موريتانيا : “نهاية التاريخ .. والإنسان الأخير”

  • جميع القضايا السياسية – في موريتانيا – تم حلها، وانتهى الأمر.
  • نعم، جميع القضايا السياسية تم حلها، أو قٌلْ : تسويتها أو معالجتها، إلا مسألة اختيار الرئيس.
  • لا توجد قضية سياسية واحدة تجعل الناس ينقسمون اليوم، إلى مؤيد ومعارض، إلا الاختلاف حول شخص الرئيس.
  • 1 – النهاية

ربحنا من نظام المختار ولد داده شكل العلم الوطني، وهذا الاسم الثلاثي الجميل “الجمهورية الإسلامية الموريتانية”، رموزَ السيادة. وربحنا من نظام ولد السالك، توقيف الحرب. وربحنا من ولد هيداله تلفزيونا، وجامعة، وجلاء للقوات المغربية، وقانونا لإلغاء الرق، وتطبيقا للشريعة الإسلامية. قراراتِ السيادة. في استراحة قصيرة، أبطأت سرعةَ الانخراط في المشروع الغربي. وربحنا من معاوية طريقَ نواذيبو، والكهرباء، وبطاقة تعريف وطنية، وبلدياتٍِ، وأحزابا. فترةُ معاوية هي بداية التاريخ السياسي الحديث، في موريتانيا.

وربحنا من ولد محمد فال، حريةً للصحافة، ونظاما للانتخابات، وزيادة في أجور الموظفين. وربحنا من ولد الشيخ عبد الله تسويةً لمسألة المبعدين، وترخيصا لحزب إسلامي، ومسجدا في الرئاسة. ومن ولد عبد العزيز، ربحنا قِطعا أرضية للفقراء، وتخفيضا للمواد الغذائية في رمضان، وتسوية للإرث الإنساني، وقطع العلاقة مع الكيان الصهيوني، وانتهى الأمر.

  • 2 – العُقدة

حتى أن العقد النفسية تم حلها، أو تجاوزها. حُلّت عقدة رئيس الوزراء من فئة الحراطين، مع اسغير ولد امبارك. وتغلبنا – مثل أمريكا – على عقدة الرئيس الزنجي، مع با امبارى، وعقدة الفنانة في مجلس الشيوخ، بالمعلومة منت الميداح، وعقدة الفقيه بِولد مَعطَه، وأن ولاية المرأة تم تجاوزها، بالنساء الوُلاة.

لكننا مازلنا نعاني من عقدة اللغة الفرنسية، وعقدة اللغة العربية. لم نجد رئيسا واحدا يجيد اللغة العربية، أو يُكَسر اللغة الفرنسية، فهذا أمر غير مسموح به البتة. جميع رؤسائنا يكسرون اللغة العربية، دون أي شعور بالحرج.

عندما نَحَتَت سيغولين روايال، كلمة فرنسية واحدة[1] bravitude، غير موجودة في القاموس، أقام الفرنسيون الدنيا وأقعدوها، أما نحن فثقافتنا، وحضارتنا، مشطوب عليها.

لم يَعد التعريب مطلبا وطنيا. حُرِم الأطفال من فرصة التلقي، تلقي العلوم، باللغة الأم، لغةِ القرءان، لغة أهل الجنة. في دولة دينها الإسلام. ويقولون أنَّ الإسلام دين الشعب والدولة.

  • 3 – بَــاهِلَه

لم يعد أحد لديه مطالبات سياسية سوى كرسي الرئاسة، أو حقائب الوزارة، أو مقاعد البرلمان، وهذه ليست قضية، وإنما هي مسالة شخصية، أو قبلية، أو طائفية، لا يهم، فهي ليست قضية وطنية.

مسعود، يتحدث باسم الحراطين لينال بهم منصبا ساميا في الدولة، وكذلك صار إبراهيما، مرشح الزنوج. أحمد ولد داداه يريدها لنفسه. اعل ولد محمد فال، يأمل أن يكون حلا توافقيا، أو مرشحا للجيش، يحظى بدعم الغرب.

أما ولد عبد العزيز فقد أخذها بالقوة، قسرا، جهارا نهارا، بعد فترة تربص طويلة، أمام باب القصر الجمهوري.

المطالبون بعودة نظام ولد الشيخ عبد الله، كالمطالبين بعودة معاوية، أو ولد هيدالة، أو اعل ولد محمد فال، أو المصطفى ولد محمد السالك. ولماذا لا يطالبون أيضا، بعودة ولد أحمد لولي، أو يعطونها لأحمد ولد داداه، بالوراثه؟

جميعهم يتجاذبون كرسي الرئاسة، يدوسون مشاريع التنمية والمؤسسات، بأرجلهم. يتجاذبون الحقائب والمقاعد، يذبحون الحلم الديمقراطي الجميل، من الوريد إلى الوريد – والناس ينظرون – يَتَمَشَّشُونَ عِظامَه ُوكاهِلهْ[2].

قادة الانقلاب، يريدون البقاء في السلطة، وفرض الأمر الواقع. والمناوئون لهم، يريدون تسوية تضمن لهم البقاء في دائرة السلطة، فحسب. يتخاصمون ويرفعون الصوت – أعلى فأعلى – كي يتدخل الجيران.

هؤلاء يرقبون الأليزيه، يستَجْدون الشفاعة. و ألائك يرقبون البيت الأبيض، يُرجفون، ويستبشرون بأنباء الحصار.

  • 4 – الصلاة

جاء القذافي في وساطة معلنة، بين الفرقاء السياسيين في موريتانيا، بتكليف من الاتحاد الإفريقي. وحقيقة الأمر أنه جاء ليحتفل بفشل المشروع الديمقراطي الموريتاني، ويصلي عليه صلاة الجنازة. ذلك المشروع، الذي سبق أن شكك فيه، وانهالت عليه الردود والانتقادات، فجاء ليتشفَّى, وساعدت الظروف على ذلك. وجاء خطابه استفزازيا هازئا، فأصاب هدفه. بَيّّن أن الانقلابات والانتخابات – في موريتانيا – سواء في تحصيل عدم الاستقرار.

نجح في إظهار ضعف وعدم استقرار الأنظمة في موريتانيا. كان من بين الحضور، عدة رؤساء سابقين: ولد الولاتي، ولد هيدالة، ولد محمد فال، وكان ولد الشيخ عبد الله وولد عبد العزيز،غائبين، حاضرين بحضور مناصريهما، أو قل : المتخذين منهما ذريعة للممانعة، أو مبررا للمحاباة.

ثم اختار ذلك الوقت بالذات، ليعلن انحيازه لقائد الانقلاب، بسخرية واضحة. فانسحب النواب،غير آبهين بمجلسه. لكن القذافي – الرجل الذي حكم ليبيا وحده أربعين عاما، وغير اسمها، ويهيئ ابنه للحكم – لم يتقبل هذه الدرجة العالية من الحرية، التي ينعم بها الشعب الموريتاني. لا يوجد بلد عربي أو إفريقي واحد، ينفض فيه مجلس القائد دون إذنه. ينفضون آمنين على حياتهم، ويتقاضون رواتبهم من الخزينة العامة للدولة، إلا هذا البلد، موريتانيا.

تدخل السنغال، أقرب الجيران وأشدهم تعلقا بالاستقرار في موريتانيا. بلد يسمى بلد الحوار، بلد ديمقراطي، وجاء رئيسه عبد الله واد – عَيْبَةُ نُصح الشعب الموريتاني – بإرادة جادة وصادقة للتسوية، حاملا تصورا جديدا يمهد السبيل للحوار الهادئ، في نواكشوط، ثم في داكار.

تخلت الجبهة عن مطلب عودة الرئيس المنتخب، لا يريدون إلا المحاصصة. تخلى ولد العبد العزيز عن موعد الاقتراع، وعن الحكومة، لا يريد إلا البقاء في السلطة، فحصل الوفاق. اتِّفاق كشَرَج العَيْبَة، اذا انحل بعضه انحل جميعه. فعند التفاصيل: فترة التأجيل، وحصص الأطراف، تدخل القذافي. استدعى رئيس حكومة ولد عبد العزيز إلى طرابلس أيام المفاوضات، وقام بتصريحات قاتلة، شوشت على الاتفاق. انحلَّ بعضه وكاد بنحل جميعه لولا الإرادة القوية والحازمة للمجتمع الدولي، وما تحلى به الوسطاء الأجانب من الصبر والمثابرة. مفاوضات تاريخية، جعلت الناس يطلعون على حقيقة الأمر. لا يريد الفرقاء السياسيون في موريتانيا إلا المحاصصة والبقاء في السلطة.

  • 5 – الصدام

جميع القضايا السياسية تم حلها، لم يعد نظام الحكم محل خلاف بين الفرقاء السياسيين. نظام تعددي ديمقراطي، يضمن الحرية، والعدالة، والمساواة.

اليساريون، تنازلوا عن نهج النظام الاشتراكي. تنازل القوميون العرب، عن مشروع الوحدة العربية. الإسلاميون، تنازلوا عن مشروع الدولة الإسلامية. جميعهم انخرطوا في المشروع الغربي، وصاروا جزئا منه. جميعهم، انهزموا أمام نظرية فاكوياما “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، القائلة بأن نظام السوق الحر، هو أفضل نظام تطمح الإنسانية إلى الوصول إليه. وأن جميع القضايا تم حلها، من خلال هذا النظام. وأن الإنسان الأخير، هو الإنسان الغربي. يسكن فيلا، ويركب سيارة فاخرة، ويتقاضي راتبا كبيرا، ويتلقي أحسن العلاج على حساب شركات التأمين الصحي. وأن النموذج الأمثل، هو الإنسان الأمريكي في مطلع التسعينيات، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وهيمنة الولايات المتحدة على العالم.

لكن الصدامات القوية، التي هزت أركان هذا النظام، أحداث الحادي عشر، والحرب على العراق وأفغانستان، والعدوان على لبنان وفلسطين، غيرت مجري التاريخ.

صداماتٌ، عَرَّفت الإنسان الغربي، أنه ليس وحده على كرة الأرض. وأن الصراع الحضاري لم يُحسم لصالحه.

  • 6 – ربطة العنق

على من يريد الانخراط في المشروع الغربي، أولا أن يعتني بربطة عنقه، وأن يظهر بمظهر الإنسان الغربي، في جميع تفاصيل حياته.

ليست المصالح الاقتصادية هي الهدف، فجميع الموارد الطبيعة للبلاد، من معادن وسمك، لا تملأ أصغر آنية إحدى الشركات الأمريكية، لكن المستهدف الأول والأخير، هو الإنسان.

ولكي تكون منخرطا نموذجيا، لا يطلب منك أن تكون عالما، فعلمك لا يهم، ولا متخصصا في شؤون المغرب العربي، فلديهم الخبراء، ولا دارسا للّغة الإنجليزية. يريدون منك أن تتعلم – فحسب – من الحضارة الغربية، ما يجعلك تعتز بها. أن تكون حاملا للفيروس، أو مصابا، بثقافة “الماك دونالد”[3].

هو ربطةُ العنق، سجادٌ أحمر وبرتوكولٌ، يَفرضُ عليك الانتظار واقفا، طيلة ساعة كاملة، لمصافحة ضيف من الهوتو، ويَمنعك الانتظار، أمام المسجد عشر دقائق. بروتوكولٌ، يَفرض على النساء المصافحة، يحدد العلاقة بين الرجال والنساء، حسب المفاهيم الغربية.

وليس من الإنصاف القول بأن المجتمع الغربي يمارس الرذيلة أكثر من غيره، لكن المنخرطين في هذا المشروع، يمارسون الرذيلة دونما إحساس بالخزي أو العار. فقد انسلخوا من قيم مجتمعهم، ولم يصلوا درجة الاندماج مع الغرب، للسمو إلى فضائل المجتمع الغربي.

يُمنع الدخول إلى الدوائر العليا للسلطة في موريتانيا، لغير المنخرطين في المشروع الغربي. اللغة الفرنسية لغةُ الدولة، لغةُ “الحضارة” لغة، “الانفتاح”، لغة الإدارة، لغة القانون. واللغة العربية، لغة “أهل العربية”، لغة “الفقه”، لغة التخلف، لغة التَّزَمُّت والانغلاق.

  • 7 – القضية

“الويل لشعب يأكل من خارج حدوده”، والويل كل الويل لشعب يفكر من خارج حدوده. جميع الحركات السياسية الناشطة في البلاد، وجدناها تتبني- منذ عقود- مشاريع تأتي من الخارج.

الناصريون يتبنون مشروع الوحدة العربية، استنادا على فكر جمال عبد الناصر والقذافي. البعثيون يتلقون فكر مشيل عفلق من العراق أو سوريا. “الكادحين” يستندون إلى الفكر الشيوعي، إما الصين، و إما الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه. الإسلاميون ينقسمون بين مرجعيتين :مرعية الإخوان المسلمين بمصر، وأفكار السيد قطب و مرجعية وهابية، تابعة للملكة العربية السعودية أو باكستان. ذلك ما جعل الأنظمة المتتالية، تتبني الفقه المالكي، والعقيدة الأشعرية، والتصوف، لمواجهة هذا المد الإسلامي القادم من الشرق.

أما حركتا “افلام” و”الحر” – المطالبتان، إحداهما بحقوق للزنوج، والأخرى بحقوق للحراطين – وحدهما، لا تستندان في الأصل إلى مشروع أجنبي، وتتبنى كلتاهما طرحا عنصريا بالأساس، يميل إلى العنف، وكلتاهما وجدت من المنظمات التبشيرية الغربية قوة داعمة، بذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان.

“افلام” تتلقى الدعم من فرنسا، لسرعة انخراط قادتها في المشروع الغربي، وشدة تعلقهم باللغة الفرنسية. وقد حصلت “الحر” على دعم القذافي، بعد التحام هذه الحركة، مع الناصريين في حزب واحد ملون، يُبرئ الحركة من تهمة العنصرية، يبرئها من دعوة الجاهلية.

أما حركة “ضمير ومقاومة”، فلا تعدو كونها مجموعة من الشباب المنبهرين بالمشروع الغربي، إلى حد الاستلاب، المتخذين من التعارض القائم بين أحد بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مع الشريعة الإسلامية، مطية لابتزاز المنظمات الدولية، مقابل منافع مادية بحتة : منح للدراسة واللجوء السياسي والهجرة.

تَحققَ لهم ما يريدون، وانتهى أمرهم.

لم تعد لديهم ذريعة للمزايدة، بعد قانون تجريم الرق، وعودة المبعدين، وتسوية الإرث الإنساني.

  • 8 – المعتقد

يرتكز النظام الديمقراطي الغربي، على ثلاثة مرتكزات : حرية، عدالة، ومساواة.

المرتكز الأول هو الحرية.

حرية التعبير، وحرية التجمع، و حرية التنقل، هي الحريات الأساسية، ونحن اليوم، نعيشها في موريتانيا، كاملة.

أما حرية المعتقد – نقطة ضعف النظام الديمقراطي – فلدينا تحفظنا عليها. فهي سلاح موجه ضدنا. لا يسمح للمنخرطين في المشروع الغربي الطعن في المحرقة، أو اعتقاد أفكار معادية للسامية، أو التشكيك في شرعية وجود دولة إسرائيل. و لا يسمح للفتيات المسلمات الستر في المدارس التابعة للدولة، ويقال لهن المتحجبات، ولا يقال للسافرات السافرات.

المرتكز الثاني : المساواة. لا يتحفظ الشرع – في مسألة المساواة – إلا على بند واحد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ألا وهو المساواة بين الرجل والمرأة. ذالك البند المتعارض – في رأي الشرع – مع مبدء الإنصاف. ويتخذ المنخرطون في المشروع الغربي من هذا التحفظ، ذريعة لمهاجمة الإسلام. في حين، سقط هذا المفهوم، تخلوا عنه، ثم ابتكروا مفهوما جديدا، أكثر جاذبية، أقرب إلى الإنصاف : “مقاربة النوع”.

أما العدالة، فليست محل خلاف.

  • 9 – البداية

تنقسم فترة معاوية إلى فترتين. عشر سنوات أولى، فترة الممانعة، رفعت فيها شعارات العروبة والهوية، ودعم العراق، ووحدة المغرب العربي. تعرضت موريتانيا خلالها، إلى ضغوط هائلة من صندوق النقد والبنك الدوليين، جعلتها في الأخير- في العشر الأواخر- ترضخ لجميع شروط الانخراط في المشروع الغربي. التقرب من إسرائيل، والتنديد بالحركات التحررية، وتطبيق إصلاح تربوي، يعيد اللغة الفرنسية إلى الواجهة. فانهالت التمويلات والإعفاءات من الديون، وأُطلق العنان لمافيا الفساد، في نهب المال العام، وللأجهزة الأمنية، في القمع. فامتلأت السجون، وامتلأت الحانات الليلية. أعلنت الحرب على الدين، واستتب الأمر للقائد، وصار ربا يعبد، إلى درجة انه دخل في المعتقد الديني، صار يتحكم في المطر. وبدأ الحديث عن تولي ابنه – بَعده – الحكم.

لكن هذا النظام تلقى ضربة غير متوقعة، وهو في أوج قوته، على يد مجموعة من الضباط، قادمين من الشارع، لا يخضعون لمقتضيات الانخراط في المشروع الغربي، اخترقوا نظام الأمن بسهولة مذهلة. نجا الرئيس بأعجوبة، لكنه فقد جزءا كبيرا من هيبته. آذنت تلك الضربة، بسقوط النظام. فقد هيبته القائمة على كفاءة النظام الأمني، فانتهى أمره.

  • 10 – ليلة القدر

صعقةٌ قوية. ليلةٌ احتلت موريتانيا فيها، الصفحات الأولى في الإعلام الدولي. سقط ضحايا، من بينهم ولد انجيان، قائد أركان الجيش آنذاك. ضابط مميز، يحظى باحترام الجميع، خسارة لا تعوض. قضى في مكتبه، بإطلاق نار مجهول، في ظروف غامضة. رجح التحقيق أنه قتل عن طريق الخطأ.

نجا قائد الانقلاب هو ورفاقه، لجئوا إلى أدغال إفريقيا، وأسسوا حركة “فرسان التغيير” بهدف إسقاط النظام بالعمل المسلح. حركة حصلت – هي الأخرى – على دعم الزعيم الليبي. ثم أعادوا الكرة، وفشلوا أيضا، وألقي القبض عليهم جميعا. تعرض ذووهم إلى حملة تنكيل واسعة. حملة أدت إلى تذمر في الجيش، واحتقان في المشهد السياسيي.

ضربة، تصدى لها ولد عبد العزيز ببسالة، فاشتد ساعده، وأجمعَ أمرَه، يومها. قرر أن يتولى بنفسه الإجهاز على النظام. انقلاب سلمي ناجح (3 أغسطس 2005)، ووَعْدٌ بمشروع ديمقراطي طموح. انقلاب نال الشرعية القانونية بالإجماع.

سادَ الأمنُ، والاستقرار، والحرية، طيلة الفترة الانتقالية. لكن العدالة لم تَسُد. تعرض أنصار ولد الطايع للظلم وتصفية الحسابات، وتعرض المرشحون لجميع الانتخابات، للظلم أيضا بالضغط على الناخبين، وفرض مرشحين تابعين للمجلس العسكري، في المجالس البلدية، وفي مجلس الشيوخ، وفي البرلمان، وفي الرئاسة. مجلس عسكري، شعاره العدالة، قرر [انحراف المسار الديمقراطي4]، فرض إرادته على الشعب، فوت الفرصة، وانتهى أمره.

  • 11 – المحاصصة

فترة ولد الشيخ عبد الله، هي الفترة التي حصل فيها أكبر تقاسم للسلطة شهدته البلاد. محاصصةٌ، مهد لها ولد عبد العزيز في الفترة الانتقالية. أخذ هو وصديقه ولد الغزواني، نصيب الأسد، قفزا – في سلم الجيش – إلى رتبة جنرال، بجرة قلم . وأخذ مسعود ولد بلخير رئاسة البرلمان، وعدة حقائب وزارية لحزبه، ثمنا لدعمه مرشح الجيش في الشوط الثاني. تضررت سمعته من ذلك، وانتهى أمره.

أخذ الزين ولد زيدان رئاسة الحكومة، باسم أنصار ولد الطائع. وحرم ولد داداه من حقائب وزارية كان يريدها لتقوية حزبه، وأسكت بمنصب مستحدث “زعيم المعارضة”. وتُركت البقية للسيدة الأولى، باسم منظمة غير حكومية تحمل اسمها.

مفهوم السيدة الأولى، مفهوم غربي غريب على مجتمعنا. هل تكون لنا سيدة ثانية، وثالثة، ورابعة، إذا تعدد الزوجات؟ أو لا تكون لنا سيدة أولى على الإطلاق، إذا عزف الرئيس عن الزواج، أو كان مِطلاقا مِزواجا؟

ثم جاء ولد الواقف، بعد إفلاس الخطوط الجوية الموريتانية، فاستولى على جميع ما تبقى لدى الرئيس من صلاحيات. أخذ الحكومة، والحزب، وملف المبعدين، والخطة الاستعجالية، والأمن الغذائي .أقصى حزب ولد داداه – أكبر أحزاب المعارضة – من حكومة أريد لها أن تكون حكومة وحدة وطنية. فَرَض نصيبا للإسلاميين، ونصيبا لحزب ولد مولود، رغم أنف الجنرال، فبدأت المواجهة، بين الحكومة والجيش. ساءت الأوضاع، وآلت إلى الانقلاب.

لا يحدث التناوب السلمي على السلطة في موريتانيا، إلا عن طريق الانقلاب. ولا ينجح الانقلاب إلا إذا كان سلميا، ومدعوما من قِبل فرنسا. ثم تأتي انتخابات محسومة النتائج مُسْبقا، لصالح قائد الانقلاب. ينزع البذلة العسكرية، ويلبس الكوستيم. الانتخابات والانقلابات سواء في تحصيل التناوب السلمي على السلطة في موريتانيا.

  • 12 – القيد

استيقظ الموريتانيون صبيحة السادس أغسطس 2008 على وقع مرسوم رئاسي، يقضي بعزل قادة الجيش. كان ذلك أول قرار وآخر قرار، يتخذه الرئيس المنتخب، دون استشارة أحد. وكان قرارا شجاعا، وحكيما. دعوني أقول لكم، لماذا كان هذا القرار حكيما.

لم يكن الرئيس آمنا على حياته غداة الانقلاب – هو وأفراد أسرته – كأمنه عليها عشيّته. كان الصراع بالغا ذروته بين الرجلين.

انقسمت أجهزة الدولة. حكومة ولد الواقف والإعلام الرسمي، يبايعون الرئيس. قادة الجيش، والأجهزة الأمنية، وكتلة البرلمانين المستقلين يطالبون باستقالته، بقيادة ولد عبد العزيز المباشرة. صار الوضع خطيرا.

برلمانيون، انتخبوا بنفس الطريقة التي انتخب بها الرئيس، يأتمرون بأوامر قائد الحرس الجمهوري، حتى قيل عنهم – في بعض الأوساط الإعلامية – “كتيبة برلمانية”. لكنهم أكثرية معتبرة، ولديهم الشرعية القانونية. حصلوا عليها بأول طعنة في الخلف، وجهها قادة الجيش، للحلم الديمقراطي الجميل، الذي عاشته البلاد، أيام الفترة الانتقالية. طعنة تحت عنوان “الترشح المستقل”.

شرعية زائفة، لا تزيد ولا تنقص عن تلك التي حصل عليها الرئيس، في نفس الظروف.

أصبح الرئيس رهينة في القصر. أصدقاء الأمس أعداء اليوم. حول ولد عبد العزيز منزله إلى ثكنة عسكرية، استعدادا للهجوم الأخير. لم يكن أبدا يخطط للانقلاب. كان يريد الإطاحة بالرئيس وحكومته، بصفة قانونية، سياسية. طالبوا بحجب الثقة عن الحكومة، عبئوا الشعب للتظاهر أمام القصر في ثورة للجياع.

هل يكون الرئيس آمنا على حياة أفراد أسرته، في وضع كهذا؟ وجد الحل في توقيع مرسوم، يحملهم على الانقلاب. صار السجن أحب إليه مما هو فيه. كان مقيدا في قصر الرئاسة. نزع القيد من ساقه، وجعله في ساق عدوه. وأصبح في وضع أفضل. حرم خصمه من فرصة الانتصار، من فرصة الظهور كمنقذ للوضع.

جميع الذين حصلوا على نصيبهم من السلطة مع الرئيس، أصبحوا يطالبون بعودته، وجميع الذين حرموا من نصيبهم، يدعمون الانقلاب، لعلهم أن يكونوا أوفر حظا عند الرئيس الجديد. هكذا كان هذا القرار حكميا.

أُخذ على أحمد ولد داده دعمه للانقلاب، وكاد ينتهي أمره، وأخذ على صالح ولد حننه، مشاركة حزبه في الحكومة، وأخذ على الإسلاميين، مطالبتهم بعودة رئيس أبقى على العلاقة مع الكيان الصهيوني، وكذلك القوميين العرب.

  • 13 – الشجرة

لم يتوقع أحد بقاء ولد عبد العزيز في السلطة أكثر من شهر واحد. لكنه أخذ زمام المبادرة في أول يوم، وأطلق حملته غير آبه بالمواقف المعلنة للعواصم الغربية، والمندده بالانقلاب، والمهددة تارة بالحصار. تبنى شعارات جذابة : إعادة توزيع الثروة بعدالة، ومكافحة الفساد، نالت إعجاب الناس. شدد الرقابة على المال العام. أطلق إشارات الممانعة للغرب : التقرب من حماس وإيران. يقول مناوئوه أنها ابتزازية. اتبع سياسة فرض الأمر الواقع. ركز جهوده الدبلوماسية على فرنسا، الدولة الوصية، لها الكلمة الأخيرة. اتبع تكتيكا عسكريا في السياسة، يمضى إلى الأمام، يحتل الميدان “بالمناورة الانتخابية” من جهة، ويفاوض من جهة أخرى. فوت الفرصة على منافسه الوحيد، على كرسي الرئاسة. أحمد ولد داداه. بِجَرِّه إلى جانبه فترة طويلة، ثم تركه.

لم يُقم ولد عبد العزيز وزنا – منذ اليوم الأول – للمنافسين الآخرين، أولئك استهلكوا نصيبهم من السلطة في فترة المحاصصة. اكتفوا بالقليل، وانتهى أمرهم. ركز اهتمامه على جلب ود الملتفين حول ولد داداه، من أجل إضعافه. أغراهم بالحقائب الوزارية والوعود الانتخابية، فتوالت الانسحابات من حزب ولد داداه، كما توالت الانضمامات إليه من قبل، أيام الفترة الانتقالية.

أحمد ولد داداه، شجرة في الصحراء، يقيل المسافرون تحت ظلها ضيوفا أيام القيظ، يزاحمون في الظل من جاء قبلهم. وحين يأتي الشتاء، ينكشفون عنه، ويبقى وحيدا.

أدرك ولد عبد العزيز أن الصراع الحقيقي، هو صراع على الشرعية، وأن ولد داداه، ما زال يمتلك قدرا من الشرعية، يخوله المطالبة الجادة بكرسي الرئاسة، وكذلك ولد محمد فال.

  • 14 – التاريخ

تقوم الشرعية على أربعة مرتكزات : تاريخية، وقانونية، وبالحيازة، وبالجدارة.

حصل ولد داداه على قدر كبير من الشرعية التاريخية بفضل مسيرته الطويلة، ولديه قسط بالوراثة. وحصل ولد عبد العزيز على قدر أقل، بفضل تجربته في الجيش. تصدى لانقلاب ولد حننه، وقاد انقلابين، نال قدرا قليلا من الشرعية التاريخية، لكن هذا القدر، يتعزز بمرور الزمن. وحصل ولد محمد فال على قدر منها بزعامته للمرحلة الانتقالية.

أما الحيازه، فغالبا ما تكون ، بالتغلب، وإلا فالمطالبة، وهذه أخذها ولد عبد العزيز بالقوة كاملة، وما زال يتمسك بها، ويحكم قبضته على الجيش. تنازل عن جزء قليل من هذه الحيازة، باستقالته لخوض معركة الشرعية القانونية. لديه كتيبة برلمانية، ورئيس بالنيابة. ترك لخصومه حق المطالبة.

تنال الشرعية القانونية عن طريق الانتخابات أو الوفاق. وذلك ما سعى إليه ولد عبد العزيز. انتخابات عاجلة – محسومة النتائج مسبقا – تضفي شرعية قانونية على عمل غير قانوني هو الانقلاب، وورقة جديدة للتفاوض، أو حل توافقي يضمن له البقاء في السلطة. تحقق له ما يريد، وانتهى أمره. شرَّع الانقلاب عن طريق التفاوض، فتنازل عن الانتخابات.

لكن الشرعية القانونية لا تكفي وحدها للبقاء في السلطة، تلك الشرعية هي التي حصل عليها ولد الشيخ عبد الله وحدها، في رئاسيات 2007، وما زال يتمسك بها. وحصل ولد داداه على جزء منها، بحصوله على نسبة جيدة في هذه الانتخابات (47%).

أما الجدارة، فالمطالبون بكرسي الرئاسة – مسعود ولد بلخير، وصار إبراهيما، وأحمد ولد داداه، واعل ولد محمد فال، وولد الشيخ عبد الله، وولد عبد العزيز- جميعهم جديرون به، لا تنقصهم الكفاءة، بغض النظرعن عقدة اللغة العربية.

  • 15 – القوم

كان وما زال الانتماء القبلي، والجهوي، والعرقي، ركيزة أساسية لممارسة السياسية في موريتانيا.

مصلحة القبيلة، قيادة القبيلة، التمثيل داخل القبيلة. هذا يمثلنا، وهذا لا يمثلنا. مبادرات الدعم ومكاتب التصويت، هي الإطار الشرعي لتعبئة القبيلة، والتنافس بين المجموعات على إظهار الولاء للحاكم. كل مجموعة تَستقلُّ نصيبها من الحكم.

تخضع جميع الأنظمة السياسية في موريتانيا – في الخفاء – لمقتضيات هذا النظام، وتدينه في العلن.

القبيلة في موريتانيا، كشرب الخمر في بغداد، أيام هارون الرشيد. كلما اجتمع اثنان شربا، وإذا كانوا ثلاثة، عابوا شاربها.

في موريتانيا يعاني السياسيون الآن، من أزمة الخطاب السياسي. كانت لديهم مطالب، وعندما تمت تلبيتها أو معالجعتها، ركنوا إلى اختزال العمل السياسي برمته، في مسألة حقيره، ألا وهي الاختلاف حول شخص الرئيس. ابتكروا عناوين فضفاضة كعودة الشرعية ومكافحة الفساد، غطاء للدفاع عن المصالح الشخصية، والبحث عن المناصب.

رفع المطالبون بعودة ولد الشيخ عبد الله، شعار الشرعية، وهم يفتقدونها. ويرفع الانقلابيون، شعار مكافحة الفساد، وهم جزء منه.

  • 16 – الأمير

الناس في بلادنا، لا يريدون نظاما ديمقراطيا. لا يريدون مساواة، ولا عدالة، لا يريدون إلا الحرية، وقدرا يسيرا من الإنصاف، وقوتا يوميا. لا يقبلون العمل بأي من مقتضيات دولة القانون. لا يدفعون الضرائب، يُكسِّرون أنظمة السير، ولا يسددون فاتورة الماء والكهرباء.

لا يريدون رئيسا يكون موظفا للدولة يخضع للقانون، ويتقاضى راتبا محدودا، ويقوم بعمله، لا يحتفي بشيخ القبيلة، ولا يشتري الأصوات الانتخابية.

يريدون رئيسا قويا، يتولى الأمور بنفسه، يحظى بدعم الغرب، وإسرائيل، يجلب التمويل، ويفرض العطايا – فَورا- والهبات، يعطي بالمجان، ينفع ويضر، له أعداء ومناصرون. يقولون “ديكتاتورا مستنيرا”.

يريدون أميرا يبيعون له القصائد، والرقصات الجميلة، ونظاما كنظام بني أميه، ورئيسا مثل ولد الطايع، وحين يجدوه، ينتهي أمرهم.

نواكشوط، يونيو 2009

– نشر هذا المقال لأول مرة بتاريخ 07 يونيو 2009 في موفع وكالة نواكشوط للأنباء، إبان الحملة الرئاسية.

– اقرأ أيضا لنفس الكاتب : الجريمة الكاملة | سيد احمد ولد مولود


[1] – سيغولين رويال، نافست نيكولاس ساركوزي على كرسي الرئاسة 2007. نطقت بكلمة bravitude (بمعنى البطولية) في تصريح للصحافة خلال زيارة سور الصين العالي، تعرضت جراء ذلك لانتقادات شديدة في الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية.

[2] –

إن عِفاقا أكلته باهله

تمششوا عظامه وكاهله

وتركوا أم عفاق ثاكله

قيل في هجاء قبيلة عربية اسمها باهلة، يتهما العرب بأكل لحوم البشر، وصارت منبوذة. جاورهم رجل اسمه عِفاق في سنة قحط، فذبحوه وشووه ثم أكلوه. وهُجي قومُه بعدم الأخذ بثأره من باهلة.

[3] – سلسلة عالمية من المطاعم، يرتادها الشباب.

[4] – موريتانيا، رئاسيات مارس 2007، الجريمة الكاملة. سداحمد ولد مولود.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى