ردا على الرافضين للحوار مع “الجهاديين”: فلنحاور العشرات قبل أن نضطر لقتال المئات
تابعت مساء الجمعة الماضي عبر التلفزة الموريتانية حلقة من برنامج “:لقاء خاص” ، استضافت عددا من القادة الأمنيين والعسكريين إضافة إلى الناطق باسم وزارة الخارجية، ومدير التوجيه الإسلامي، ورغم الطابع الرسمي الذي طغى على لتلك الحلقة، إلى أنها كرست لمناقشة موضوع حساس وخطير للغاية، ألا وهو أنشطة الجماعات الجهادية المسلحة في بلادنا، وكانت الحلقة رسمية بكل المقاييس، لدرجة استحالت معها إلى حلقة لتكرار بعض المغالطات والتبريرات المجافية للمنطق والواقع.
كانت الحلقة بقضها وقضيضها تصب في اتجاه رفض الحوار مع المجموعات والأفراد من حملة الفكر السلفي المسلح، خصوصا من العناصر المحسوبة على تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وتبخيس الدعوات التي ظهرت في هذا الاتجاه وتسفيه أحلام أصحابها، وقد سيقت خلال الحلقة مبررات مضحكة ـ وشر البلية ما أضحك ـ لتعليل الموقف الرافض للحوار مع “القتلة والإرهابيين، الذين لا وجود لهم في بلاد شنقيط المحصنة ضد الشذوذ والانحراف”.
كان التنظير الفقهي في الحلقة يتحدث عن تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، سواء كانت نفسا مؤمنة أو معاهدة، وما وعد الله به سافك دماء المسلمين والمعاهدين من الويل والثبور وسوء خواتم الأمور، وهو حكم معلوم لدى أكثر الناس جهلا بالإسلام وأقلهم اهتماما به وأبعدهم عنهم، فكيف بمن يدعي أنه حامي بيضة الإسلام والذائد عن حماه، وهنا يجب أن ننطلق من مسلمة وهي أن هؤلاء في معسكراتهم بشمال مالي وفي جبال الجزائر وخلاياهم النائمة والمستيقظة هنا في موريتانيا، وفي كل أصقاع الدنيا، يحفظون هذه الآيات عن ظهر قلب ويحفظون معها الأحاديث التي تحذر من سفك الدم بغير وجه حق، فالمشكلة لا تكمن في إقناعهم بأن دماء المسلمين والمعاهدين حرام، وإنما مكمن الداء الذي يجب أن يكون مربط فرس المنظرين، وميدان فرسان المتحدثين هو ضرورة إقناع هؤلاء أننا مجتمعات مسلمة شعبا وحكاما، وأن من هم بين ظهرانينا من غير المسلمين، قوم معاهدون تحرم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم، وهذا ما كنا ننتظر أن تغوص الحلقة في ثناياه، من الناحية الفقهية وتناقش أبعاده ودلائله وحججه، فالأمر يتعلق بمناقشة حملة فكر وفقه، هم أحوج إلى من يقوم رؤيتهم ويصحح فهمهم، من حاجتهم إلى واعظ يذكرهم بالجنة والنار، وهم من خرجوا أصلا من الديار وحملوا السلاح ظنا منهم أنهم يفرون من سخط الله إلى رحمته، ومن عذاب جهنم إلى فرودس جنات عدن.
وخلال نفس الحلقة تم الترويج لفكرة أعادت إلى الأذهان حملة الدفاع عن مالك التي تبنتها الحكومة ووسائل الإعلام الرسمية ما بين سنتي 2003 و2005، وكانت أقرب إلى ملهاة في ثوب مأساة، وتقول هذه الفكرة إن “بلاد شنقيط محصنة ولا يمكن أن يجد فكر الغلو والتطرف موطأ قدم له فيها”، وكأن قائل هذا القول نسي أن الفكر والسلوك لا أرض لهما ولا وموطن، وأن حملة هذا الفكر ودعاته ومسلحوه ظهروا في بلاد الحرمين، أقدس البلاد وأحبها إلى الله، حيث مهبط الوحي ومنبع السنة، فأي حصانة إسلامية وقداسة روحية لأرض شنقيط، لا حظوة فيها لدار البعثة (مكة المكرمة) ودار الهجرة (المدينة المنورة)، وهل نسي هؤلاء أو تناسوا أن تيار العولمة الجارف أذاب الحدود وقهر الحواجز، وأن مفتي الانترنت يوزع فتاويه في كل أصقاع الدنيا قبل أن يقوم منظرونا من مقامهم، بل قبل أن يرتد إلى أي منهم طرفه.
وتساءل بعض الضيوف “من نحاور”، مضيفا أنه لا يوجد طرف نحاوره، ونسي أو تناسى، أن الجواب هو “حاور من تحارب”، وقال آخر إن هؤلاء غير معروفين حتى نحاورهم، ولست أدرى هل البضع والستون معتقلا الموجودون اليوم في السجن المدني بنواكشوط من المحسوبين على هذا التيار غير موجودين، وهل من جندنا الجيوش والكتائب والفرق لمحاربتهم، مجرد طواحين هواء وسراب بقيعة، أو ليس من بين السجناء اليوم من له تأثير على بعض رفاقه أو على الأقل تأثير على نفسه، فلنحاوره، ولنفتح معه باب المراجعات الفكرية والفقهية، أم أنه علينا ان ننتظر حتى يكون المئات في السجن والآلاف في المعسكرات.
وهنا أجدد الدعوة مرة أخرى إلى الاستفادة من تجارب بلدان أخرى واجهت من قبل مثل هذه الجماعات، وتأكدت عبر التجربة المريرة أن القبضة الأمنية وحدها لا تكفي لمحاربتها، ففتحت حوارات معها، وناقشت عناصرها وعفت عن من تاب وأصلح منهم، وهل أخرج الجزائر من جحيم سنوات الدم والرصاص إلى قانون المصالحة، وماذا أوقف العنف الدموي وعمليات الاغتيال في مصر التي قتل رئيسها السابق أنور السادات، وكاد رئيسها الحالي محمد حسني مبارك أن يقتل في الخرطوم، على أيدي متشددين ملأت منهم السجون وغرقت مقاصل الإعدام بدمائهم، فما زادهم ذلك إلا إصرارا وشراسة، إلى أن بدأ برنامج الحوار والمراجعات الفكرية فاستعادت مصر عافيتها وخرج الآلاف من السجون ليعودوا للمجتمع أفرادا صالحين، وفي ليبيا تداركت السلطات الموقف قبل أن يستفحل وفتحت باب الحوار والمراجعات قبل أن تشرع الجماعة الليبية المقاتلة في إراقة دماء الليبيين، واليوم خرجوا من السجون ليخدموا مجتمعهم، وليكونوا مواطنين صالحين،
لقد قال ـ قائل منهم أثناء الحلقة ـ إنه لا وجه للمقارنة بين وضعنا ووضع بلدان أخرى عانت كثيرا من العنف والإرهاب، وأن هؤلاء “الارهابيين” لا يملكون قواعد ولا مركز تدريب على الأراضي الموريتانية، وإنما هم أفراد تسللوا قادمين من حدود بلدان أخرى، فهل كان موسى ولد زيدان، وموسى ولد انديه، وأحمد ولد الراظي، إلا أبناء أحياء نواكشوط، وهل جاء الخديم ولد السمان وسيدي ولد سيدنا ومعروف ولد هيبة وولد احمدناه من قارة أخرى، أو ليسوا أبناء هذا الوطن كابرا عن كابر، صحيح أنه في الوقت الحالي قد لا تكون لهؤلاء معسكرات معلومة المكان على الأراضي الموريتانية، لكنهم يملكون هنا في هذا البلد قواعد فكرية، ومرجعيات فقهية لن تزيدها السجون والأغلال وسياط الجلادين إلا تشبثا بقناعاتها وتطرفا في أفكارها.
لكن ما لم يقله القائل إن المواجهة الأمنية بين السلطات الموريتانية وهذه المجموعات المسلحة بدأت سنة 2005، وبعد مرور أربع سنوات على بدء تلك المواجهة، هاهو عدد الشباب الموريتانيين الملتحقين بهذا التنظيم قد تضاعف، وخطرهم قد تعاظم، فبكل تأكيد لا تمكن المقارنة بين وضع القاعدة في بلادنا سنة 2005 ووضعها سنة 2009، فإلى متى ونحن نتكئ على مقاربة أمنية بحتة، تذكر لها جهودها فتشكر، لكنها ليست إلا جزء يسيرا مما ينبغي أن يكون، فلنبادر لأن الفرصة لم تضع بعد من أيدينا.
إن المنطق السليم يفرض علينا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، لا أن نبدأ كما بدءوا أول مرة، ونمر ـ لا قدر الله ـ بنفس التجارب التي مروا بها، فما نحن بأكثر تحصينا فكريا وأمنيا من تلك البلدان التي اكتوت بنار العنف، ورغم ذلك كان الحوار هو المخرج الوحيد لها من دوامة فتن كقطع الليل المظلم، يحصد عنفها الأعمى كل بريء وينشر الرعب والخراب.
إنه لمن المجافي للمنطق أن نتحدث عن حامل حزام ناسف أو راكب سيارة مفخخة باعتباره عميلا أو مأجورا، إذ ما قيمة أي جائزة لن يعود إليها صاحبها، إلا إذا كانت قناعة بسلامة التوجه وصواب الفعل، فأمثال هؤلاء يتحركون عن قناعات فكرية، نتفق جميعا على وصفها بالخاطئة، لكن القناعة لا تجابه إلا بالقناعة، والفكر لا يلين إلا بالفكر، فكما أقنعه منظروه وأمراؤه أن الجنة في انتظاره عند أول رصاصة تصيبه أو شظية قذيفة تودي بحياته، وأن ما يقوم به هو عين الجهاد في سبيل الله، أفلا يملك علماؤنا ومفكرونا من الحجج والبراهين ما يقنع هؤلاء الانتحاريين بخطأ السبيل الذي يسلكوه، وإعادتهم إلى جادة الطريق، أو ليست الجنة مأرب هؤلاء ومقصدهم، فلنرشدهم إلى سواء السبيل والطريق القويم إليها بعيدا عن إراقة دماء الأبرياء وإثارة الرعب والفتن.
إن رفض الحوار مع هؤلاء انطلاقا من تجريمهم وتخوينهم هو نوع من العبثية المنافية لحقائق التاريخ والواقع، فهؤلاء في أسوء تشبيهاتنا لهم نصنفهم في طائفة “الخوارج” ـ رغم أنهم ينأون بأنفسهم عن هذا التشبيه ـ وأي سوء فوق أن تشبه المرء بقتلة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومن أراقوا دماء الصحابة وقتلوا بالشبهة، ومع ذلك حاور حبر الأمة وعلامتها عبد الله بن عباس الخوارج وناظرهم، وهؤلاء اليوم ليسوا أسوء من الخوارج، ونحن بكل تأكيد لسنا أفضل من ابن عباس، فلنحاورهم ولنناقشهم، وهم مجرد عشرات من الفتية، قبل أن نضطر لمقاتلتهم وهم مئات أو آلاف من المسلحين.. فلنحاورهم وانتحاريهم لم يقتل بعد إلا نفسه، قبل أن يثخن فينا انتحاريوهم القادمون ـ لا قدر الله ـ وتسيل الدماء وتكتظ المستشفيات، وحينها ستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.