أمخسور: حقيقة علمية أم أسطورة شعبية
مدخل :
مخسور، أمخسور أو البارك:
كلمات ذات مدلول واحد، تتردد كثيراً في بلادنا، في الأوساط النسائية (عجائز و شابات) خاصة، وتناولها الفقهاء الشناقطة وأوجدوا لها المبررات الفقهية كما سنرى، ورغم التقدم العلمي الذي طرأ على وسائل الكشف الطبية مثل الإيكو وغيره؛ إلا أن الظاهرة لم يقض عليها بل ربما تتزايد انتشاراً خاصة مع تزايد الانحلال و الفساد الأخلاقي في المجتمع.ربما تكون قلت في المدن الكبرى خاصة بسبب تزايد حالات الاجهاض الجنائي (Avortement ).
ورغم أن هذا الموضوع يحتاج لكتيب أو حتى كتاب كامل للإحاطة به من كل جوانبه الشرعية والعلمية والاجتماعية والنفسية ؛ إلا أني قررت تناوله في هذا المقال لسببين أساسيين:
الأول : ما يثيره من إشكالات اجتماعية ونفسية وشرعية تتعلق بالعديد من النواحي وخصوصاً ناحية النسب وبنية الأسرة؛ فمسألة الأنساب مثلاً لم تترك لأحكام البشر لاختلافها من شعب لشعب ومن مجتمع لآخر، بل نزلت بها آياتصريحة بدون أي اشتباه.
الثاني : عدم تناوله من مختصين في مقال أو كتاب ـ حسب علمي ـ بل تم تناوله بضع مرات فقط في برامج في الإعلام من أطباء لا إحاطة لهم بالجانب الشرعي والاجتماعي، وفقهاء لا علم لهم بالجانب العلمي؛ فيكون حواراًللطرشان غير مجد فلا يحاول أي منهم تفنيد أدلة الآخر أو نقضها بل مهاجمة الخصم في ذاته “مخسور” حسب الرواية الشعبية:
محاولة للتعريف :”مخسور “:
هو كلمة تطلق على حالة حمل عند امرأة، لكن جنينها توقف عن النمو لسببٍ مّا، وقد يكون هذا السبب معلوماً : صدمة نفسية (وفاة شخص عزيز) أو الشهوة أو البرد …الخ أو مجهولاً وهو الغالب. غالباً يحدث انقطاع للدورة الشهرية و ليس دائماً. ثم لسببٍ مّا يبدأ في النمو من جديد ليكمل نموه [لا يتحرك مثلاً بعمر 5 أشهر ثم بعد فترة تطول أو تقصر، يعود ليتحرك ثم ينمو] بدءاً من مرحلة توقفه ( فمثلاً إذا توقف في عمر خمسة أشهر فإنه يعود للنمو ليكمل الأربعة أشهر الباقية لتمام الحمل) ليولد كأي جنين طبيعي .
وتختلف مدة التوقف عن النمو من أشهر حتى عدة سنوات ( قد تصل إلى سبع سنوات أو أكثر).ويبرر بأنه “جره الفراش أو جرته لحصيره”. أما كيفية حدوث الظاهرة : فقد تسمع المرأة صوتاً في ركبتها أو ظهرها أو مكان آخر من جسمها، حيث يقال أنه_ أي الجنين _ (طار في ركبتها أو ظهرها أو ..) فيقولون أنه “إخْسِرْ” وأن المرأة فيها “مخسور”، وقد يتم الإسقاط ثم يليه عقم للمرأة، أو يرجع الجنين للنمو ” يصلح” كما ذكرنا حتى يولد.
كما قد يتم الحمل بجنين آخر أثناء فترة هذا “المخسور” ليولد طبيعياً ثم بعد ذلك يصلح “المخسور” لينمو ويولد بعد ذلك. ليقال أن الأخير هو الأكبر لكنه كان “مخسور”. كما أن من أغرب ما يحكى أنه قد يحدث أن تتزوج هذه المرأة (الحامل بمخسور) من رجل آخر بعد ترملها أو طلاقها، وتحمل وتلد له _ ربما عدة أطفال _ و”مخسور” لا يزال في بطنها ثم يحدث أن “يصلح” الأخير، وحين ولادته ينسب _ لا إلى الزوج الحالي _ بل إلى الزوج الأسبقالمتوفى أو المطلق.
وتطلق مجموعة من العبارات الدارجة على هذه الظاهرة) إخلك في كرش أمه _ أكبر من كدُّو…الخ)
“مخسور” من الناحية الاجتماعية
“مخسور” هي ظاهرة خاصة بالمتزوجة قبلاً فقط، فلا تحدث أبداً عند من لم تتزوج مطلقاً. وهي تحدث عند امرأة متزوجة (بوجود زوجها أو غيابه) أو كانت متزوجة (مطلقة أو أرملة) مهما مر على غياب الزوج أو طلاقه أو وفاته. وينسب الولد إليه (الزوج) في جميع الأحوال. ومن المهم القول أن هذه الظاهرة كانت تخص الطبقات العليا من المجتمع: الزوايا _لعرب _ …الخ.
أما طبقات المجتمع المضطهدة: العبيد…، فلم يكن يهم التبرير من عدمه، فيتم التغاضي عن الأمر بل ينظر للحمل من طرف السيد على أنه زيادة في الثروة، عدد العبيد.
ويجدر بالذكر أن ظاهرة “مخسور” لا توجد إلا في مجتمع البيظان (موريتانياـ الصحراء الغربية ـ جنوب المغرب ـ جنوب غرب الجزائر(تندوف وبشار) ويسمونه عندهم “النايم” أو “البارك”.
“كم من نساء وجدن أنفسهن حاملات والزوج إما غائب و إما ميت، وإحصاء الشهور ليس بإمكانه أن يمنحه الأبوة. صرحن مع ذلك – بلا حياء – بأن الجنين –الذي صور بالتأكيد في زمن الزوج ، وكم يمكنه أن ينشأ من دون هذا المشوار ؟!- نام زمناً طويلاً في بطونهن ! قبل أن يتفضل ذات يوم فيستيقظ ويواصل نموه.”
“كل اللواتي كن خائفات واللواتي كن يخشين أن يقعن في شرك الإغواء ، واللواتي كانت الرغبة في كائن آخر تعذبهن ، كن يسرعن في التأكيد -بمجرد الغياب المؤقت أو النهائي للزوج، بأن طفلاً نام في أحشائهن… ”
المعجزة تتمثل في عدم وجود من يشكك في هذه القدرة غريبة الأطوار لبعض الأجنة.
بماذا نفسر كونهن استطعن أن يحتشدن كل الرضي في بلدان يأخذ فيها الارتياب في الخطإ مكان حسن النية والحفاظ على الشرف؟.
مليكه مقدم “رواية المتمردة ” ص47
وقد توجد في المجتمعات المجاورة في السنغال و مالي، وربما انتقلت إليها أو منها بحكم الجوار.
أما في باقي أنحاء العالم فلم يرد أي ذكر لها في المراجع المختصة.
وهي خاصة بالإنسان فلم يسمع عن بقرة أو نعجة أو ناقة فيها “مخسور “.
“مخسور” من الناحية العلمية:
من الثابت علمياً أن هذه الظاهرة “مخسور” مستحيلة لعدة أسباب :
توقف نمو الجنين لا يحدث إلا في حالة وفاته، فاستمراره في النمو هو الدليل الأهم على حياته؛ بينما توقفه تماماً عن النمو هو دليل الوفاة الأكيد. أما التوقف عن النمو لفترة ثم العودة للنمو فهو مستحيل علمياً.
مدة الحمل الطبيعي- تحسب من أول يوم لآخر طمث (دورة) – هي 40 أسبوعاً أو 280 يوماً (تسعة أشهر شمسية وعشر أيام)، واستمراره أكثر من ذلك أمر نادر.
وقد تصل فترة الحمل حتى 300 يوماً [44 أسبوعاً] ويسمى الحمل المديد. أما أكثر من ذلك فلا يمكن للجنين أن يعيش. و نسبة الوفيات في حال امتد الحمل أكثر من 44 أسبوعاً تصل إلى نسب كبيرة. (حسب المراجع الطبية).
تحدث الولادة بسبب تقلص الرحم الكامل لطرد كل ما بداخله (الجنين وملحقاته [المشيمة والحبل السري])، لذا من المستحيل أن تتم ولادة جنين بتمام مدة الحمل وبقاء جنين آخر لفترة تزيد عن ساعات كما في التوائم .
أهم سبب لحدوث المخاض هو شيخوخة المشيمة ( الخلايا المشيمية) حيث تبدأ في فقدان القدرة على الاستمرار في تغذية الجنين بعد العمر الوسطي المحدد لها (40 أسبوعاً). كما لكثير من الخلايا عمرها المحدد (فمثلاً للكريات الدموية الحمراء عمرها الوسطي الذي يصل إلى 120 يومأ).
كما تفقد الخلايا المشيمية قدرتها على إفراز السائل الأمينوسي مما يسبب نقصاً حاداً فيه بعد الأسبوع 42 ليصل إلى 450 مليلتر وفي الأسبوع 44 إلى 250 مليلتر، مما يسبب انضغاط الحبل السري وبالتالي وفاة الجنين بسبب انقطاع التروية عنه (الاختناق.
“مخسور” و المبرر الشرعي عند الشناقطة.
الرواية المنسوبة لعلي بن أبي طالب:
يستند المبرر الشرعي حسب ما يحكى على رواية وحيدة عن أنه في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ظهر الحمل على امرأة بعد زمن (عدة سنوات) من وفاة زوجها، فأراد عمر رضي الله عنه تطبيق الحد عليها؛ لكن علياًّ بن أبي طالب رضي الله عنه _ حسب الرواية _ منعه بحجة أن الولد قد “جره الفراش” وقد اقتنع عمر كما يقال بهذا المبرر هو وغيره من الصحابة .
مناقشة المبرر الشرعي والرد عليه:
ترد هذه الرواية دون سند موثوق، وبدون دليل، عدا عن كونها لم ترد في الكتب الفقهية المختلفة، وهي بالتالي محض افتراء لتناقضها مع صريح الآيات الكريمة(آيات العدة)، وحسب المقولة الفقهية (لا اجتهاد فيما فيه نص).. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يجتهد الإمام علي رضي الله عنه فيما فيه نص؟!!! لأن من هو في علم الإمام علي رضي الله عنه لن يقوم بهذا العمل (الاجتهاد فيما فيه نص صريح). بل كيف اقتنع عمر رضي الله عنه ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم؟!!.. فالرواية مفتراة عليه كرم الله وجهه. فكما أنه قد افتريت الأحاديث الموضوعة على النبي الكريم صلعم فمن باب أحرى بقية صحابته .
ولعل الكثيرين يغفلون عما يترتب على تصديق هذه الرواية من أمور تتعلق بصحة اعتقادهم وإيمانهم. ومن أهمها:
“مخسور” وآيات العدة
نظم الله عز وجل العديد من أمور حياة البشر في كتابه العزيز، ومن ضمنها عدة المرأة بل فصل فيها بأن حدد لكل حالة عدة:
عدة المطلقة ثلاثة قروء البقرة [الآية 228 ]
عدة الأرملة أربعة أشهر وعشرة أيام البقرة [الآية 234]
عدة اليائس من المحيض والتي لم تحض ثلاثة أشهر الطلاق [الآية4 ]
عدة الحامل الوضع أو الولادة
وقال جل وعلى) واولت الأحمال اجلهن أن يضعن حملهن( الطلاق [الآية 4] مع تقييد مدة الحمل وحمله وفصاله ثلاثون شهراً الأحقاف [الآية 14 ]
)ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في ارحامهن(
هذه الآيات يلاحظ أنها كانت صارمة في تحديد العدة بالأشهر بل حتى الأيام فكأنها إنما أنزلت اتقاء حدوث مثل هذه الافتراءات على الله. ولذا فالتصديق بهذه القصة الملفقة يلغي الإيمان بكل الآيات التي سبقت.
“مخسور” واختلاط الأنساب وحقوق الورثة:
لقد حرم الله تبارك وتعالى تعدد الأزواج وحدد مدة الحمل؛ كما حدد مدة لاستبراء رحم المرأة من الحمل(العدة)بنص الآيات الصريح؛ بل حرم نسبة الولد لغير أبيه، وذلك في إطار تنظيمه لحياة عباده. ولم يترك المسألة لاجتهادات البشر وأحكامهم خوفاً من اختلاط الأنساب،لما يترتب عليه من حقوق وواجبات للبشر وعليهم.
و”مخسور”_ كما سبق ورأينا_ قد ينسب إلى الزوج السابق بل حتى الزوج الأسبق مهما مر من زمن على فراقه لهذه المرأة لطلاق أو وفاة. فأي اختلاط للأنساب ينجم عن ذلك!!!!!!!؟.
وتأتي التساؤلات التالية لتطرح نفسها:
إذ كيف تتزوج الحامل (لمخسرَ) وهي لا تزال في العدة حسب نص الآية4 من سورة الطلاق؟ ، ويبدو أن ذلك غير محرم فمخسور لا يمنع، ولا مانع من الزواج بدليل حدوث ذلك النوع من الزواج في كثير من الحالات، فالحالة خاصة جداًّ .
أما في ما يخص التركة فكما نعلم يجب أن يوقف تقسيمها إن ثبت وجود حمل حتى ولادة الجنين ثم تقسم التركة. فإن وجد حمل “مخسور” فما العمل؟ لاشيء. وهذه مشكلة فيما يبدو أغفلت قصداً أو سهواً .
مقولة التحايل ومقولة الستر :
يعتقد البعض أنه لم يكن بمقدور المجتمع الديني تطبيق الحدود الشرعية، لذا قرر التحايل عليها بالرواية السابقة/وكمثال للتحايل لدينا قصة التيمم المنتشرة في كل البلاد وتبريراتها المختلفة والتي فندها وثار ضدها الكثير من العلماء الشناقطة/.
وربما وضعت هذه الرواية _حسب اعتقاد البعض _ لتبرير الظاهرة وتجسيداً للمقولات التي تطالب بستر عورات المؤمن وعدم فإثارة الفضائح: ( سترةْ المؤمن واجبه) و(من ستر مؤمناً ستره الله يوم القيامة).
لكن الآيات تحرم كتمان الشهادة وعدم تطبيق حدود الله مهما كانت الأسباب: الحديث لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
ظاهرة السّرِيْ :الحرة لا تسري …)
يغير ينسرا لها
كانت تنتشر في المجتمع البدوي الكثير من الظواهر الغريبة عن صلب الدين ومنها على سبيل المثال لا الحصر (سكين النفساء [قطعة حديد] لحمايتها من الجن _ تلطيخ وجهها بالحمّيره بعد الولادة ….الخ) وهي عادات وثنية لا تمتّ للإسلام بصلة، ولا تزال منتشرة حتى يومنا هذا.
ومن أغرب هذه الظواهر في هذا المجتمع الإسلامي ظاهرة السَّرِي :وهي قدوم الرجل بشكل سري إلى المرأة ليلاً في خيمتها بعد أن ينام جميع من في الحي وعادة ما يتغاضى من معها(أمها أو أختها أو خادمتها…الخ) _ إن وجد _ عن وجود هذا الساري؛هذا إن لم تكن بمفردها، ويحدث ما يحدث بينهما.
وكثيراً ما كان السري يحدث خاصة في حال غياب الزوج (الوفاة_السفر [ارفكه _ إديارَ..]). وقد تكون هذه الظاهرة هي السبب في كثير من حالات الحمل السفاح التي تصنف فيما بعد بكونها “مخسور”.
وهذه الظاهرة كانت ولا تزال منتشرة في بلادنا بشكل مثير للعجب، بل زادت مع انتشار الانحلال و الفساد الأخلاقي والتسيب في المجتمع الريفي خاصة .
خـــلاصـة:
مما سبق نستنتج أن الظاهرة “مخسور” هي مجرد أسطورة؛ مستحيلة علميا، ولا مبرر شرعيَّ لها بل تناقض نص الآيات الصريح. فهي إذن مجرد تبرير لحالات العهر والدعارة المقنعة التي كانت تنتشر في المجتمع عبر الحالات التي سبق ذكرها .