافي.. وإصلاح 1979/ 1984ورحلة الاهتمام باللغات الوطنية، وانتهاء بإصلاح 1999 الحالي والذي كان يكرس “الإزدواجية الموضوعية/ اللغوية”.. إن المتتبع لكل هذه الاصلاحات وسياقاتها يلحظ بوضوح أن اهتمامها كان منصبا بالأساس على المسألة اللغوية.. ولم تستطع أيضا جميعها أن تنتهج أو تتفق على سياسة لغوية موحدة: إذ ظلت في تأرجح دائم بين خطوة نحو التعريب ثم رجوع إلى الفرنسة.
ويأتي مشروع القانوني التوجيهي الجديد الحالي بعد 23 سنة من تطبيق الإصلاح الأخير( القانون رقم 012/1999)، فإلى أي حد استطاع أن يستوعب السياسات اللغوية السابقة؟
إن مساءلة القانون التوجيهي الجديد، تفرض مقارنته بالإصلاحات التي سبقته، وإلى مدى استطاع الاستفادة منها. وذلك ما سنعرج عليه أولا، قبل  أن نعرض رؤية المشروع الجديد للمسألة اللغوية.
أولا: القانون التوجيهي في ضوء السياسات اللغوية السابقة
لعل أو ما يلفت الانتباه في مشروع القانون التوجيهي الجديد هو إعادة الاهتمام باللغات الوطنية من جديد، والتوجه الحييّ نحو تعريب التعليم. وقد بدأ الاهتمام عموما باللغات الوطنية أول الأمر في إصلاح 1979،  وذلك بموجب مداولة اللجنة العسكرية للخلاص الوطني(CMSN) رقم 0040/79 بتاريخ 18/10/1979،وهو اهتمام يبدو أنه قد سعى إلى محاولة التوفيق بين مطالب دعاة التعريب ودعاة الإبقاء على اللغة الفرنسية، وذلك من خلال انفتاحه على اللغات الوطنية الأخرى ومحاولة الاعتناء بها وتطويرها لتدخل المشهد السياسي بذلك والنقاش اللغوي المثار. وتمت ترجمة هذا الاهتمام وذلك المسعى في  المرتكزات الخمس التالية:
1-    تعريب السنة الأولى بكاملها كرباط مشترك لسائر القوميات.
2-    يوجه الأطفال الناطقون بالعربية في دراستهم إلى العربية وجوبا.
3-    الأطفال الناطقون بغير العربية يخيرون بين الدراسة بالعربية أو الفرنسية.
4-    فتح فصول تجريبية لتعليم اللغات الوطنية(السوننكية- الولفية-البولارية).
5-    إقرار كتابة وترسيم اللغات الوطنية، وكتابتها بالحرف اللاتينين. وإنشاء معهد خاص لهذا الغرض.
واعتبر الإصلاح الفترة ما بين 1979 و1985 فترة انتقالية، تبقى فيها اللغة الفرنسية لغة تعليم “لأبناء اللغات الإفريقية”، إلى أن تكتمل البرامج التربوية بها لتتحول بذلك اللغة الفرنسية إلى لغة انفتاح لا تدرس إلا في المرحلة الثانوية، ويقتصر تدريس اللغات الإفريقية في هذه الفترة على الفصول التجريبية.
وقد جاء إصلاح 1986 أيضا في نفس السياق وبدأ من حيث انتهى صِنوه السابق، فكان امتدادا له من حيث اهتمامه باللغات الوطنية والاستمرارية في الفصول التجريبية الذي دخلت عامها الخامس مع بدايته 1986. وأوضح بأنها تجربة “مرضية”، ويقرأُ أصحبها ويكتبون دون “صعوبة”.
وفي نفس السياق السابق أوصت اللجنة باستمرار إدماج اللغات الوطنية في التعليم، ومحاولة خدمتها وإثرائها، وهو ما يتم من خلال القنوات التالية:
1-     مواصلة التجريب الذي سبق الشروع فيه(الأقسام التجريبية)
2-     إدخال اللغات الوطنية إلى مختلف ميادين التعليم والتكوين المهني
3-     الإغناء المتبادل بين هذه اللغات من جهة، وبينها وبين اللغة العربية من جهة أخرى
أما عن اللغات الأجنبية فقد كان الإصلاح ينظر إليها على أنها لغات انفتاح،  والأهمية التي ينبغي أن تمنح لها تختلف بحسب دورها الجغرافي السياسي، وحجم التعاون الثنائي مع الناطقين بها. وذكر في صدارتها: الانجليزية والفرنسية والألمانية والصينية والاسبانية والروسية واليابانية..الخ.. وحسب مقتضياته لا تدرس اللغة الفرنسية إلا في السنة السابعة من التعليم الأساسي، فحينئذ تدخل المنظومة التعليمية، وتدرس كلغة أجنبية.
وكان التوجه العام طبقا لمقتضيات هذا الاصلاح، يقتضى أن تدرس السنتين الأوليين باللغة الأم وحدها، على أن يبدأ تدريس لغة وطنية ثانية ابتداء من السنة الثالثة، كالعربية مثلا بالنسبة لمن لغاتهم الوطنية هي البولارية والسوننكية والولفية، أو إحدى هذه اللغات بالنسبة لمن كانت العربية هي لغتهم الأم، ويكون ذلك حسب اختيار الآباء..
إلا أن رياحا جديدة جرت بغير ما تشتهي السفن، فعصفت بالإصلاح بعد 20 سنة تقريبا من العمل به، وسيق العديد من المبررات لذلك، من قبيل مثلا أنه خلق جيلين متناقضين لا يفكران بنفس الطريقة ولا بنفس اللغة.. وهي في الحقيقة مبررا غير علمية وغير واقعية. كما يؤكد ذلك العديد من خبراء التربية والأساتذة  الذين عايشوا هذه التجربة التي تم وأدها. على الرغم مما قيل عن فشل مشروع كتابة اللغات الوطنية، وهو ما يطرح تساؤلات جدية لمشروع القانون التوجيهي الجديد.
ثانيا: رؤية مشروع القانون التوجيهي للمسألة اللغوية
تحدث مشروع القانون التوجيهي الجديد عن السياسة اللغوية في المادتين 65، و66. فبالنسبة لتعليم اللغات الوطنية نصت المادة 65 على  ما يلي:
“لضمان الولوج الأسهل والأكثر فعالية وإنصافا، سيتم تدريس كل طفل موريتاني بلغته الأم، مع مراعات السياقات المحلية والمحافظة على متطلبات اللحمة الاجتماعية.
يجري التعليم باللغة العربية في جميع مراحل التعليم والتكوين، سواء في مؤسسات التعليم العمومي أو في مؤسسات التعليم الخاصة.
على مستوى التعليم الابتدائي، يدرس كل طفل موريتاني المواد العلمية بلغته الأم مع مراعات السياقات المحلية والمحافظة على متطلبات اللحمة الاجتماعية.
وعلى كل طفل موريتاني ناطق بالعربية كلغة أن يتعلم على الأقل إحدى اللغات الوطنية الثلاث الأخرى(البولارية، والسوننكية، والولفية). وينبع اختيار هذه اللغة من السياق الإجتماعي والديمغرافي والجهوي.
ويتم تعليم اللغة العربية لجميع الأطفال غير الناطقين بها بوصفها لغة تواصل ولغة تدريس.
وستحدد إجراءات تطبيق هذه المادة بالطرق التنظيمية في إطار السياسة اللغوية الوطنية”.
أما عن تعليم اللغات الأجنبية فنصت المادة 66 على مايلي:
“يتم تعليم اللغة الفرنسية ابتداء من السنة الثانية الأساسية بصفها لغة تواصل ومن منظور إمكانية اتخاذها لغة تدريس لبعض المواد في المراحل التعليمية ما بعد السلك الابتدائي.
وتدرس الإنجليزية ابتداء من السنة الأولى من التعليم ما بعد الابتدائي.
ويمكن إدخال لغات أجنبية أخرى بصورة اختيارية ابتداء من  السنة الثانية من التعليم ما بعد الابتدائي.
ويتم اختيار هذه اللغات بحسب السياق شبه الإقليمي والدولي ومتطلبات التنمية الاقتصادية للبلد.
وستحدد بالطرق التنظيمية إجراءات تطبيق هذه المادة”.
لخص القانون التوجيهي رؤيته للسياسة اللغوية في المادتين المذكورتين أعلاه. مع إحالته إلى إجراءات تنظيمية تحدد طرق وآليات تطبيق المادتين المذكورتين. وفي انتظار ذلك، وما ستبديه الجمعية الوطنية في نشاقها لمسودة المشروع، يمكن إبداء الملاحظات التالية:
1-    لم يكن مشروع القانون التوجيهي حاسما في مسألة التعريب، إلا حينما تعلق الأمر بالتعليم الابتدائي، والذي يدرس فيه كل طفل موريتاني بلغته الأم. أما حينما تعلق الأمر بالتعليم الإعدادي أو الثانوي، فإن اللغة الفرنسية يظل “بالإمكان اتخاذها كلغة تدريس لبعض المواد”؛ مما يعني الرجوع إلى النظام السابق.. ومما يؤكد هذا التوجه ما ذهب إليه مشروع  في ملحقه بقوله: “سيتعزز تدريس الفرنسية بوصها لغة تواصل ومن منظور إمكانية اتخاذها لغة تدريس لبعض المواد العلمية في المراحل التعليمية ما بعد الابتدائية. ومن شأن اللجوء إلى ترجمة المصلحات واعتماد استراتيجيات تحويل المكتسبات من لغة إلى أخرى أن يسهل هذا الانتقال”. وذلك تبريرا للانتقال من التعريب إلى الفرنسة.
إن المادة 66 المتعلقة بتدريس اللغات الأجنبية لم تلزم بتدريس الفرنسية في مراحل ما بعد التعليم الابتدائي، بل أشارت إلى الإمكانية فقط، إلا أن ملحق مشروع القانون التوجيهي تفهم  منه الإلزامية والعودة إلى النظام القديم. وهو استثناء ليس له في الحقيقة ما يبرره. فقد كان حريا – ولا زال بالإمكان ذلك – أن نستأنس بالتجربة المغربية المجاورة لنا، والتي أفضت إلى تعريب التعليم في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية تعريبا كاملا.. ولم تقع السماء على الأرض..
2-    أما الملاحظة الثانية والأخيرة فتتعلق بإدماج اللغات الوطنية في المنظومة التعليمية. وهو توجه من شأنه أن يعزز اللحمة المجتمعية بلا شك. إلا أننا نتمنى أن تسخر لهذه العملية الجهود اللازمة لإنجاحها وأن تكون الوزارة الوصية قد أعدت لها العدة واقتنعت بإمكانيتها.. خصوصا وأنها تجربة مكررة كما أشرنا إلى ذلك في بداية حديثنا، إذ تم العمل بها ما يقارب 20 ثم ألغيت لأسباب متباينة.
وعلى العموم فإن مشروع القانون التوجيهي الجديد في حاجة ماسة إلى المراجعة وإعادة الصياغة، حتى تكون مفاهيمه دقيقة وإشاراته واضحة. كما يجدر بجمعيتنا الوطنية أيضا أن تكون حاسمة في مراجعة مسألة تعريب التعليم، فما من جدوائية تدكر في تعريب التعليم في مراحله الابتدائية.. ثم فرنسته مباشرة في المراحل الموالية. إن السياسة اللغوية تتطلب الثبات والاستمرارية والوطنية:

إذا هبتْ رياحك فاغتنمها ** فعقبى كل خافقة سكونُ

 

المصطف ولد حمادي
دكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية
جامعة محمد الخامس بالرباط
 

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى