الإسلاميون في مواجهة النيران

عادي جدا، ومشروع قطعا أن يتعرض تيار سياسي في خضم التدافع بين المشاريع والأفكار للانتقاد من الخصوم والمنافسين والأنصار والأتباع حتى، لكن ما هو ملفت ويحتاج إلى تفسير أن يتعرض هذا التيار لوابل من النيران من أكثر من جهة وعلى أكثر من جبهة إلى الحد الذى يبدو فيه كما لو أن البلد لم يعد له من مشكلات إلا وجود هذا التيار أعني بكل تأكيد التيار الإسلامي الواقع منذ أسابيع تحت وابل من النيران المركزة اعتقد أن من الضروري التوقف بشيئ من التحليل مع مصادرها لمعرفة خلفيات مطلقيها وأفضل السبل لمواجهتها أو الاستفادة منها من يدري…؟


و قبل الشروع في تعقب مصادر النيران هذه احتاج إشارة سريعة إلى أنه لم يكن بودي العودة إلى المقالات السجالية التي هجرتها منذ بعض الوقت قناعة بكونها تستنزف جهدا الأولى توجيهه للبحث عن حل لإشكالات موريتانيا الكثيرة، لكن ” كثافة النيران وعدوانية بعضها ” جعلاني أراجع موقفي السابق وأعود لأمارس حقي وأقوم بواجبي في الدفاع عن مشروع خالط شغاف قلبي منذ سنوات طويلة، ولم تزدني الأيام إلا قناعة أنه الحل والأمل والمستقبل.

خريطة النيران

يخال الناظر من بعيد لغبار المعارك الإعلامية المحتدمة ضد التيار الإسلامي منذ أشهر أنها من مصدر واحد لكن من يقترب من ساحة الاشتباك يكتشف أنها معارك عديدة تقوم بها جهات مختلفة تتباين مرجعياتها الإيديولوجية، وتتمايز مواقعها السياسية، وقد لاتتقاطع بالضرورة مصالحها المادية والسياسية، دعونا نقترب أكثر لنعرف من يطلق النار، ولأي سبب ..؟؟

– كتائب الجنرال

أول المجموعات الممسكة بالزناد هي المجموعات الاستخباراتية المرتبطة بالجنرال محمد ولد عبدالعزيز، وقد تحركت هذه المجموعات بمجرد أن قرر الإسلاميون بناء على تقويم ذاتي الإنتقال إلى صفوف المعارضة الراديكالية الساعية بكل ما أوتيت من خبرة نضالية لتحرير موريتانيا من نظام ” الجنرال التائه “.

تستخدم هذه المجموعة كل ما يقع تحت سيطرتها من وسائل بما فيه كتاب دفعتهم ظروف معقدة للسير في جوقة الجنرال، وتشتغل بكامل طاقتها، فسيدها يشعر بحنق كبير على تيار كان يتمنى لو ظل في معارضة هادئة، لاتحرج بقربها ولاتخيف ببعدها كما كان ينظر أحد أفراد الكتيبة البرلمانية قبل سنتين ، لكن ما لم يعرفه القناص البرلماني وجنراله غير المشهور بقدراته الاستراتيجية أو القتالية أن الإستمرار في ذلك الحال غير ممكن تماما كاستمرار الجنرال اليوم في حكم لايملك أيا من مقوماته الأساسية.

لقد أمضى الإسلاميون سنة تزيد في معارضة هادئة تعطي الفرصة لحزمة الشعارات الخلابة التي رفع الجنرال في إطار بحثه عن شرعية شعبية تعوض ما فاته من شرعيات سياسية ودولية، وكانت فترة العام كافية لوضع اليد على الحقيقة الكاملة لنظام الجنرال الذى يحاول بصفاقة الجمع بين” السرقة والزعامة”.

قد يكون من المهم هنا الإشارة إلى أن العامل الحاسم في تحول الإسلاميين من معارضة هادئة إلى معارضة في قيادة الفعل الاحتجاجي ضد النظام لم يكن نسمات ربيع الشعوب وإن كانت تلك النسمات مثلت عاملا محفزا، ومشجعا بل إن التحول جاء مدروسا ومؤسسا على معطيات دقيقة وتحليل رصين لحكم الجنرال – أفضل عبارة الحكم على النظام فكلمة النظام تحمل دلالات أبعد ما تكون من التحقق في الوضع الذي نوجد فيه حاليا – لقد تأكد الإسلاميون أن استمرار الجنرال في الحكم يمثل خطرا على الكيان الموريتاني لذلك لم يكن أمامهم إلا الانخراط الفعلي في العمل الذى تتضافر فيه جهود كثيرة من اجل حماية موريتانيا من الإنزلاق وإنقاذها من ” كف الجنرال “.

– حراس القطيعة

والفصيل الثاني المنخرط في الحملة على التيار الإسلامي منذ وقت ليس بالقصير هو ما يمكن أن أسميه حراس القطيعة، وأعني به نخبا من محترفي السياسية من مواقع قومية وفئوية ضيقة مردت طيلة عقود على تهييج أهل موريتانيا بعضهم ضد البعض، وتلويث الحياة السياسية بنفايات من الشحن القومي النتن.

لقد راع هؤلاء الخط الوطني الإسلامي الذى افتكه الإسلاميون بصبر وعزم تحت وابل من نيران فلول المجموعات القومية، فكان لابد من اهتبال أي فرصة لوقف تقدم الطريق الواصل بين المجموعات فهؤلاء القناصة المتقاعدون غالبا في صفوف جهات محترفة يدركون أن ” شهادة ميلادهم” تكتب في اليوم الذى يترسخ فيه خطاب وطني مؤسس على المشترك الإسلامي، ينصر المظلوم أيا تكن مجموعته أو لغته أولون بشرته، ويعتز بالمكونات العربية والزنجية ويذكر الموريتانيين في الأوقات العصيبة باسمهم المشترك ” هو سماكم المسلمين ” بكل ما تحمله تلك التسمية من معان وقيم واستحقاقات تمثل مصدر إزعاج للمعتاشين على خطاب تخويف المجموعات بعضها من بعض.

شن فيلق حراس القطيعة أولى هجماته عندما وقف الإسلاميون في وجه مخططات ولد محمد لقظف وولد ازيد ابيه إشعال فتنة عرقية خلال عامي 2010 و2011، مستخدما كل وسائله التشهيرية ، وهاهو يعاود الكرة اليوم موظفا واقعة حرق الكتب الفقهية على يد مجموعة من قيادة إيرا .

لقد كان الإسلاميون أول من دان واستنكر واستهجن حرق الكتب ووصفه بأنه غريب على قيم البلد واستفزاز لمشاعر أهله ولعموم المسلمين، لكن فيلق حراس القطيعة وظف حالة الهيجان التي عرفها الشارع الواقع تحت صدمة حرق الكتب، وتأثير الضخ الإعلامي التهييجي لجعل الإسلاميين في موقف الإتهام عسى أن يدفعهم ذلك إلى التراجع عن مواقفهم الاستراتيجية من معاناة شريحة لحراطين الواقعة تحت ممارسات الاسترقاق ومخلفاته.

إن للإسلاميين في موريتانيا موقفا تشترك فيه عناوينهم السياسية والدعوية والفكرية يعتبر أن ما قام في موريتانيا من استرقاق في الماضي غير شرعي في أصله، ولا في تطبيقاته، وأن ما تعانيه شريحة لحراطين من ظلم منكر كبير، وان الإسلاميين هم أولى الناس برفع الصوت ضد الرق والإسهام بفعالية في الجهود الرامية للقضاء على ممارساته ومخلفاته.

ومن المفارقات أن الحملات التى يتعرض لها موقف الإسلاميين من الرق تبدأ من اتهامهم ” بالرجعية والظلامية، ومناصرة الاسترقاق” وتنتهى بتحميلهم المسؤولية عن عملية حرق الكتب.

– الحداثيون التكفيريون

أما الفصيل الثالث من المشتبكين مع التيار الإسلامي فهو يصدر غالبا عن محاكاة لمعارك دارت أو تدور في أزمنة وأماكن أخرى بين الإسلاميين والعلمانيين أو بين الإسلاميين واليساريين، أو بين الإسلامويين والحداثويين كما يحب المولعون بالإغراب تسميتهم أحيانا.

لايفوت الممسكون بالزناد على هذه الجبهة أي فرصة يستخدم فيها معبرون عن التيار الإسلامي عبارة يمكن تأويلها ولو تعسفا بمعاداة الحداثة لإعلان حالة الاستنفار، فقد ضبط ” الرجعيون متلبسين بما يؤكد أن ما يعلنون مخالف لما يبطنون، وفي غمرة الحماس الإيديولوجي يتحول حملة فكر التنوير، والمؤمنون بحرية التعبير إلى قائمين على محاكم تفتيش لايقر لهم قرار إلا في اللحظة التى توصلهم فيها حفرياتهم اللغوية والفلسفية، والنفسية إلى أن الإسلاميين قوم رجعيون بلبوس حداثي.

يذكرني أحيانا حرص بعض الحداثيين على نفي الحداثة عن الإسلاميين باستماتة التكفيريين في إخراج غيرهم من المسلمين من الملة، وهو سلوك متشابه يعبر عن حالة استئثارية واحتكارية للإيمان والحداثة، لا أعتقد أن المتلبسين بها يدركون حقيقة كونها تضر بهم وبما يعتقدون أنه قناعاتهم أكثر مما تضر بالخصم الذي يستميتون لرميه خارج أسوار الإيمان أو الحداثة.

إن من مصلحة التيار الإسلامي وقوى الحداثة الحقة البحث عن المشتركات والتحرر من قوالب التفكير الجاهزة التي يجنح فيها كل طرف لاحتكار الحقيقة وإلغاء الآخر فموريتانيا تحتاج إلى تحديث وحداثة مؤسسين على الإسلام مرجعية ومنظومة وإطارا للتطوير والإضافة والإقلاع.

كيف نواجه النيران

هي نيران عديدة إذا تطلق من جبهات متعددة، تختلف دوافعها، وغاياتها فما هي أفضل السبل للتعامل معها بما يخدم مصلحة موريتانيا أولا ويحقق الأهداف الكلية للمشروع الإسلامي في موريتانيا ثانيا.

– تمييز لابد منه

يتضح من خريطة النيران السابقة أنها متنوعة ففيها المنفذ لأجندات نظام سياسي يعتقد – محقا – أن التيار الإسلامي يمثل اليوم واحدة من القوى السياسية الرئيسة الساعية لإسقاطه، وفيها قوي قومية تعتبر أن التيار الإسلامي يطوي الأرض من تحت أقدامها، ويستصلح أرضا جديدة ليس بوسعها اللعب عليها، وفيها قوى حداثية يزعجها محاولة الإسلاميين الاقتراب من محمياتها الطبيعية، ولاشك أن التعاطي مع المجموعات الثلاث لابد أن يكون مختلفا وخاضعا ووفق رؤية تعرف جيدا وجهتها وخط سيرها وتراتبية أولوياتها

– فالحل في مواجهة خندق المدافعين عن النظام هو زيادة الهجوم عليهم وكشف حقائهم للناس باعتبارهم مجموعات توظف خبرتها لترسيخ حكم فاسد ومفسد يمثل استمراره خطرا على البلد.

– والأنسب في مواجهة المجموعات القومية هو دعوتها لمراجعة مواقفها الضيقة التي تمثل خطرا جسيما على مجتمعنا المتعدد عرقيا وثقافيا، ومواجهة من يرفض ذلك منهم وكشفه للناس وتحصين المجتمع ضد دعواته التجزئية الإلحاقية الفتاكة.

– أما الفريق الضائق ذرعا بالتوجهات الحداثية للتيار الإسلامي فالأفضل دعوته للتحرك للمنطقة المشتركة، وتشجيعه على الدخول في مراجعة فكرية تقلل من حساسيته من حضور الدين في الحياة العامة، ولفت انتباهه إلى أن أفضل طريقة للبقاء خارج دائرة التأثير في المجتمعات الإسلامية هي السعي لعزل الدين عن الحياة.

– من النار ينبلج النور

النقد في أصله عملية إيجابية وضرورية يستحق القائم بها الدعاء العمري رحم الله من أهدى إلى عيوبي لذلك لابد من الانتهاء من العقلية الدفاعية التبريرية التي ترفض بشكل تلقائي كل نقد ، وتنظر إليه باعتباره عدوانا فالنقد مهما كانت عدائية الجهة التي تمارسه يمكن أن يستخرج منه فعل إيجابي، لذا فإن على الإسلاميين وهم اليوم قوة أساسية البحث عن معمل لتحويل نيران الخصوم السياسيين إلى نور يضيئ الطريق أمام موريتانيا للخروج من النفق، ومع ما يكتنف العملية من صعوبة لكنها ضرورية للبلد والفكرة.

إن التيار الإسلامي الموريتاني رغم أقدمية خطابه وأصالة مرجعياته لكنه تيار حديث على عملية التدافع السياسي والاجتماعي فهو لذلك مطالب ببذل جهد أكبر في ضبط الخطاب وتوحيده وتحديثه، كما أنه بحاجة إلى خفض الجناح لشركاء الوطن حتى لايترك الفرصة لمن يريد تصوير الإسلاميين على أنهم قوة مهيمنة تريد أن تستبدل حكما شموليا قوميا أو علمانيا بحكم شمولي بمسحة إسلامية.

ويبقى التحدى الأبرز أمام التيار الإسلامي هو الصبر على مواجهة مناوشات حراس القطيعة، والتمسك بخط الوحدة الوطنية والأخوة الإسلامية ، والرفض القوى لإعطاء ممارسات الاسترقاق لبوسا شرعيا فبذلك وحده يحافظ الإسلاميون على موقعهم قوة توحيد، وجسر تواصل وعنوان المستقبل، أما حين يساومون على هذه المبادئ فتلك أفضل هدية يمكن تقديمها لكل من يزعجهم أن يكون المشروع الإسلامي في موريتانيا جزء أساسيا من الحل .

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى