موريتانيا : رئـاسـيات 2007 الجريـمة الكـاملة

  • جميع الأنظار اليوم متجهة إلى موريتانيا، فقد أنجزت في عامين ما تتطلع الشعوب إليه منذ قرون.
  • الناس منبهرون بما جرى في بلادنا، يتسابق الصحفيون والمراقبون للتعبير عن غبطتهم بهذه الانتخابات الشفافة والنزيهة بالاتفاق.
  • هل كانت هذه الانتخابات شفافة ؟ نعم. هل كانت نزيهة ؟ لا.

كانت كذبة كبيرة، كانت كذبة حمراء تقطر، لو قسمت على جميع البلدان العربية لغمرتها بنعيم الحرية، والديمقراطية، والتناوب السلمي على السلطة.

كانت جريمة من أرقى أنواع الإجرام، من النوع الذي يسميه الأخصائيون “الجريمة الكاملة” crime parfait.

القاتل رتب جريمته بإحكام، غسل يديه من الجريمة ولفق التهمة على الضحية.

  • 1 – طريقة جديدة للبقاء

في اليوم الأول، تم حل البرلمان والإبقاء على الحكومة والبلديات، ثم جيء برئيس جديد للحكومة، مأخوذ من قلب النظام السابق، وشكل حكومة جديدة لا تختلف كثيرا عن سابقاتها.
قرروا التغيير لكن في ظل الاستقرار.

طلب الولاة والحكام من الشعب أن يقوم بمسيرات تأييد ومساندة، قالوا إنها للتصدير للخارج، وكان عذرا معقولا إلى حد ما.

ثم تم الإفراج عن السجناء، وتوالت القرارات الجميلة كحرية الصحافة، وزيادة الأجور، والأيام التشاورية، ومراجعة الدستور، وتقليص الفترة الانتقالية..

بدأت الدكتاتوريات العربية تشمئز من الحالة الموريتانية، فوجدوا الحل في التقليل من شأنها، وبدؤوا يروجون لأفكار تقول بأن موريتانيا دولة فقيرة، وهامشية، وليست لها أية أهمية في العالم، وأولى بها أن تهتم بمكافحة الفقر، والأمية، وبالصحة والتعليم قبل تطبيق نظام حكم ديمقراطي لا تستحقه في نظرهم إلا الأمم المتقدمة.

لكن المشروع الموريتاني حظي بإجلال وتقدير الشعوب العربية المحرومة، فكثرت الردود على هيكل والقذافي في أوساط الإعلام العربي.

قادة الرأي في البلدان العربية يحتاجون إلى نموذج ناجح للتناوب السلمي على السلطة، ومثال يحتذى، فوجدوه في المشروع الموريتاني.

والحقيقة أن الحالة الموريتانية لا تختلف في مضمونها عن باقي البلدان العربية، بل على العكس، يمكن للأنظمة الديكتاتورية وأنظمة الفساد أن تتعلم من موريتانيا طريقة جديدة للبقاء.
فالنظام الموريتاني لم يتغير، لكنه حسن من هندامه قليلا، وحصل بذلك على الشرعية القانونية.

لم يتنازل النظام في موريتانيا عن أي شيء. رفضوا مساءلة رموز الفساد بحجة المصالحة الوطنية. ورفضوا إعادة النظر في العلاقة مع الكيان الصهيوني بحجة المصلحة العليا للبلد. رفضوا الترخيص لحزب سياسي للجماعة الإسلامية بنفس المبرر الذي كنا نسمعه عند من سبقوهم، ألا وهو أن الإسلام للجميع ولا يجوز احتكاره. رفضوا النظر في حقوق الزنوج -مبعدين وأرامل- بحجة الفترة الانتقالية. رفضوا أيضا إعادة النظر في مسألة توزيع الثروة بعدالة، فقد تعزز في عهدهم نظام الفساد، وتركزت الثروات الكبيرة، وتوزعت توزيعا جديدا بين أقارب وأعوان الرئيس القديم وأقارب وأعوان الرئيس الجديد.

قال أحمد ولد داداه، في أول تصريح له بعد إعلان النتائج التي فاز فيها خصمه، في الشوط الثاني من رئاسيات مارس 2007 بنسبة 52.85%، قال إنه هنأ الرئيس الجديد بروح رياضية، وإنه يعرف أن الشعب الموريتاني شعب ذكي.

قال لي أحد الأصدقاء – ممن يوصفون بالنباهة – إِن “الذكي” هنا تعني عند أحمد ولد داداه أن الناس غير مغفلين، ويعرفون حقيقة ما جرى، لكنهم يقبلون به واقعا أفضل، أقرب إلى التصالح من التصادم. فقد اتبع احمد ولد داداه سياسة المهادنة مع جميع أعضاء المجلس العسكري، طيلة الفترة الانتقالية. يأخذ كل ما يعطونه، ولا يطالب بالبقية.

الناس لا يجهلون أن أصحاب النفوذ في المجلس العسكري أتوا بالرئيس المنتخب وأعطوه المال، واستخدموا الضغط على الموظفين السامين لإنجاحه، لكن بطريقة أكثر مدنية ولباقة فحسب، مما عهدنا في جميع العهود السابقة.

فلو قالها أحمد ولد داداه في ذلك الظرف بالذات، ما قبلت منه. فقد فات الأوان. لا يريد أن يقول للناس “لقد مت يوم مات الثور الأبيض”. وعرف أيضا أن معادلة الشرعية قد حسمت بالأرقام.
فبقدر ما تزداد نسبة الرئيس المدعوم من قبل النظام، تنقص مشروعيته لدى الشعب. فالرئيس الحاصل على نسبة 99% أقل مشروعية بكثير من الرئيس الحاصل على 51% فقط.
لكن الحصول على نسبة 51% أصعب بكثير من الحصول على 99%، بما في ذلك من المجازفة والمخاطرة.

الدرس الأول من التجربة الموريتانية هو أن النسبة الأفضل هي نسبة 53%، يحصل بها مرشح النظام على قدر كبير من الشرعية دون أن يقع في مخاطرة احتمال نجاح خصمه، الفارق ليس ثلاثة بل ستة في المئة، بينهما. ويكون الخصم مرتاحا لتحقيق نتيجة جيدة تحفظ ماء الوجه، ويحسن السكوت عليها. لم ينقصه عن النجاح سوى ثلاثة في المئة فقط.

  • 2 – عاقبة الاستبداد

تعتمد الأنظمة الاستثنائية في العالم العربي على ثلاثة مرتكزات من أجل البقاء في الحكم : إعلام، وجهاز أمن، ومافيا للفساد.

يقوم الإعلام بحملة واسعة ومستمرة لتأليه القائد، وجعله ربا يعبد. صور مكبرة للقائد في جميع المكاتب والمحلات العمومية، خطابات وتدشينات القائد في جميع الإذاعات، والتلفزيونات، والصحف اليومية. لا طفل يتفوق في الامتحان إلا بفضل التوجيهات النيرة للسيد الرئيس. ولا حبة قمح تزرع إلا تطبيقا للتوجيهات السامية للسيد الرئيس.

المرتكز الثاني هو جهاز أمن: جيش ودرك وشرطة ومخابرات.. لا تهم قدرتها على الدفاع عن الوطن، المهم هو القدرة على القمع والترهيب. والسلطة القضائية بالطبع، تابعة لهذا الجهاز الذي صار أكثر شراسة بعد تراجع الحريات أمام الحرب التي تقودها أمريكا على الدين، بحجة مكافحة الإرهاب.

أما مافيا الفساد، فهم أصحاب المصالح الكبرى في الدولة. يترك لهم القائد المال العام: مخصصات الصحة، والتعليم، وبناء شبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي، والرواتب، مقابل حمايته وبقائه في السلطة.

يصرف هؤلاء جزءا من ثروتهم لتمويل الحملات الانتخابية.

لكن سرعان ما ينقلب نظام الأمن على القائد، ويكون خطرا عليه. فعندما يعجز الجندي، والشرطي، والدركي، عن تلبية حاجة أبنائه في الصحة، والتعليم، والتغذية، والسكن، يهتز النظام.

وعندما يشعر النظام بالخطر يتوجه إلى الخارج، إلى الدول العظمى يلتمس الحماية، فيبيع الموارد، ويبيع الاستقلال الوطني مقابل هذه الحماية. فتأتي العلاقات مع إسرائيل، والتنديد بحزب الله، وحماس، والجهاد الإسلامي، والاعتراف بمجالس الحكم في العراق، وترسيم اللغات الأجنبية، وتفتح دور للدعارة..

ما حصل في موريتانيا هو أن نظام الأمن انقلب على نظام الفساد، وإن كان جزءا منه.
فشل انقلاب الثامن يونيو 2003 لأنه انقلاب من خارج النظام. ونجح انقلاب الثالث من أغسطس 2005 لأنه من داخل هذا النظام.

فهم القادة الجدد أن هذه المرتكزات الثلاثة لم تعد قادرة على إبقاء أي أحد في السلطة، لهشاشتها. فجربوا التناوب السلمي على السلطة، لضمان الاستقرار.

لكنهم صنعوا شيئا جميلا.

  • 3 – الثور الأبيض

بعد مسيرات التأييد والمساندة المنظمة تحت إشراف الإدارة وقيادات الجيش، فهمنا أن حياد الإدارة حياد من نوع آخر. وتأكد ذلك خلال حملة التصويت بـِ نعم على التعديلات الدستورية.
شجعوا المواطنين على نقل الناخبين إلى المكاتب القبلية في الداخل، وجعلوا مسألة التعديلات الطفيفة على الدستور، مسألة حياة أو موت. لكنهم قالوا أيضا إنهم حياديون في كل شيء إلا مسألة التصويت بـ نعم.

كان ذلك ظلما وحيفا في حق المصوتين بـ لا ، لكنهم قلة وتم تجاهلهم. الثور الأبيض. ثم انتهزوا فرصة الإجماع هذه على التعديلات الدستورية لتصفية الحساب مع جزء من أنصار الرئيس المخلوع حيث تم اعتقال عدد من أقاربه بتهمة التخطيط لعمل تخريبي ضد الدستور. وتم إطلاق سراحهم بعد ذلك دون محاكمة.

زعموا أن القضاء أصبح مستقلا، لكن التعثر في توضيح التهم الموجهة إلى الإسلاميين السجناء، والإفراج عن المعتقلين في قضايا مصيرية كبرى دون محاكمة، حطمت مصداقية هذا الادعاء، خاصة في قضية وودسايد.

قدموا لنا وزير النفط السابق على أنه أكبر مجرم في التاريخ الحديث للبلاد، وحرضوا الشارع عليه، واختلقوا بذلك أزمة مع الشركة المستغلة، وراجت شائعات حول الأخطار المدمرة على البيئة.

قرأت حوالي ألف صفحة عن الموضوع : تقارير وتحاليل ما بين هجوم شرس ودفاع مستميت، في هذه القضية. تشكلت لدي قناعة، هي أن السيد الوزير – رغم جميع سوابقه- بريء من التهم المنسوبة إليه، براءة الذئب من دم يوسف، لكنه مستهدف من قبل النظام، فهو الضحية السهلة لبلوغ هدفين. الأول، تصفية الحساب مع منافس قديم قوي، وإبعاده عن اللعبة. والثاني هو ابتزاز الشركة المستغلة للحصول منها على تنازلات مادية بحتة.

فحسمت القضية بإطلاق سراح الوزير “المجرم والخائن” دون محاكمة، واستلام مبلغ مائة مليون دولار من الشركة.

ثم انتهز القادة الجدد هذه القضية لتغطية عمليات سطو لإعادة توزيع الثروة البترولية توزيعا جديدا، من أعوان وأقارب الرئيس القديم إلى أعوان وأقارب الرئيس الجديد. فقد تحصل بعضهم على عمولات وتراخيص للتنقيب في عدة قطاعات من البحر تدر عليهم أموالا طائلة.

  • 4 – الآلة

كنا نظن أن الحزب الجمهوري سوف ينهار مباشرة بعد إبعاد قائده.

كنا نتوقع انهيارا مدويا، مثل انهيار الجيش الموالي لإسرائيل في جنوب لبنان بعد الانسحاب.
لكن هذا الحزب حافظ على قدر كبير من التماسك رغم الضربات الموجعة. أظهر قدرة على امتصاص الضربات فاقت جميع التقديرات.

ظن القادة العسكريون أنهم قادرون على تحطيمه تماما. وأنه قد حان الوقت للإجهاز عليه بالضربة القاضية، فابتكروا مسألة الترشيح المستقل، والضغوط المباشرة والعلنية على رؤساء المجموعات القبلية وعلى رموز الفساد.

كانت فعلا ضربة قاضية، لكنها كانت قاضية على البقية الباقية من حياد المجلس العسكري وأعوانه في الحكومة.

تضرر الحزب الجمهوري من هذه الضربة أضرارا جسيمة، كما تضررت قوى المعارضة القديمة، تلك التي تسمي نفسها قوى التغيير.

فهم العسكريون أنهم كانوا يحاربون حليفهم الاستراتيجي، فقرروا تبنيه وتدجينه وترويضه وإدماجه في مشروعهم.

فحقيقة هذا الحزب أنه مجرد آلة. جهاز قديم يستخدمه جميع كلاب حراسة الأنظمة للبقاء في دائرة السلطة.

كان يسمى حزب الشعب في عهد ولد داداه، والهياكل في عهد ولد هيدالة، والحزب الجمهوري في عهد ولد الطايع، والميثاق في عهد ولد محمد فال.

أصحاب هذا الحزب يتحكمون في القرى والأرياف، لديهم شبكاتهم التي يستخدمها الحكام لتوزيع المعونات الغذائية، ورقابة المدارس، وتسوية النزاعات على نقاط الماء.

لديهم الطبول والخيام، وتجربة في التصفيق والولاء ضاربة في أعماق التاريخ، متدربون على احتلال الصفوف الأمامية عند استقبال الرئيس، وعلى رص الصفوف أمامه، المنكب بالمنكب والساق بالساق، حتى لا تبقى للشيطان فرجة.

كانوا هنا أيام التصويت بنعم على بقاء الاستعمار الفرنسي.

هذه الآلية هي التي تم استخدامها اليوم لإنجاح مرشح النظام، مع أغلبية محترمة في البرلمان.

  • 5 – خاتمة الإبداع

كانت كذبة كبيرة، لكنها كانت كذبة جميلة.

رغم تجاوزات المرحلة الانتقالية، فإن هؤلاء القادة حققوا لنا الكثير. بنوا لنا مجدا منيعا بين الأمم. هكذا يصنع التاريخ.

ابتكروا طريقة جديدة للتغيير. وافقوا على جميع الضمانات التي طلبت منهم، ثم التزموا بها، حرموا على أنفسهم الترشح لأي منصب انتخابي، وفوا بالوعود، فتحوا جميع الأبواب، وحطموا الأصنام..

قطعوا الطريق في الخارج على الذين يزايدون بملفات حقوق الإنسان، وقطعوا الطريق في الداخل على الذين يزايدون على مسألة العبودية، وعلى خطر الحرب الأهلية.

تبددت في عهدهم جميع المخاوف من أي خطر في البلاد على الوحدة الوطنية.
أسسوا أرضية للتصالح والإجماع.

تركوا لنا نظاما جيدا للانتخابات، وحرية للصحافة.

سيد أحمد ولد مولود

برجيمات، 30 مارس 2007

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى